أصدر مجلس النواب الليبي القانون رقم (2) لسنة 2021، بشأن انتخاب مجلس النواب، مستكملًا القاعدة التشريعية التي ستُنظم على أساسها الانتخابات العامة المقررة 24 ديسمبر المقبل، بعد اعتماد القانون رقم (1) لسنة 2021، بشأن انتخاب رئيس الدولة (8 سبتمبر الماضي). وبينما حملت تلك الخطوة جُملةً من الدلالات والرسائل التي حرص المجلس على تضمينها خلال مشاوراته ونصوص القانون، فإنها ستكون متغيرًا نوعيًا في مسار التسوية الليبية، إما بتقريب البلاد من صناديق الانتخابات أو التعجيل بالارتداد عن إجراء الاستحقاق.
ملامح تشريعية
مثَّل القانون رقم (10) لسنة 2014، بشأن انتخاب مجلس النواب في المرحلة الانتقالية، الأساس التشريعي الذي جرى تطويره وتحديثه لوضع القانون المُنظم للانتخابات البرلمانية المُقبلة؛ إذ تم عرض نصوص القانون رقم (10) على النواب الحاضرين بالجلسة، وتم مُراجعة المُلاحظات التي قدموها وتضمينها في بعض المواد، ثم جرى التصويت على تمرير مواد القانون بصيغتها القائمة أو المُعدلة.
ويُلاحظ أن سرعة تمرير القانون الجديد مُقارنةً بقانون انتخاب الرئيس تعود لرغبة النواب في الانتهاء من التشريعات الانتخابية، والخروج من دائرة المعطلين للاستحقاق، وفقًا لما أعلنه النائب الأول لرئيس المجلس خلال الجلسات، مما قاد لتمرير القانون خلال جلستين فقط يومي (4 و5) أكتوبر الجاري، فيما امتدت جلسات وضع قانون انتخاب الرئيس عدة أسابيع. وفيما يلي يتم استعراض أبرز ملامح التشريع الجديد:
انطوى القانون على تكرار في بعض مواده، كما هو الحال بالفقرتين (4) و(5) من المادة (1) والتي تُعرف كلٌّ منهما الدائرة الانتخابية، بعد أن كانت الفقرة (4) تعرف بالدائرة الانتخابية، فيما نصّت الفقرة (5) على تعريف المركز الانتخابي، وفقًا لنصوص القانون رقم (10)، ولكن التعديلات التي أدخلها مجلس النواب قادت لتطابق الفقرتين سابقتي الذكر بالقانون الجديد.
أبقى التشريع الجديد على عدد أعضاء المجلس دون تغيير بـ(200) عضو، واعتمد القانون نظام “الغرفة الواحدة” ممثلة في مجلس النواب، بالإضافة لتخصيص (16%) من المقاعد للنساء بواقع (32) مقعدًا، متجاوزًا ما نصت عليه خارطة الطريق برفع تمثيل المرأة إلى (30%)، وربما يأتي التصويت بنتائج تحقق تلك النسبة.
اعتمد مجلس النواب التقسيم السابق للدوائر الانتخابية دون تعديلات، لتقسم ليبيا إلى (13) دائرة انتخابية تضم (75) مركزًا انتخابيًا، بالإضافة إلى إقرار التوزيع التمثيلي ذاته للمقاعد بالنسبة لكل مركز، سواء بالمقاعد العامة أو تلك المخصصة للنساء. وفي ظل التحفظات والمواقف الرافضة لنسب التمثيل، استحدث المجلس المادة (45) بالقانون، والتي تلزم مجلس النواب القادم بإعادة النظر في التمثيل النيابي للدوائر الفرعية بشكل يضمن عدالة التوزيع.
كما استحدث النواب الفقرة (9) بالمادة (6) لتحظر ترشح حاملي الجنسيات الأجنبية، ما لم يكن مأذونًا لهم بذلك. وإضافة فقرة جديدة بالمادة (20) منحت المجلس الحق في تحديد يوم انتخاب مجلس النواب، على أن يكون بعد (30) يومًا من تاريخ انتخاب رئيس الدولة. واستبدلت “الحكومة” محل “مؤسسات الدولة” بالمادة (41) لتصبح المنوطة قانونًا بتقديم كافة المساعدات والدعم المالي لتنفيذ الانتخابات.
أولويات نيابية
تُشير حزمة القوانين المعتمدة بمجلس النواب لتنظيم العملية الانتخابية إلى مجموعة من الأهداف والخطوات التي يسعى النواب لضمانتها، وفي مقدمتها حصر سلطة التشريع على المجلس، ونفي الاتهامات المرتبطة بعرقلة الانتخابات أو انحياز تشريعاته، إلى جانب ضمانة انتخاب رئيس للدولة، وعدم استحداث غرفة برلمانية ثانية تعطل العمل التشريعي، وصولًا للتأكيد على ضرورة عقد الانتخابات في موعدها. ونشير لأبرز تلك الأهداف فيما يلي:
أولًا- حصرية سلطة التشريع للمجلس: استهدف مجلس النواب الليبي التأكيد على دوره كجسم تشريعي وحيد منتخب، وقطع الطريق على محاولات مجلس الدولة للتداخل معه في هذا الاختصاص؛ إذ أنجز قانون انتخاب الرئيس وقانون انتخاب مجلس النواب دون العودة إلى الأعلى للدولة، وحتى الجولة التشاورية التي عُقدت بالمغرب مؤخرًا حول قانون انتخاب الرئيس أعقبها تمرير قانون الانتخابات البرلمانية، ما يعني تمسك النواب بسلطة التشريع الحصرية للمجلس، وأنه لا مجال لقبول تقاطع أية أطراف أخرى فيها، والتأكيد على أن التشاور مع مجلس الدولة كان مقصورًا على ملف المناصب السيادية. أضف إلى ذلك استباق مجلس النواب لأية نصوص تشريعية قد تطرحها لجنة الـ(75) لتنظيم الانتخابات، وهو ما يؤكد رغبة المجلس في تحصين اختصاصاته كما حدث بالسابق إبان عملية منح الثقة لحكومة الوحدة.
ثانيًا- نفي اتهامات العرقلة أو الانحياز: بدا واضحًا رغبة المجلس في تجاوز الوقوع بدائرة المعرقلين للانتخابات العامة، فبعد منح الثقة لحكومة الوحدة الوطنية (مارس الماضي) لم تتحقق أية اختراقات في ملف وضع القاعدة القانونية للانتخابات، ووجهت العديد من القوى انتقادات للمجلس بكونه يرغب في ربط هذه التشريعات بملفات أخرى، كالمناصب السيادية أو الميزانية. ومع تصاعد حدة الانتقادات شرع المجلس في نفي تلك الاتهامات عبر التأسيس للانتخابات تشريعيًا، وحرص على وضع نصوص قانونية -سواء بالقانون رقم (1) أو (2)- تتيح فرصة الترشح والانتخاب لكافة الليبيين دون إقصاء أو انحياز، لاستباق أية انتقادات بشخصنة القوانين أو تفصيلها لصالح مكون دون آخر.
ثالثًا- ضمانة انتخاب الرئيس للدولة: يدلل أولوية عمل المجلس على إنجاز قانون انتخاب الرئيس، ثم إقرار عقد الانتخابات البرلمانية بعد (30) يومًا من الاقتراع على رئيس الدولة، أن النواب يتمسك باختيار شخص رئيس الدولة عبر الانتخاب المباشر، وقطع الطريق أمام الدعوات أو المناورات التي قد تمارس من البرلمان القادم ضده. وهذا التحصين لعملية انتخاب الرئيس تعود بالأساس لقناعة المجلس بمحورية وجود رئيس للبلاد، وأهمية ذلك في مواجهة التيارات المستفيدة من الأزمة، كما أن هذا التأجيل سيضمن للبرلمان تعطيل انتخاب مجلس نواب جديد حال جرى تعطيل عملية انتخاب الرئيس، ليصبح دور المجلس الحالي محصنًا بقوة القانون، ويستمر في أعماله حتى انتخاب الرئيس بشكل تام.
رابعًا- عدم استحداث غرفة ثانية مُعطلة: نص القانون الجديد على أن البرلمان سيتكون من غرفة واحدة هي “مجلس النواب”، مما سيقطع الطريق على إيجاد غرفة ثانية بصلاحيات مُعطِّلة للعملية التشريعية، وهو إسقاط بالغ الارتباط بما يمثله مجلس الدولة الاستشاري بالمشهد الليبي الآن. لذلك، ذهب مجلس النواب القائم لاعتماد نظام الغرفة البرلمانية الواحدة تلافيًا للتعطيل، ورغبةً في إتاحة الفرصة للرئيس القادم لتنظيم جهوده مع كيان تشريعي موحد، يهيئ الفرصة لإنجاز متطلبات إدارة الدولة تشريعيًا، ويتجاوز حالة الانقسام التي اعتادت عليها ليبيا خلال العقد الماضي في أغلب القطاعات والمؤسسات.
خامسًا- التأكيد على ضرورة عقد الانتخابات في 24 ديسمبر: تشير الخطى البرلمانية المتسارعة نحو استكمال القاعدة القانونية للانتخابات العامة، إلى يقين مجلس النواب من أهمية إغلاق كافة المداخل المهددة بتأجيل الاستحقاق، بل وعدم إتاحة أية مجال للدعوات الرامية لتعديل توقيتات الانتخابات، لا سيما تلك التي خرجت عن الولايات المتحدة بعقد الانتخابات على جولتين تمتدان إلى سبتمبر القادم. وعليه، فإن إقرار البرلمان قانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، قبل موعد الانتخابات العامة بحوالي (70) يومًا، يقلل من فرصة تعطيل أو تأجيل الاستحقاق بدعاوى غياب التشريعات، مما يضع الأطراف الداخلية والدولية والأممية أمام مسئولية إنجاز ما أُسند إليها من أدوار، وإلا تقع هي ضمن دائرة المعرقلين للتسوية السياسية.
سيناريوهات الغد
يطرح استكمال مجلس النواب للمتطلبات التشريعية الخاصة بالعملية الانتخابية عدة سيناريوهات مُرجحة، ولا سيما في شقها المتعلق بإجراء الانتخابات في ديسمبر المقبل، وملامح الدولة الليبية ما بعد ديسمبر القادم، وهي كالتالي:
أولًا- إجراء الانتخابات وفقًا للتشريعات البرلمانية: يرتبط هذا المسار باعتماد قانوني الانتخابات (الرئاسية والبرلمانية) الصادرين عن مجلس النواب كأساس قانوني للعملية الانتخابية، وإجراء الاقتراع وفقًا لما جرى ترسيمه من ضوابط وتوقيتات، وتجاوز الاعتراضات والمواقف الرافضة لهما. وهو سيناريو مرهون بمستوى الضغط الداخلي والخارجي الموجه لعقد الانتخابات في موعدها المقرر بخارطة الطريق، وقدرة الأطراف المؤثرة بالمشهد الليبي على دفع الفرقاء نحو صناديق الاقتراع.
ثانيًا- إعادة تنظيم الاستحقاق طوعيًا: يحتمل أن تقود تجاذبات أصحاب المصالح بالداخل، وتحركات الأطراف الدولية المنخرطة بالأزمة، لدفع الفواعل الليبيين لإعادة هندسة الاستحقاق، سواء بإعادة النظر في التشريعات المقررة أو بدعوة الشخصيات الخلافية لعدم الترشح. وأول المؤشرات على ذلك، كان إعلان رئيس المجلس الرئاسي مبادرةً بهذا الشأن، كما أن لقاء وفدي مجلس الدولة ومجلس النواب الأسبوع الماضي بالمغرب مثّل خطوة في هذا المسار. ولكن غياب الحد الأدنى من التوافق، أو جمود المواقف دون أية نية لتقديم تنازلات؛ سيجعل هذا السيناريو غير مُرجح بقوة، مما يعني احتمالية الذهاب إلى السيناريو الثالث.
ثالثًا- عرقلة الانتخابات: مثّلت تصريحات قادة المجموعات المسلحة المتحالفة ضمن قوة “بركان الغضب”، المشكلة بعهد حكومة الوفاق الوطني السابقة، تمهيدًا لهذا المسار؛ حيث هددوا بـ”إغراق الصناديق في المنطقة الغربية”، أي الاتجاه لتوظيف السيطرة الميدانية بالغرب الليبي لوقف الانتخابات، مما سيضع البلاد أمام أحد احتمالين: الأول، إجراء الانتخابات الرئاسية في المنطقة الشرقية والجنوبية، وتوقفها بالمنطقة الشرقية. والثاني، عرقلة الانتخابات بشكل عام، في كافة المناطق الليبية، وفي الحالتين سيكون الارتداد عن التسوية السياسية والعودة لصراع المسلح أقرب الاحتمالات.وفي النهاية، يمكن القول إن إقرار مجلس النواب للتشريعات المُنظمة لانتخابات 24 ديسمبر يمثل فرصة هامة لإجراء الاستحقاق، والحيلولة دون تعطيله أو تأجيله، ولكنه يحمل في طياته خطر العودة بليبيا إلى المربع الصراعي الأول، حين تقف القوى المتنافسة تقليديًا شرقًا وغربًا في مواجهة سياسية-ميدانية، وهو ما ينذر بإعادة إنتاج دورات صراعية جديدة ستكون تداعياتها شديدة الخطورة على سلامة عملية التسوية، بل والدولة الليبية الموحدة بشكل عام.