بدأ تنظيم “داعش” تصعيد عملياته في مختلف ولاياته في ظل أزمة “كورونا”. وقد شهد كلٌّ من العراق وسوريا ونيجيريا كثافةً في نشاط “داعش”، كما لوحظت صحوته في وسط إفريقيا، وقيامه بعمليةٍ هي الأولى من نوعها في جزر المالديف. كل تلك التطورات تُشير إلى صحوةٍ جديدةٍ للتنظيم، سواء في معاقل نفوذه الرئيسية أو ساحات تمدده البديلة.
هذا المقال، يحاول استعراض ملامح تصاعد النشاط الداعشي، والتعرف على استراتيجية “داعش” الحالية، والوقوف على محفزات النشاط الداعشي المتزايد.
ملامح تصاعد نشاط “داعش”
عزّز “داعش” من عملياته في مناطق نفوذه التقليدي، وامتد نشاطه إلى ساحاتٍ أخرى جديدةٍ. ويمكن الوقوف على أبرز ملامح تصاعد نشاط التنظيم في النقاط التالية:
1- المعاقل الرئيسية: على الرغم من إعلان العراق في ديسمبر 2017 هزيمة تنظيم “داعش”، والقضاء على مناطق نفوذه الرئيسية؛ إلا أن معدل نشاط التنظيم في الوقت الحالي يُنذر بغير ذلك؛ فقد تصاعدت وتيرة العمليات الإرهابية التي نفذها التنظيم منذ بداية عام 2020 وحتى إبريل الماضي. فقد شهد العراق خلال شهر إبريل حوالي 149 عمليةً إرهابيةً تبنّاها التنظيم. وتركزت معظم عملياته في الأشهر الأخيرة في محافظات “صلاح الدين” شمالًا، وديالى شرقًا، وكركوك والأنبار ونينوى شمال غربي العاصمة. ما يعني أن التنظيم يُشكل قوسًا يعبر شرق العراق وشماله. كما نجح التنظيم في مهاجمة أهدافٍ استراتيجيةٍ؛ حيث استهدف مواقع للجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي باستخدام أسلحةٍ وذخيرةٍ كثيفةٍ.
وفي السياق ذاته، لم يختلف وضع سوريا كثيرًا عن مثيله في العراق؛ إذ شهدت الأولى في شهر إبريل ما يقرب من 55 عمليةً إرهابيةً، مقابل حوالي 44 عمليةً إرهابيةً تبنّاها التنظيم خلال شهر مارس. وقد تركزت تلك العمليات في مناطق دير الزور، والحسكة، ودرعا، والرقة، وحمص. واستهدف التنظيم قوات الجيش السوري، وقوات قسد الديمقراطية، والميليشيات الإيرانية. وتنوعت تكتيكاته بين نصب الكمائن، وتفجير العبوات الناسفة، وتصفية الأشخاص.
وتُشير تلك المعطيات إلى تصاعد وتيرة عمليات التنظيم في معاقله الرئيسية، حيث اتّبع سياسة “الكمون الاستراتيجي” في مراحل تراجعه، والتي نجح من خلالها في إعادة تشكيل قدراته وتكتيكاته بأساليب تتماشى مع طبيعة المرحلة الحالية. ناهيك عن احتفاظه بخلايا نائمة عَمِلَ على توظيفها في الآونة الأخيرة تمهيدًا لتصعيد وتيرة عملياته الإرهابية في مناطق نفوذه التقليدية، سواء في سوريا أو العراق.
2- الساحات البديلة: سعى “داعش” إلى إيجاد ساحاتٍ بديلةٍ لنفوذه بعد فقدانه السيطرة على معاقله الرئيسية؛ ولذلك كان الانتقال الاستراتيجي للتنظيم إلى منطقتي آسيا وغرب إفريقيا (منطقة الساحل والصحراء على وجه الخصوص)، لما يتوافر في كل منهما من عوامل محفزةٍ للإرهاب والتطرف؛ حيث الصراعات الطائفية، والانقسامات العرقية، والتباينات الدينية.
وبالنظر إلى نشاط التنظيم في تلك المناطق مؤخرًا، نجد تصاعد وتيرة النشاط الإرهابي؛ ففي الساحة الإفريقية عزّز التنظيم من نشاطه من خلال “ولاية غرب إفريقيا”، و”ولاية وسط إفريقيا”. إذ نجحت الأولى في الأسابيع الأخيرة في استهداف عدد من الدول الواقعة في محيط بحيرة تشاد كنيجيريا، وتشاد، والنيجر. غير أن الأولى شهدت كثافة النشاط الإرهابي، حيث شنت “ولاية غرب إفريقيا” عددًا من العمليات المتلاحقة لاستهداف الجيش النيجيري في ولايتي “بورنو” و”يوبا” في شمال شرق البلاد. وتنوعت التكتيكات بين الهجوم على معسكرات الجيش، وإطلاق قذائف هاون، وتفجير عبواتٍ ناسفةٍ.
ويعد الهدف الرئيسي للتنظيم في منطقة غرب إفريقيا هو إنشاء “دولة” تتشكل بين ولايتي “بورنو” و”يوبا”. ومن أجل ذلك الهدف، يعمل التنظيم على تعزيز نفوذه، سواء بالعمليات الإرهابية أو التجنيد. وتجدر الإشارة إلى أن هناك عمليات تطهير داخلية في صفوف قياديي “ولاية غرب إفريقيا“، وذلك في سياق الصراعات الدائرة منذ فترةٍ طويلةٍ. وعلى الرغم من ذلك، فإن عمليات “ولاية غرب إفريقيا” لا تزال مستمرةً بقوةٍ متزايدةٍ.
وفي السياق ذاته، نجحت “ولاية وسط إفريقيا” عبر الإرهاب المحلي المتمثل في جماعة “أهل السنة والجماعة” في موزمبيق من ناحية، وجماعة “القوى الديمقراطية المتحدة” في “الكونغو” من ناحيةٍ أخرى، في تصعيد حدة العمليات الإرهابية عبر استهداف قوات الجيش في الدولتين سالفتي الذكر، ما يُشير إلى سعي التنظيم إلى إثبات أن “ولاية وسط إفريقيا” منطقةٌ جديدةٌ لنشاطه، وذلك في إطار الاتساق مع استراتيجيته القائمة على إثبات الوجود والنفوذ.
وباستعراض نشاط التنظيم على الساحة الآسيوية، نجد أن صحوة “ولاية خراسان” مستمرةٌ بعد بضعة أشهرٍ من التراجع؛ فعلى الرغم من إعلان المخابرات الأفغانية، في أول إبريل الماضي، إلقاءها القبض على “عبدالله أوركزاي” (أمير ولاية خراسان)؛ إلا أن التنظيم مستمرٌ في نشاطه وتوجيه ضرباته إلى القوات الأفغانية، وعناصر حركة طالبان والقوات الأمريكية. ويأتي هذا التكيف في إطار ما يتمتع به ذلك الفرع من قدرةٍ على الصمود بسبب استراتيجيته المرنة؛ حيث نجح في البقاء والحفاظ على بنيته الهيكلية على الرغم من اغتيال عددٍ من قادته، كان آخرهم “خوسمان أبو سيد أوركازي” (الذي قُتل في أغسطس 2018).
3- مناطق نفوذ جديدة: بدأ “داعش” في البحث عن موطئ قدمٍ جديدٍ في جزر المالديف؛ حيث أعلن التنظيم في 15 إبريل 2020 -للمرة الأولى- مسئوليته عن إحراق خمسة قوارب مملوكة لشرطة المالديف وشخصياتٍ رفيعةٍ من الحزب الحاكم. وقبل شهرين -في 6 فبراير 2020- نفذت عناصر موالية للتنظيم عملية طعن استهدفت ثلاثة سياح، بيد أن التنظيم لم يعلن مسئوليته عن تلك العملية في أي بيانٍ له.
وقد قدرت مراكز بحثية عدد العناصر الإرهابية التي انضمت إلى “داعش” من المالديف بحوالي 200 فرد. وتجدر الإشارة إلى تضرر السياحة التي يعتمد عليها اقتصاد المالديف بسبب فيروس “كورونا”، ومن ثمّ يحاول التنظيم استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة لكي يضمن لنفسه موطئ قدمٍ في المنطقة.
استراتيجية “داعش” الجديدة
سعى “داعش” إلى اتباع استراتيجيةٍ جديدةٍ في المرحلة الحالية، فيما يلي أبرز ملامحها:
1- الاستنفار المستمر: وذلك بهدف استنفار قوات الأمن في كل وقتٍ ومكانٍ عن طريق الضغط عليها بعملياتٍ متعددةٍ مهما كانت بسيطة. وتعتمد تلك الاستراتيجية على تكتيك “حروب العصابات”، حيث الاعتماد على مجموعاتٍ صغيرةٍ يتراوح أعدادها بين 3 – 10 أفراد، تتنوع عملياتهم بين إطلاق نارٍ وقنصٍ، وزرع عبواتٍ ناسفةٍ، ومهاجمة واستهداف كمائن، والهجوم على مواقعٍ ومجمعاتٍ عسكريةٍ بهجماتٍ انتحاريةٍ، في محاولةٍ لاستنزاف الجيوش عن طريق تحقيق أكبر قدرٍ من الخسائر في صفوفها، سعيًا لإضعاف الروح المعنوية للعناصر الأمنية المقاتلة.
2- الإرهاب المحلي: يُعوّل التنظيم في المرحلة الحالية على الإرهاب المحلي، ويقصد به الاعتماد على جماعاتٍ إرهابيةٍ محليةٍ مشكلةٍ وناشطةٍ تقوم بمبايعة التنظيم العالمي وتنسب نفسها إليه، مقابل تلقيها الدعم المالي والبشري واللوجستي، مع تمتعها بقدرٍ من الاستقلالية. وبالتالي يتمكن التنظيم من توسيع مساحات نشاطه وإعادة تموضعه الجغرافي في مناطقٍ متعددةٍ دون الحاجة إلى السيطرة على الأرض. وقد بدأ التنظيم في توظيف تلك الاستراتيجية في الساحتين الآسيوية والإفريقية.
3- الصراع بدلًا من التعايش المشترك: أثناء حقبة “البغدادي” (القائد السابق لتنظيم “داعش”)، كانت السمة الرئيسية للعلاقة بين تنظيمي “داعش” و”القاعدة” في منطقة الساحل هي “التعايش المشترك”؛ ففي حين يُركز تنظيم “داعش الصحراء الكبرى” على شرق مالي، وشرق بوركينافاسو، وغرب النيجر، تُركز جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” التابعة “للقاعدة” في المقابل على غربِ مالي، وشمال بوركينافاسو. الأمر الذي عزّز من نشاطهما، وسهّل تقاسم النفوذ الجغرافي، ومنحهما مساحاتٍ للتمدد دون خسائر.
لكن مع وصول “أبو إبراهيم الهاشمي القرشي” (القائد الجديد لداعش) تغيّرت استراتيجية “التعايش المشترك”، وأصبح تنظيم “داعش الصحراء الكبرى” أكثر نشاطًا في الأشهر الأخيرة، مستهدفًا التمدد في المعاقل التقليدية لتنظيم “القاعدة”، الذي يقف أمام مواجهةٍ حتميةٍ مع “داعش”. وقد بدأت إرهاصات هذه المواجهة مع القتال العنيف الذي وقع بينهما في مالي في منتصف مارس الماضي، وتجدد في منتصف إبريل في واحدة من أكثر المعارك دمويةً؛ حيث أسفرت تلك المعارك عن مقتل أكثر من 60 إرهابيًّا من الطرفين.
4- كسب الحاضنة الشعبية: على الرغم من استهداف “داعش” -إبان فترة خلافته المزعومة- ترويع المدنيين، وقتلهم، والمساس بممتلكاتهم الخاصة، تحولت استراتيجيته في الفترة الحالية إلى تركيز الهجمات على القوات النظامية، والمباني الحكومية دون المساس بالمدنيين. إذ تركزت الاستراتيجية الجديدة له على كسب حاضنةٍ شعبيةٍ من أجل إيجاد موطئ قدمٍ في المجتمعات المحليات التي يسعى إلى إحياء نشاطه فيها مرةً أخرى أو التمدد بها باعتبارها ساحاتٍ جديدة لنشاطه. وقد برز هذا التوجه في معظم ولايات التنظيم، لا سيما في “ولاية وسط إفريقيا”. فبعد الهجمات التي تبنّاها “داعش” على البلدتين الواقعتين في مقاطعة “كابو ديلغادو” شمال موزمبيق، حرصت العناصر التابعة للتنظيم على توزيع الطعام والسلع المنهوبة على سكان المدينتين بعد تأمين احتياجاتهم من المواد الغذائية والأسلحة قبل مغادرتها.
مُلاحظات مُهمة
بناءً على ما تقدم، يمكن استخلاص جملةٍ من الملاحظات المهمة يمكن إجمالها فيما يلي:
الملاحظة الأولى، تتعلق بزعيم التنظيم الجديد؛ ففي نهاية أكتوبر 2019 أعلن “داعش” تَوَلِّي “أبي إبراهيم الهاشمي القرشي” خلفًا لزعيمه السابق “أبي بكر البغدادي”. وعلى الرغم من التوجه الجديد للتنظيم، وإعلانه عن مرحلةٍ جديدةٍ من الإرهاب، إلا أن هناك حالةً من الغموض تحيط بالمدعو “أبي إبراهيم الهاشمي القرشي”، والتي يمكن تفسيرها في ضوء ثلاثة عوامل. أولها، أن الغموض المحيط به هو أمرٌ طبيعيٌ لحمايته من أي هجومٍ أو استهدافٍ. ثانيها، التأكيد على أن “داعش” كتنظيمٍ قائم على فكرة وليس على أشخاص. ثالثها، أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل عن قادة “داعش” سبق استخدامه من قبل التنظيم سلفًا، حين عُيّن “أبو حمزة المهاجر” وزيرًا للحرب في عهد “البغدادي”؛ وكُشف عن اسمه لاحقًا. وتجدر الإشارة إلى تواتر معلوماتٍ استخباراتيةٍ عراقيةٍ، تؤكد وجود “القرشي” في العراق مع قيادات الصف الأول للتنظيم، وهو ما يمكنه تفسير تصاعد حدة العمليات بالساحة العراقية. ورغم الجهود العراقية لاعتقال قيادات وكوادر التنظيم كما أعلن مؤخرًا عن اعتقال “حج ناصر” كواحد من الكوادر التي كانت قريبة من “البغدادي”، فإن تلك الجهود لم تحد من تأثير عمليات التنظيم في العراق.
الملاحظة الثانية، ترتبط بالملاحظة السابقة، وتأتي في سياق قدرة تنظيم “داعش” على تجاوز هزائمه؛ إذ إن العمليات التي نفذها خلال الشهور الأخيرة تعكس استعادة بعض قدراته في مجالات التمويل، والدعم اللوجستي، والتخطيط. فالتنظيم في إطار تعامله مع خسائره ينطلق من قناعة مفادها “أنها معركة وليست حربًا”، إذ يصف تراجعه باعتباره مرحلة مؤقتة في الطريق الطويل للنصر. وقد كشفت التطورات الميدانية عن سرعة تكيّف التنظيم، وتأقلمه مع الإجراءات التي تتخذها الدول ضده، ما يشير إلى تمتعه بالمرونة والديناميكية على الصعيدين العملياتي والتكتيكي.
الملاحظة الثالثة، تنصرف إلى ضغط فيروس “كورونا” على القوات الأمنية؛ حيث انشغلت الجيوش المحلية بتطبيق حالة الطوارئ الصحية، وإغلاق المدن، وفرض حظر التجول، الأمر الذي استغله تنظيم “داعش” لصالحه عبر تكثيف هجماته. على صعيدٍ آخر، أدت الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها دول منطقة الساحل لمواجهة فيروس “كورونا” هي الأخرى إلى تحجيم الحرب على الإرهاب؛ فإغلاق الحدود بين موريتانيا ومالي، على سبيل المثال، تسبب في توقف دوريات القوة العسكرية المشتركة لدول الساحل الخمس على الحدود لملاحقة الإرهابيين. كما قلصت القوات الفرنسية الموجودة في الساحل من نشاطها منذ إصابة بعض جنودها بـفيروس “كورونا”. أما الأمم المتحدة -التي تنشر أكثر من 15 ألف جندي في شمال مالي لحفظ السلام- فقد أوقفت العديد من عملياتها بسبب الفيروس، وبالتالي كل ذلك يساهم في تعزيز نفوذ ونشاط التنظيم.
الملاحظة الرابعة، تتمثل في استمرار محفزات التطرف والإرهاب؛ فهناك مجموعة من العوامل تُعزز من نشاط “داعش”، يأتي في مقدمتها وجود حكوماتٍ هشةٍ ذات مؤسسات حكمٍ ضعيفةٍ تُشكل ملاذًا للجماعات الإرهابية، ناهيك عن استمرار الانقسام السياسي، والمظالم الطائفية، والاقتصادية، وانتشار الفوضى. إذ يمثل ذلك في مجمله بيئةً خصبةً لنشاط التنظيم وتمدده.
مجمل القول، صعّد “داعش” عملياته في الفترة الأخيرة على ساحاتٍ عدةٍ، في محاولةٍ لإحياء الخلافة المزعومة. وتُعد قدرته على استغلال نقاط الضعف في المجتمعات -بجانب بؤر التوتر السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فضلًا عن قدرته على التكيف السريع مع المتغيرات، وسرعة تعلمه من خبراته السابقة- أحد مقومات استمرار نشاطه. إذ يحاول التنظيم دائمًا تغيير تكتيكاته واستراتيجياته للتناسب مع فترات تمدده والتكيف مع مراحل انحساره. لذلك من الضروري استدامة الجهود والتحليلات الاستخبارية للتعرف على مراحل تطور التنظيم المستمر، والوقوف على تكتيكاته الجديدة.