تنوعت مواقف النخب الأوروبية في التعامل مع أزمة فيروس كورونا المستجد منذ إعلان منظمة الصحة العالمية عن تحوله إلى وباء عالمي. وربما يمثل ما طرحه المفكر البريطاني “أرنولد توينبي” في نظريته حول التحدي والاستجابة مدخلًا مناسبًا لإدراك ما إذا كانت هذه المواقف للنخب السياسية والرياضية والثقافية، والمعارضة الأوروبية، على حد سواء، استطاعت التعامل بجدية مع تحديات حقائق انتشار الفيروس، أم أن ثمة استهانة في استجابة قطاع من هذه النخبة بتنوعاتها المختلفة منذ اكتشاف (كوفيد-19) في مدينة ووهان الصينية في نوفمبر 2019، مما أدى إلى تفشي الفيروس على نطاق واسع في الدول الأوروبية، وتحولها لمركز لانتشار العدوى في باقي أرجاء المعمورة، باعتبار أن القارة العجوز والولايات المتحدة الأمريكية تعدان مركز العولمة بتجلياتها المتعددة، خاصة استيعابهما لأطياف متعددة من البشر من كافة الدول، والتي شكّلت هجرتها العكسية لعدد منها إلى مواطنها الأصلية معضلة حقيقية لنقل الفيروس وانتشاره، فضلًا عن السلاسل الإنتاجية المرتبطة بكافة مراكز الإنتاج والاستهلاك عبر العالم في إطار عملية التشبيك العالمي التي نفذتها العولمة كنظام سعى إلى دمج العالم، وإلغاء الحواجز والحدود الجغرافية والزمنية والموضوعية بين الدول والمجتمعات على أساس أنها عملية عكست انتصار الحضارة الغربية كمرحلة في تطور التاريخ البشري كما روج منظروها من أمثال المفكر الأمريكي الياباني الأصل “فوكوياما”، حتى بروز أزمة فيروس كورونا المستجد لتمثل نقطة تحول محتملة بين عالمين ربما مختلفين في دورة جديدة للتاريخ الإنساني لا تزال قيد التشكيل.
في حين نجحت الصين في الاكتشاف المبكر لجغرافيا انتشار الفيروس، وعزل المناطق الموبوءة بكفاءة، ثم محاولة تسويق الوجه الإنساني لدورها العالمي من خلال تقديم مساعدات للدول الأوروبية الأكثر تضررًا من تداعيات الأزمة، مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. وبرغم ما يتردد عن مسئولية الصين الدولية في إخفاء بدايات انتشار الفيروس بما صعب من مهمة محاصرته لاحقًا، فقد جاء التحرك الأوروبي متأثرًا بالموقف الأمريكي مع بدايات تفجر الأزمة، حيث تم التهوين من تداعياته، ثم التحول إلى التهويل بعد استفحاله. فقد أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في يناير 2020، أن كورونا ما هو إلا أنفلونزا عادية، ليعود في الأول من أبريل 2020 ليؤكد أن الشعب الأمريكي يعيش السيناريو الأسوأ، وأن ذروة تفشي الوباء ستحدث خلال أسبوعين.
أنماط الاستجابة الأوروبية
حجم الوفيات الضخم في أوروبا جراء الفيروس يعكس عمق التحدي الذي تواجهه أوروبا في لحظة مفصلية من حياة البشرية. وربما تسهم مقولات المفكر البريطاني “أرنولد توينبي” حول التحدي والاستجابة في فهم كيفية تعامل النخبة الأوروبية -بمستوياتها المختلفة- مع الأزمة. وتقوم مقولة “توينبي” على أن الظروف الصعبة هي التي تستثير الأمم لإقامة الحضارات. وميز “توينبي” بين ثلاثة تحديات رئيسية؛ الأول هو التحديات الضعيفة التي لا تستنفر الطاقات البشرية. الثاني هو التحديات القاسية التي تؤدي إلى العجز والاستسلام. أما الثالث فهو التحديات الخلّاقة المحفزة على الإبداع واستثمار الطاقات.
واقع الأزمة الراهنة وتطوراتها يعكس أن الآثار الاقتصادية والاجتماعية لتفشي فيروس (كوفيد-19) قد يفوق ما خلّفته حروب عالمية من دمار كانت أراضي عدد من الدول الأوروبية مسرحًا لعملياتها، وهو الأمر الذي ربما سيعد من قبيل التحديات القاسية، وفقًا لما ذكره “توينبي”. يعزز من ذلك ما ذكرته خبيرة الأوبئة “ألانا شاسك” في منتصف مارس 2020 بأن جائحة فيروس كورونا التي تكاد تعصف بالبشرية لن تكون الأخيرة.
وقد استلهم “توينبي” نظريته من علم النفس السلوكي، وعلى وجه الخصوص من “كارل يونج” (1875-1961) الذي يقول إن الفرد الذي يتعرض لصدمة قد يفقد توازنه لفترة ما، ثم يستجيب لها بأحد نوعين من الاستجابة: الأول الاستجابة السلبية، من خلال النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسك به تعويضًا عن واقعه المر، فيصبح انطوائيًّا. الثاني هو الاستجابة الإيجابية، من خلال تقبل الصدمة والاعتراف بها، ثم محاولة التغلب عليها، فيكون في هذه الحالة “انبساطيًّا”. والواقع أن استجابة النخب الأوروبية لتحول فيروس كورنا المستجد إلى وباء عالمي، اختلفت من دولة لأخرى. لذلك يمكن القول إن هذه الاستجابة عكست ثلاثة أنماط أساسية على المستوى الأوروبي.
النمط الأول، هو نمط الاستهانة بالأزمة، وتجسد في تصريحات بعض النخب، وانعكس على سلوك قطاع معتبر من المواطنين الأوروبيين من خلال الاستمرار في التردد على المقاهي، ومحلات بيع المأكولات، وارتياد المناطق السياحية، وحضور الفعاليات الرياضية، ما أسهم بشكل مباشر في تفشي الفيروس. ففي تقرير لصحيفة “الجارديان” البريطانية بعنوان “من الثقة إلى الحجر الصحي: كيف اجتاح كورونا إيطاليا”، والذي كتبته مراسلة الصحيفة في روما، أشارت الصحيفة إلى أنه برغم أن إيطاليا كانت في مقدمة الدول التي ظهر بها الفيروس خارج الصين وبعد اكتشاف ثلاث حالات، بما في ذلك سائحان صينيان في نهاية شهر يناير، تم عزل المرضى في مستشفى في روما، وتم تتبع مخالطيهما؛ إلا أن الشعور بالثقة كان ملموسًا لدى رئيس الوزراء “جوزيبي كونتي” في 31 يناير 2020 عندما قال: “إن نظام الوقاية الذي وضعته إيطاليا هو الأكثر صرامة في أوروبا”.
كما كانت الرسائل السياسية للأحزاب مربكة أكثر من اللازم؛ فمن بين الذين روجوا لرسالة العمل كالمعتاد كان “نيكولا زينجاريتي”، رئيس الحزب الديمقراطي في إيطاليا، الذي سافر إلى ميلانو واستقبل الشباب لتعزيز رسالته. وللمفارقة فإنه أعلن في 7 مارس 200 أنه أُصيب بالفيروس، وقد تعافى بعد العزل لمدة تقترب من 23 يومًا، بعد أن نشر مقطع فيديو في 31 مارس قال فيه: “بعد 23 يومًا من العزل المنزلي، جاءت نتيجة الفحص سلبية، مررت بأيام عصيبة، لكني تعافيت. لقد فعلتها”.
يُضاف إلى ذلك أن النخبة الرياضية سمحت بإقامة مباراة دوري أبطال أوروبا في 19 فبراير، في بيرجامو بإيطاليا، ما أدى إلى اختلاط 2500 من مشجعي كرة القدم في فالنسيا مع 40000 من مشجعي أتلانتا. وهي المباراة التي وصفها عمدة المدينة الإيطالية “جورجيو جوري” بأنها القنبلة التي فجرت الفيروس في لومباردي. وفي إسبانيا كان لاعبو فالنسيا والمشجعون والصحفيون الرياضيون من بين أول من أُصيبوا بالفيروس. عمق من هذه الاستهانة أن النخبة الطبية في دولة مثل إسبانيا انتهجت السلوك نفسه عندما قال الدكتور “فيرناندو سيمون”، رئيس قسم الطوارئ الطبية في مدريد، في 9 فبراير: “لن يكون لدى إسبانيا سوى عدد قليل من الحالات”، لكن بعد ذلك وبنهاية مارس 2020 أصبحت إسبانيا إحدى النقاط الساخنة للوباء العالمي.
النمط الثاني، هو التهويل من الأزمة، وبدأت بتصريحات رئيس الوزراء “بوريس جونسون” عندما قال مقولته الشهيرة: “استعدوا لفقد أحبائكم”. وحتى وإن كانت تلك المقولة نتاجًا لتوافر معلومات لديه من الجهات العلمية حول تداعيات انتشار الفيروس في بريطانيا، فإنها خلقت حالة من الهلع والذعر تركت آثارها ليس فقط على مستوى أوروبا؛ وإنما أيضًا كان لها صداها على مستوى العالم، حيث تفاعلت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل منقطع النظير مع مقطع الفيديو الذي احتوى هذا التحذير.
النمط الثالث والأخير، يمكن وصفه بالنمط الرشيد والعقلاني في التعامل مع الأزمة، حيث تبرز هنا التجربة الألمانية التي قادتها “أنجيلا ميركل”. وكما كانت سياستها إزاء اللاجئين تتسم بنوع من الرشادة واتباع سياسات غير تقليدية تجلت في تبني استراتيجية الباب المفتوح لاستقبال اللاجئين، وفرزهم في مراكز الاستقبال، وتوظيف قدراتهم في خدمة منظومة التنمية الألمانية؛ فإن المقاربة الألمانية للتعامل مع الأزمة اتسمت بالانضباط الصارم، واستندت إلى محورية الاستجابة الفعالة لسلوك المواطن الألماني في كبح معدلات الإصابة بالوباء في ظل امتلاك ألمانيا نظامًا صحيًّا كفئًا تمكن من إجراء 500 ألف اختبار أسبوعيًّا للكشف عن الإصابة بالفيروس، فضلًا عن الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها ألمانيا، ومنها: إغلاق المدارس وعدد من الجامعات، وتعليق المنح الدراسية للوافدين، وإغلاق المحال التجارية والمسارح، وحظر التجمعات لأكثر من ثلاثة أفراد في الأماكن العامة ومعاقبة المخالفين لذلك.
لماذا تنوعت أنماط الاستجابة الأوروبية؟
هناك عدد من الأسباب التي أدت إلى تنوع أنماط الاستجابة الأوروبية برغم وجود الاتحاد الأوروبي كتجربة مؤسسية للاندماج والتكامل الأوروبي اعتبرت دليلًا استرشاديًّا لكافة التجمعات الإقليمية التي حاولت السير على الطريق نفسه لتحقيق الوحدة الفعالة بين أعضائها.
1- اختلاف نمط القيادة: أدى اختلاف نمط القيادة في الدول الأوروبية إلى تمايز السياسات المتبعة للتعامل مع أزمة فيروس كورونا المستجد. حيث برزت قدرات المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” في التعامل مع الأزمة، والتي تعود ربما لخبراتها المتراكمة داخل مؤسسات الدولة الألمانية منذ أن كانت عضوًا بالحزب الديمقراطي المسيحي ورئيسة له، وشغلها العديد من الحقائب الوزارية في حكومة المستشار “هيلموت كول” (توليها منصبي وزيرة المرأة والشباب، ثم وزيرة البيئة والسلامة النووية). كما أنها تعتبر أول امرأة تشغل منصب مستشارة لألمانيا منذ عام 2005، وتصفها وسائل الإعلام العالمية بالمرأة الحديدية، فضلًا عن خلفيتها المهنية والتعليمية كأكاديمية حاصلة على الدكتوراه في مجال الكيمياء الفيزيائية. في المقابل، بدا أن أنماطًا قيادية أوروبية أخرى تفتقد للخبرات اللازمة للتعامل مع عنصر المفاجأة في أزمة كوفيد-19، والتي بدا أنها في حاجه ماسة إلى استلهام أفكار ورؤى القيادات التاريخية لأوروبا من أمثال “شارل ديجول” و”تشرشل” في كيفية التعامل مع التحديات الوجودية لأوروبا.
2- الانكشاف المؤسسي: ارتبط الانكشاف المؤسسي الأوروبي بضعف الاستجابة لعنصر المفاجأة في الأزمة على مستويين أساسيين؛ الأول: ضعف استجابة المؤسسات الوطنية للجائحة التي فاجأت كافة القطاعات دون استثناء، بما فيها قطاع الصحة، وعدم قدرته على توفير أماكن بأقسام الطوارئ والرعاية المركزة في ظل الضغط الكبير لحاملي الفيروس بعد تفشي الوباء ووصوله إلى مرحلة الذروة في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. فضلًا عن عدم قدرة الصناعات الوطنية على توفير المعدات والأجهزة اللازمة لمواجهة الجائحة، خاصة أجهزة التنفس الاصطناعي، وتوفير المستلزمات الطبية مثل الأقنعة الوقائية والسترات الواقية. وربما يعود ذلك إلى اعتماد عدد من الدول الأوروبية على استيراد هذه المستلزمات والاكتفاء بتصنيعها محليًّا بكميات لا ترقى إلى التعامل مع تداعيات الأزمة، وهو الأمر الذي جعل الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” ينتقد ذلك خلال زيارته مصنعًا لإنتاج الأقنعة الواقية مطلع أبريل 2020، ووعده بأن تصبح فرنسا معتمدة على نفسها تمامًا في تأمين احتياجاتها من الأقنعة بحلول نهاية السنة الجارية.
المستوى الثاني: يرتبط بمحدودية دور الاتحاد الأوروبي في التصدي لأزمة كورونا كأول مؤسسة إقليمية اتحادية تشكلت بشكل طوعي وكانت نُموذجًا يحتذى به في العمل المؤسسي، الأمر الذي جعل رئيس صربيا “ألكسندر فوتشيتش” يعبر عن خيبة أمله من عزوف الاتحاد الأوروبي عن مساعدة بلاده في مواجهة فيروس كورونا، ووصفه الاتحاد الأوروبي بأنه قصة خرافية على الورق.
3- تبني سياسات الرأسمالية المتوحشة: أدى تبني سياسات النيوليبرالية التي عكست توحش العولمة بدلًا من تعزيزها للاعتماد المتبادل بين الدول، إلى توجيه السياسات العامة لتقوم على التكلفة والعائد بصرف النظر عن الاعتبارات الإنسانية، وهو ما وصفه البعض بخصخصة الحياة، حيث أصبحت الخدمات العامة وفي مقدمتها منظومة الخدمات الصحية في البلاد المتقدمة ومنها الأوروبية أسيرة لمبدأ الربحية.
4- السياسات الانعزالية: على الرغم من أن العولمة تقوم على التدفق الحر للأفراد والبضائع بين الدول، إلا أن سلوك عدد من الدول الأوروبية في بدايات التعامل مع الأزمة اتسم بالانعزالية، حيث قامت ألمانيا وفرنسا بفرض قيود على تصدير المستلزمات الطبية، قبل أن تقوم ألمانيا لاحقًا باستقبال مصابين من إيطاليا لعلاجهم بمستشفياتها. وفي حين دعت الحكومة الإيطالية دول الاتحاد الأوروبي إلى مساعدتها، وتقدمت بطلب مماثل إلى مفوضية الاتحاد بهذا الشأن، فإن عدم الاستجابة السريعة أدى إلى استياء قطاع من الرأي العام الإيطالي، كما قامت بعض الدول الأوروبية بإعادة إدخال ضوابط الحدود أو حتى إغلاق الحدود لغير المواطنين كما فعلت فرنسا.
5- تسييس الأزمة: سعت العديد من النخب الأوروبية إلى تسيسس الأزمة، فقد حاول قادة الأحزاب في عدد من الدول الأوروبية توظيف الأزمة للنيل من خصومهم وإضعاف موقفهم أمام الرأي العام. ولم تسلم من ذلك حتى الدوائر العلمية التي تتعامل مع تداعيات الأزمة، فعندما اعتبر عالم الفيروسات الإيطالي “روبرتو بيروني” أن اتخاذ الإجراءات القاسية ضروري لاحتواء الوباء، فقد وُصف بأنه فاشي. وفي إسبانيا ومنذ إعلان حالة الطوارئ العامة استمرت الأحزاب السياسية والهيئات الاقتصادية والاجتماعية في تأييد الخطوات المتعاقبة التي أقدمت عليها الحكومة، لكنها واصلت انتقاداتها للبطء في اتخاذ القرارات، وقلة الخطيط وعدم الوضوح في الرؤية. وجاءت أشد الانتقادات من الحكومة الإقليمية في كاتالونيا التي اعتبرت حالة الطوارئ اجتياحًا لصلاحياتها، وأصرت على أنها أقدر من الحكومة المركزية على مواجهة الأزمة.
لقد ختم “هنري كيسنجر” أحدث مقال له حول تداعيات كورونا على النظام العالمي، بصحيفة “وول ستريت جورنال”، بجملة موجزة مفادها أن الفشل في مواجهة الوباء قد يؤدي إلى حرق العالم “Failure could set the world on fire”، وهو ما يتطلب تكاتف كافة النخب الأوروبية والعالمية بمستوياتها المختلفة، بما يُسهم في ترجمة نظرية “توينبي” في أحد جوانبها والمتعلق بالتحديات المحفزة على الإبداع واستثمار الطاقات، وذلك من خلال تبني استجابة دولية إنسانية لمواجهة انتشار فيروس كورونا المستجد الذي تُعتبر مواجهة البشرية له حربًا كونية أولى كما وصفها الدكتور “علي الدين هلال” في مقاله بـ”الأهرام” اليومي في الخامس من أبريل 2020.