فى اللقاء الذى طال انتظاره فيما بين الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ونظيره التركى رجب أردوغان، وعُقد الخميس الماضى بموسكو، بدا وكأن ساعات وأيام الانتظار قد استُخدمت كسلاح مضاد، فالمشهد على الأرض كان ضاغطاً على الجانب التركى على نحو كبير ومعقد للغاية. فى المقابل كانت روسيا صانعة لتلك الإطالة، حتى تتمكن من صياغة أوضاع جديدة على الأقل فى خطوط التماس، يمكن من خلالها تفريغ الطلبات التركية من مضمونها، أو تقليص قدرة التبديل والتعديل عليها إلى أقل مدى ممكن. فلم يكن مقبولاً «بداهة» أن يخرج اللقاء الرئاسى المشترك من دون أن يتم الإعلان عن وقف لإطلاق النار، حتى وإن ظل صورياً، أو أن تخرج كلمات الرئيسين فى مؤتمرهما الصحفى حمّالة لكثير من الأوجه، ومعبّرة بصورة أكثر جلاء عن حجم الخلافات العميقة بينهما ومواقفهما المتباعدة.
التباعد الذى لم يدركه أردوغان مبكراً، أو ربما داهمه دون حسابات مسبقة، أن موسكو دفعت فى اتجاه «معركة إدلب» باعتبارها ستمثل متغيراً استراتيجياً كبيراً فى مسار الأزمة فى سوريا، باعتبارها المعركة التى يمكنها فرض خريطة سياسية وعسكرية جديدة. وقد بدت ملامح التحرك الروسى منذ اللحظات الأولى لهذا التحرك العسكرى متجاوزاً لموقع اعتبار النظام السورى حليفاً يجرى دعمه، بل تابع عليه أن يقوم بتنفيذ الإملاءات القادمة من الكرملين فى الظلال، منها أنه خلال تلك المعركة يجرى سداد بعض من الفواتير الروسية القديمة، التى أثمنها الحفاظ على حياة النظام حتى اللحظة، فالمتأمل لمجمل المشهد السورى يجد هناك العديد من الملفات القابعة دون حل، ربما أسهل نسبياً للنظام الانخراط فيها، أو أسرع، فيما يمكن حصد نتائجها بدلاً من الدخول مع أنقرة فى معادلة لقلب المائدة، على حدود «اتفاق سوتشى» الموقع عليه من قبَل الرئيس بوتين ونظيره التركى أردوغان فى سبتمبر 2018، الذى قضى حينها بإقامة منطقة «منزوعة السلاح» فى محافظة إدلب والريف الشمالى لمحافظة حماة، استناداً إلى ترتيبات «عملية أستانا»، على طول خطوط التماس بعمق 15- 20 كيلومتراً.
النظام التركى يراهن على دعم عملى من «حلف الناتو»، حتى الآن ما زال الموقف الأمريكى يراوح قرار السماح به، ويقيده فى حدود الدعم الإعلامى المقدم لتركيا بصورة غير مباشرة، من خلال التركيز على تفاقم أزمات اللاجئين والنازحين وبعض من الإدانات المجانية لقوات الجيش السورى، فى الوقت الذى ترى فيه أنقرة أنه حال حصولها على دعم سريع من «الناتو» سيعزز ذلك من موقفها العسكرى أمام روسيا، فهى تدرك تماماً أن موسكو أطلقت رصاصة الرحمة على مسار أستانا، بدعمها للهجوم الواسع الذى شنّه الجيش السورى، بل وشاركت بعشرات الطلعات الجوية المؤثرة معه، مما مكّن النظام من تنفيذ عملية قضم تدريجى وتنظيف واسترداد للمناطق التى كانت تسيطر عليها الفصائل المسلحة للمعارضة. هذا الحشر فى الزاوية الذى سبق لقاء الرئيسين الروسى والتركى هو الذى دفع أردوغان إلى الشعور الداهم بتعرض أمن تركيا القومى لخطر كبير، ليعاود إطلاق ما سبق لتركيا أن أعلنته مراراً من أن إدلب خط أحمر حقيقى، فموجات جديدة للاجئين السوريين من غير الخاضعين للنفوذ التركى فى تحريكهم، يمثلون خطراً داهماً لا يمكن لأنقرة استيعابه أو العمل تحت سطوة تداعياته التى لم يرتب لها. هذا أدخل أنقرة ومن دون حياء فى فصل جديد من استخدام سلاح الابتزاز للجانب الأوروبى، فهى بالفعل تقف فى زاوية فقدت معها كافة أوراق اللعب التى توافرت سابقاً لها، ولم تذهب إلى تدعيمها فى الوقت الذى انشغلت فيه بالمناكفة مع الجانب الأمريكى.
بعد لقاء الرئيسين خرج أردوغان ليؤكد، دون مواربة، أننا: «نحتفظ بحقنا فى تطهير محيط منطقة عملية (درع الربيع) بطريقتنا الخاصة، حال عدم الالتزام بالوعود المقدمة لنا»، من غير أن يصرح أى من الجانب الروسى أو التركى عن ماهية تلك الوعود، فالاتفاق، وفق المعلن على الأقل، ينص على وقف جميع الأعمال القتالية على طول خط التماس فى منطقة التصعيد بـ«إدلب»، على أن يسرى ذلك بداية من منتصف ليل الخميس الماضى. كما جرى اعتماد إنشاء «ممر آمن» بالتعاون بين وزارتَى دفاع البلدين بعمق 6 كيلومترات شمال و6 كيلومترات جنوب الطريق الدولى «حلب- اللاذقية»، على أن يجرى خلال 7 أيام تحديد التفاصيل المتعلقة بهذا الممر. واتفق أيضاً على تسيير «دوريات مشتركة» روسية تركية، على الطريق الدولى حلب – اللاذقية، بدءاً من 15 مارس، من مدينة طرنبة غرب سراقب وحتى منطقة عين الحور. خرج ذلك بعد 6 ساعات كاملة من المفاوضات بين الرئيسين، وكلاهما تجاهل الخوض أو التصريح فيما يعتزمه النظام السورى، بتوجيه ودعم كامل من موسكو لضمان إغلاق سماء إدلب ومحيطها أمام «الجهد الجوى» التركى، المقاتل أو المسير، علماً بأن روسيا وجهت قوات الدفاع الجوى السورى لاستخدام منظومة (S 300- V4) باعتبارها أثبتت فاعلية خلال الفترة الأخيرة، حتى بالمقارنة بالأحدث منها، حيث تتميز تلك الأخيرة بتحليق صامت يصعب اكتشافه إلى حد كبير، ولا يمكن تحديد قواعد إطلاقه أو محطات توجيهه بسهوله للخصم التركى وأعوانه.
أخيراً روسيا لديها خياران فى مرحلة ما بعد الهدنة «الافتراضية»، الأول منهما هو ترك كل شىء كما هو، والمواصلة فى اختبار قوة أردوغان لمعرفة المدى الذى سيصل إليه فى تنفيذ تهديداته. الخيار الثانى يتمثل فى طريق التسوية والتنازلات المتبادلة ما بين موسكو وأنقرة، وهذا الخيار ينتظر بوتين المضىّ فيه للوصول إلى مرحلة إنهاك وتورط تركى بأكثر مما عليه الحال الآن. حتى الآن يكتنف الغموض الصعيد الذى سيشهد التفاهمات والتنازلات ما بين الطرفين، هل فى سوريا أم فى ليبيا، أو على ضفاف شرق المتوسط الذى أرجأت أنقرة العبث بأمنه، فى الوقت الذى تدّخر فيه موسكو هذا الملف رغم أن لها فيه حديثاً، قد يطول لكنه لم يبدأ بعد.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ١٠ مارس ٢٠٢٠.