أصبحت العلاقة الارتباطية بين المشروع التوسعي لتركيا في المنطقة العربية وجماعة الإخوان جلية، إذ توافرت في تركيا العوامل لتكون الملاذ الأكثر أمنًا لعناصر الإخوان الهاربين من مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013. لكن مع ذلك يصعب أن تكون تركيا مقرًّا دائمًا لتلك العناصر، سواء لأسباب داخلية أو بحكم العلاقة النفعية المؤقتة بين الطرفين، وهو ما دفع الإخوان إما للبحث عن أماكن بديلة أو الاندماج الكامل في المجتمع التركي.
نفعية متبادلة
واجهت جماعة الإخوان أزمة كبيرة في إدارة ملف عناصرها الهاربين من مصر، بفعل زيادة عددهم، فضلًا عن اتجاه جناح “الحرس القطبي” للعنف الممنهج، بما ضاعف الأعداد والأزمات المتلاحقة للجماعة في الدول التي يتواجدون فيها، واتجاه بعضها لتسليم بعض الشباب إلى مصر لتورطهم في العنف، إلا أن تركيا مثّلت مركزًا كبيرًا للإيواء، لا سيما منذ تصاعد الضغوط العربية لمقاطعة قطر منذ يونيو 2017، حيث أصبحت أنقرة الملاذ الأول لهم.
ويتمثل هدف الإخوان الآن في تركيا -حتى لا يبدو مصيرهم مرتبطًا بمصير “أردوغان”- هو تحويل عملية الأسلمة التي ينتهجها نظامه إلى عمل لا يمكن النكوص عنه، وتدعيم التحول لسلطنة إسلامية دائمة قابلة لتكون محضنًا لهم يقيهم غوائل ما يتعرضون له من نكبات، فالوضع الذي تشكل أخيرًا في تركيا يتوافق مع رغبات الإسلام السياسي، كتيار يوظف الازدواجية في علاقة الدولة بالإسلام محققًا أرباحًا ليست بالقليلة.
ترى القيادة التركية أن تنظيم الإخوان من أدوات السعي للهيمنة على الدول العربية، وهو ما لا تخفيه أنقرة، فمستشار أردوغان، ياسين أقطاي، قال علنًا: “إن إسقاط الخلافة تسبب في فراغ سياسي في المنطقة، وقد سعى تنظيم الإخوان لأن يكون ممثلًا سياسيًّا في العالم نيابة عن الأمة، وهي تمثل اليوم ذراعًا للقوة الناعمة لتركيا في العالم العربي، فهذه الجماعة ترحب بالدور التركي في المنطقة، وهم بالتالي ينظرون إلى دورنا على أنه النائب للخلافة الإسلامية التي تم إسقاطها سابقًا”.
من جهة أخرى رأى الإخوان تركيا ملاذًا آمنًا وداعمًا ماليًّا وسياسيًّا قويًّا لهم في الشرق الأوسط والعالم، فكلاهما يستفيد من الآخر، فأردوغان يستخدمهم كقوة ناعمة، وهم يحظون بالإقامة والحماية. وحين ظهرت الانشقاقات والأجنحة الإخوانية بتركيا، حاول التنظيم إبراز نفسه في صورة الجماعة المتماسكة في ظل الضغوطات والأزمات المتواصلة، وكانت المؤتمرات هي الوسيلة المفضلة له لتسويق ذلك، وعلى الجانب الآخر كان “أردوغان” يرى في مثل هذه المؤتمرات التي كان يحضرها مستشاره تسويقًا لنفسه على أنه المدير والمحرك لكل الجماعة لكي يناور بها الغرب والشرق معًا.
إن اتخاذ تركيا كملاذٍ لم يتعد كونه مؤقتًا رغم ضخامة الدعم والإيواء، وذلك نظرًا لعوامل أهمها: حالة الرفض من بعض الفئات والأحزاب السياسية والشعبية للتواجد الإخواني. ولهذا برزت تركيا كواجهة إعلامية للجماعة أكبر من كونها مكانًا يمكن للقيادات التحرك من خلاله على عدة مستويات إقليمية ودولية من أجل إعادة الجماعة للمشهد مرة أخرى.
لم تكن جماعة الإخوان من البداية تخطط لخروج هذا العدد الكبير من عناصرها، والذي سبب لها أزمة كبيرة، مما جعلها فيما بعد تتحمل أعباء توزيعهم على بعض الدول، مثل ماليزيا أو جنوب إفريقيا. لهذا، وجدت الجماعة نفسها أمام أزمة تمويل كبيرة في تحمل تكلفة إقامة وتنقلات وتهريب عناصرها من داخل مصر، لذلك تخلت عن دعم الجماعات الأخرى الهاربة، ولجأت إلى محاولات فتح مشروعات وتأسيس شركات في الدول التي يتواجد فيها أتباعها، كما يظهر في الحالة التركية.
وقد تم توجيه أغلب التمويل الذي تتلقاه جماعة الإخوان من حلفائها وتحديدًا قطر، إلى معيشة قيادات الجماعة، مما أدى لمشكلات حول تقسيم الأموال وأوضاع الهاربين، خاصة أنه لوحظ أن الجماعة تشرذمت إلى فئات داخل تركيا، أهمها فئة القيادات وأبنائهم الذين يتقاضون أجورًا كبيرة.
أماكن بديلة
هناك صعوبة في الأوضاع التركية، بعدما أصبحت مركزًا لقيادة الإخوان خارج مصر، حيث لم تعد جاذبة لعناصر الإخوان بفعل تردي الأوضاع المعيشية للشباب هناك، وعدم توفير فرص عمل لهم. كما توجد صعوبة ليسافروا إلى أوروبا، لأن القيادات مرصودة وفقًا لنشرات الإنتربول، خاصة وأن أوروبا بدأت في مراجعة أنشطة جماعة الإخوان، فضلًا عن زيادة تكلفة الإقامة والمعيشة في الدول الأوروبية التي لا يقدر عليها إلا القيادات الكبيرة في التنظيم.
أدرك الإخوان أن البقاء في تركيا ليس بديلًا مأمونًا استمراره، لذلك يتّبعون أسلوبين؛ الأول: البحث عن أماكن بديلة يوجد للجماعة بها بعض النفوذ أو الأصدقاء مثل كوريا الجنوبية، حيث انتقل إليها بعض شباب الجماعة، لوجود بعض الاستثمارات للجماعة بها تمنحهم حرية حركة نسبية، فخلال الفترة من يناير إلى مايو 2018 قدّم 276 شخصًا طلبات لجوء إلى كوريا الجنوبية، من بينهم 112 مصريًّا، وفقًا لوزارة العدل الكورية. كما توجه الإخوان إلى جنوب إفريقيا، التي توجد لهم بها استثمارات فيها أيضًا عبر ما يُسمى شركات الأوف شور، وهو تواجد كبير لجناح الجماعة من الحرس الجديد.
أما الأسلوب الثاني للإخوان، فهو العمل على الاندماج في المجتمع التركي، والتسابق للحصول على الجنسية التركية، خوفًا من الترحيل مستقبلًا، أو خوفًا من حدوث تقارب مع النظام المصري يتم بموجبه تسليمهم. وهنا يلاحظ أن بعضهم بدأ في التأقلم على الوضع هناك، من حيث ترتيب المسكن الذي تتواجد فيه أعداد كبيرة، لتوفير النفقات، فضلًا عن العمل في بعض المحلات التجارية، إذ إن المبالغ المالية التي يحصلون عليها من الجماعة قليلة، بحسب شهادة بعضهم، على مواقع التواصل الاجتماعي. واللافت هو الاتهامات المتبادَلة بينهم حول أموال التنظيم.
إن ملاذ الإخوان المؤقت في تركيا سيستمر لفترة ليست بالقصيرة، لأنه من غير المرجح أن يتخلّى “أردوغان” عن دعمه لجماعة الإخوان، التي رهنها بالكامل للمصالح التركية، عبر تعويض إحباطات أعضاء الجماعة إثر هزائمها ونكساتها المحلية بربطهم بحلم الخلافة، ومن خدمة مشاريع محلية إلى مشروعه الخاص، وكان هذا واضحًا في خطابه أثناء الاحتفال بمرور 90 عامًا على نشأة التنظيم، حيث سعى لإقناع الشعب التركي بقبولها بالداخل تحت القيادة التركية، باعتبارها قيادة استثنائية ستقود المسلمين في نهاية المطاف، وليست مجرد قيادة تدفع أعضاء الجماعة للقيام بأعمال إرهابية من أجل استعادة سلطة محلية، بحسب زعمه.
يظل في الأخير أن العلاقة الأردوغانية-الإخوانية ليست علاقة سياسية فقط، لكنها أكبر من ذلك بكثير، إنها علاقة أيديولوجية في المقام الأول تستند على أبعاد فكرية وتنظيرية تتبعها استراتيجيات وعمل، وهذا هو الملاذ والمصير.