عالم ما قبل وباء كورونا ليس عالم ما بعد الوباء. التعرف على هذا العالم الجديد فى ظل التطورات الراهنة يبدو صعبا، ولكنه يستحق المجازفة الفكرية. المؤشرات الأولية توحى بتوقعات واستنتاجات سيكون لها دور فى كتابة تاريخ جديد للعالم المعاصر. هناك من كشف وباء كورونا ثغراته وحدوده وقدراته فى الحفاظ على الإنسان كمرتكز للحياة بكل أبعادها، وهناك من أظهر الوباء امكاناته التى تؤهله لقيادة العالم والتربع على قمته بعض الوقت، ليس لانه يمتلك تقنيات حديثة وذكاء اصطناعى قابل للاستخدام فى مجالات لا حصر لها وحسب، بل لانه وضع حماية الإنسان على قمة أولوياته.
حين أصدر المفكر الأمريكى فرانسيس فوكوياما كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” العام 1992، ومن قبل مقالته بعنوان “نهاية التاريخ” فى دورية ناشيونال انتريست الامريكية 1989، بعد انهيار الاتحاد السوفيتى نهاية ثمانينات القرن الماضى، كانت فكرته تدور حول أن منظومة الافكار الليبرالية فى السياسة والاقتصاد اثبتت قدرتها على البقاء فى مواجهة الفاشية والشيوعية والاشتراكية، لما تتسم به من ديناميكية وقدرة ذاتية على التطور على عكس منظومات الأفكار الأخرى التى ثبت فشلها وسقطت تطبيقاتها فى صورة نظم فاشية أو سلطوية واستبدادية، ولم تعد لها أية جاذبية، فى حين انطلقت موجات التحول الى النظم الديمقراطية لتثبت آنذاك أنها الأصلح، وأنها النموذج الذى لن يكون بعده نموذج للحياة والتطور الانسانى، ومن ثم فهى نهاية للتاريخ.
فى ظل أزمة كورونا تبدو فكرة جاذبية النظام الليبرالى، وما يرتبط بها من أفكار أخرى كالسلام الديمقراطى والتضامن الانسانى، وعدم كفاءة نظم الضبط الاجتماعى بالمطلق بحاجة إلى المراجعة استنادا إلى تطبيقات الدول الغربية مقارنة بالتطبيق الصينى فى مواجهة فيروس كورونا. ونشير هنا إلى ثلاث ملاحظات أوليه؛ الأولى أن نظم الصحة العامة فى البلدان الرأسمالية اثبتت أنها أقل كفاءة مقارنة بمثيلتها فى الصين حيث الدولة تسيطر تماما على منظومة الصحة العامة. والفارق هنا أن النظم الرأسمالية تعتمد على منظومة صحية تقوم على الربحية والمنافسة بين الشركات المقدمة للخدمة أو المنتجة للدواء من أجل تعزيز المكاسب على حساب صحة الانسان، ويظهر ذلك فى عدم فاعلية نظم التأمين الصحى وعدم شمولها قطاعات كبيرة من المجتمع. ونتيجة لذلك واجه كثيرون انتشار الوباء وهم غير مشمولين بأى نوع من الرعاية الصحية، ومن لا يملك أموالا كافية فليس أمامه سوى الموت فى الشارع أو على عتبة باب بيته.
التطبيق الصينى أظهر سلوكا مغايرا، فكل إمكانات الدولة الصحية والعلمية والتكنولوجية سُخرت من أجل حماية حياة الصينيين عبر تقديم خدمة صحية كفؤ، استطاعت أن تحاصر الوباء وأن تجد له علاجا فى مدى زمنى قصير، وتجتهد بحماس كبير لانتاج لقاح يحمى الناس ويحافظ على حياتهم. فى المقابل نجد تخبطا فى السلوك الأمريكى وعدم قدرة النظام الصحى العام الهش أصلا أو حتى الخاص مرتفع التكلفة فى احتواء الوباء، فضلا عن تدخلات الرئيس الأمريكى ترامب لدى كبريات الشركات الدوائية لحثهم على العمل المشترك من اجل انتاج لقاح يقى الامريكيين، بما يعكس اليأس من قدرة نظم الربحية الصحية على مواجهة مخاطر كبرى كفيروس كورونا. هكذا أثبتت فكرة الربحية عند تقديم الخدمة الصحية وهى السائدة فى الغرب أنها نموذج مناهض لمبدأ الحق فى الحياة، ما يعنى أنها ليست تطبيقا إنسانيا يصلح لأن يكون نهاية التاريخ.
الملاحظة الثانية تستند إلى ذلك البيان الشهير للرئيس الصربي الذى انتقد فيه دول الاتحاد الأوربى التى امتنعت عن تقديم الدعم والمساندة لحكومته لمواجهة وباء كورونا، معتبرا أن المبادئ التى يتغنى بها الغرب عن التضامن الإنسانى هى كلام فارغ لا يوجد إلا على الورق ولا أثر له فى الواقع، حيث امتنعت تلك الدول عند تقديم المساعدة لبلاده، ومشيرا إلى أن المساعدة ستأتى من الصين، فهى الصديق وليس دول اوربا التى يشاركها منظومة إقليمية واحدة.
موقف رئيس صربيا يفضح تماما السلوك الغربى الليبرالى فى مواجهة محنة إنسانية عامة لكل البشر، فبدلا من التضامن وتقديم المساعدة، انكفأ كل طرف على ذاته وحافظ على ما لديه من مواد طبية وأجهزة طبية من أجل شعبه، وهو ما يمثل تحديا لفكرة الوحدة الأوربية ذاتها، صحيح هناك مشاورات ومباحثات عبر الفيديو كونفرنس بين زعماء أوربيين بارزين للتنسيق فى مواجهة وباء كورونا، لكنه لا يشمل التعاون لاسيما مع دول الاتحاد الأصغر والأضعف، وهو ما يضرب فى الصميم مبادئ الوحدة الأوربية وقيم التضامن الانسانى التى يستغلها الغرب فى إظهار تفوقه القيمى على باقى العالم.
هذا الانكشاف الغربى إنسانيا يقابله سلوك صينى تضامنى بدا جليا فى إرسال أطباء ومعاونين وأجهزة إلى إيطاليا لمعاونتها لمواجهة الوباء الذى قصم ظهرها على نحو غير متوقع. والأمر فعلته الصين مع مصر حيث قدمت لها 1000 كاشف حديث للفيروس ومدونة سلوك صحية لمواجهة الوباء مستندة الى خبرة فعلية.
الملاحظة الثالثة تتعلق بدور التكنولوجيا الحديثة المصحوبة بفكرة الدولة الفاعلة والمجتمع المنضبط فى مواجهة وباء شرس وخطير يمكنه فى حالة ميوعة المواجهة أن يقضى على ملايين البشر. وهنا تبدو الدولة التى يراها الغرب مستبدة أو على الأقل مسيطرة على حركة المجتمع من خلال آليات غير ديمقراطية، أكثر فاعلية فى حالات الخطر الوجودى. ففى حالتى إسبانيا وإيطاليا وإلى حد ما بريطانيا والولايات المتحدة، فإن أسلوب المواجهة فى مرحلة احتواء الفيروس الذى يعتمد على إجراءات ذات طابع اختيارى اثبتت فشلها التام، وهى حالات رغم تقدمها الاقتصادى بوجه عام فقد ثبت أن انظمتها التكنولوجية غير مؤهلة للمساعدة فى تقديم خدمة طبية كفؤ على المستوى المجتمعى، إذ ليس لديها أنظمة التعرف على الوجه، ولا قدرة لها على التعامل مع “البج داتا”، التى هى أصل مجتمع المعلومات وبناء المعرفة، على الاقل فى المجال الصحى العام، وذلك على عكس الحالة الصينية. مع الاخذ فى الاعتبار أن تطبيقات التعرف على الوجه تشكل تحديا لحرية الإنسان فى ظل الظروف العادية، ولكنها أثبتت فعاليتها فى ظل ظرف استثنائى تمر به البشرية كلها. ولعل المرحلة المقبلة تشهد جدلا فكريا وفلسفيا حول كيفية توظيف تلك التقنيات لحماية الإنسان وفى الآن نفسه الحد من توظيفها لتقييد حريته.
الملاحظات الثلاثة مجرد مؤشرات أولية على عالم ما بعد كورونا، وهناك الكثير الذى سوف يظهر تباعا ليؤكد أن التاريخ البشرى لديه الكثير لم يقدمه بعد، وأن نهايته فكريا وفلسفيا وسلوكيا ما زالت بعيده جدا.
نقلا عن جريدة الشرق الأوسط، نشر بتاريخ الثلاثاء 24 مارس 2020