بعد أن أمر الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” البحرية الأمريكية بتدمير أي زوارق إيرانية إذا تحرشت بالسفن الأمريكية في البحر، بعد أسبوع من اقتراب 11 زورقًا تابعة للحرس الثوري الإيراني بدرجة خطيرة من سفن أمريكية في الخليج العربي؛ ذهبت العديد من التحليلات إلى أن المواجهة العسكرية المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران قد باتت قريبة أكثر من أي وقت مضى. غير أن تلك التحليلات ربما تكون قد تجاوزت ثوابت الدولتين التي تمنعهما واقعيًّا من الدخول في مواجهه عسكرية مباشرة. فمن ناحية، لا يمكن الشك في أن إدارة “ترامب” تفضل تشديد الحصار الاقتصادي على إيران على الدخول في صراع عسكري معها اتساقًا مع استراتيجيتها الهادفة لتقليل الوجود العسكري الأمريكي في الخارج، وتوجيه الإنفاق العسكري نحو تحديث الترسانة العسكرية الأمريكية وليس لتبديد الموارد المالية في حروب لا ضرورة لها، طالما يمكن تحقيق الأهداف المرجوة منها بإجراءات غير عسكرية. ومن الناحية الأخرى، فإن إيران أظهرت أيضًا أنها لا تسعى للمواجهة العسكرية المفتوحة مع الولايات المتحدة، بدليل ردها المحدود على عملية اغتيال “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، في يناير الماضي. وكما لاحظ “بلال صعب” (الخبير الأمني في شئون الشرق الأوسط والذي عمل في البنتاجون في بداية عهد “ترامب”)، ففي تقرير مطول نشره موقع VOX في 13 يناير الماضي، رفض صعب التوقعات التي تشير إلى احتمال تطور الوضع في الخليج إلى مواجهه شاملة بين إيران والولايات المتحدة. أسّس “صعب” رفضه لهذا الاحتمال على ملاحظتين منطقيتين:
الأولى: أن الولايات المتحدة وإيران دخلتا في دائرة التحرش العسكري وليس الاشتباك على مدى عقود وليس في الآونة الأخيرة فقط، وبالتالي ليس هناك معنى للانزعاج البالغ من النمط الأخير من هذه التحرشات. كما أنه منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، ازدادت وتيرة هذه التحرشات دون أن تؤدي إلى مواجهة مفتوحة حتى الآن، وأن إدارة الرئيس “ترامب” عندما اتخذت قرار قتل “قاسم سليماني” -قائد فيلق القدس- في يناير الماضي، كانت على يقين من أن إيران كانت ستستمر في نهج الاقتراب الخطر من السفن الأمريكية في الخليج، سواء نفذت الولايات المتحدة عملية الاغتيال أو امتنعت عن تنفيذها.
الثاني: أن الولايات المتحدة اختارت دومًا ألا تستخدم أقصى درجات القوة مع إيران خلال عدة عقود كانت إيران تُمارس فيها الممارسات الاستفزازية نفسها. حتى عندما عرض البنتاجون على “ترامب” بنك أهداف، يشمل مواقع للصواريخ وسفنًا إيرانية داخل حدود إيران الإقليمية، اختار “ترامب” تنفيذ عملية قتل “سليماني” خارج الحدود الإيرانية كرد على إطلاق الجماعات الشيعية التابعة لإيران في العراق والتي وقعت في أواخر ديسمبر 2019.
الاستراتيجية الأمريكية حيال إيران
الملاحظات التي قدمها “صعب” تبدو دقيقة في إطار عناصر الاستراتيجية الأمريكية حيال إيران، والتي عمل عليها الرئيس “ترامب” وإدارته فور وصوله للبيت الأبيض رسميًّا، في 20 يناير 2017، والتي تبين أن “ترامب” لم يضع الخيار العسكري على الطاولة أبدًا. وللتذكرة، نُعيد ما أعلنه بنفسه في أكتوبر 2017، حيث ذكر “ترامب” في بيانه حينها أن سياسته تجاه إيران ترتكز على أربعة عناصر:
– العمل مع الحلفاء على منع النظام الإيراني من ممارسة الأنشطة والعمليات التي تهدد استقرار منطقة الشرق الأوسط عبر أذرعها من الميليشيات الإرهابية.
– فرض المزيد من العقوبات على النظام الإيراني لمنعه من تمويل الجماعات الإرهابية.
– التعامل بقوة مع سعي إيران لنشر الصواريخ وأنظمة التسليح التي تُهدد جيرانها في المنطقة، كما تهدد ممرات التجارة الدولية وحرية الملاحة في المياه الدولية.
– التعهد بمنع إيران من الحصول على سلاح نووي.
وتشير هذه العناصر إلى أن الخيار العسكري ضد إيران لم يرد ذكره على الإطلاق في بيان “ترامب”.
قراءة مغايرة للوضع في الخليج بين واشنطن وطهران
إذا كان كلا البلدين حريص على عدم الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة كما تثبت الملاحظات السابقة، وإذا كانت الاستفزازات الإيرانية مستمرة وبنفس الكيفية منذ عام 2015 على الأقل (وقبل وصول “ترامب” للبيت الأبيض)؛ فما هو الجديد الذي يمكن أن يدعم التحذيرات من احتمال تطور الأوضاع إلى مواجهة عسكرية شاملة بين البلدين؟
واقع الأمر أن هناك مباراة بين الاستراتيجيتين الإيرانية والأمريكية، ففي حين بنت إيران استراتيجيتها على إمكانية إخراج الوجود الأمريكي من الخليج، وربما من العراق أيضًا، عبر دفع وكلائها في المنطقة لاستهداف القوات الأمريكية والبلدان المتحالفة مع واشنطن التي تسمح بوجود قواعد أمريكية في أراضيها وعبر ممارسات تحرشات بالسفن الأمريكية من وقت لآخر في الخليج لإثبات عجز واشنطن عن ردعها؛ فإن الرئيس “ترامب” وإدارته قد صاغوا الاستراتيجية الأمريكية على أساس الفصل بين آلية تشديد الحصار على إيران والإبقاء على الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، وبين آلية الرد على الاستفزازات الإيرانية، بحيث يستمر الحصار المشدد الهادف إلى إرغام طهران على اتباع سياسات معينة فيما يتعلق بسعيها لمد نفوذها الإقليمي وحيازة أسلحة نووية. وفِي الوقت نفسه يتم الرد على الاستفزازات الإيرانية بإجراءات دفاعية محدودة، ويمكن الدفاع عنها قانونيًّا في إطار الحق في حماية القوات والمصالح الأمريكيين. والحالة الوحيدة التي يمكن للولايات المتحدة أن تجد نفسها مضطرة لشن الحرب ضد إيران هو وقوع هجمات مسلحة بواسطة القوات الإيرانية ومن داخل الأراضي الإيرانية أو من سفنها في الخليج ضد قواعد أو سفن حربية أمريكية في المنطقة.
ملاحظة أخرى تبدو ضرورية هنا، وهي تأكيد القادة العسكريين الأمريكيين على أن تفويض “ترامب” للقوات الأمريكية للتعامل الفوري مع التحرشات الإيرانية بالسفن الأمريكية، كانت رسالة واضحة لإيران بأن الرد على مثل هذه التصرفات لم يعد قرارًا سياسيًّا ينبغي أن ينتظره القادة العسكريون في الميدان عند كل حادثة تحرش؛ بل أصبح بوسع قائد أي سفينة عسكرية تتعرض للتحرش من القوارب الإيرانية أن يُصدر أمرًا مباشرًا بتدميرها دون الرجوع لأحد من القادة السياسيين أو مسئولي البنتاجون، وهو ما أكدته تصريحات الجنرال “جون هيتن” نائب رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة لوكالة “رويترز” بقوله: “يجب ألا يشك أحد في أن القادة العسكريين لديهم السلطة الآن للرد على أي عمل عدائي أو نيات عدوانية. وللبحرية الأمريكية سلطة اتخاذ إجراء للدفاع عن النفس”.
المراهنة على الأزمات داخل إيران
من الواضح أن إدارة الرئيس “ترامب” تحرص على ألا تمنح إيران أية فرصة لتوريطها في مواجهة شاملة بالامتناع عن توجيه ضربات عسكرية داخل أراضيها. ويراهن الرئيس “ترامب” على أن الاستمرار في فرض العقوبات الاقتصادية سيقود حتمًا إلى مواجهة في الداخل بين النظام الإيراني وشعبه بسبب التأثير البالغ لهذه العقوبات على الأوضاع المعيشية، وهو ما حدث في العام الماضي بالفعل. كما يسعى “ترامب” إلى الإيقاع بين مؤسسات النظام الإيراني، خاصة بين الجيش والحرس الثوري، خاصة أن قادة الجيش الإيراني يشعرون بالاستياء منذ سنوات طويلة بسبب تخصيص ميزانية للحرس تزيد على ضعف ميزانية الجيش، فضلًا عن إسناد الكثير من الملفات المهمة التي تخص الأمن القومي الإيراني للحرس.
ورغم التماسك الظاهري لمؤسسات النظام حول شخصية المرشد؛ إلا أن القادة العسكريين الإيرانيين قد لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام سعي الحرس الثوري لاستفزاز القوات الأمريكية في الخليج؛ إذ إن تحذير الولايات المتحدة بأن قواتها سوف تدمر أية زوارق أو سفن إيرانية تقترب من السفن الأمريكية سيعني في حالة إقدام الحرس الثوري على المضي في نهجه الاستفزازي الذي أشعل الأزمة الأخيرة، قيام واشنطن بتنفيذ تهديداتها، وهو ما قد يؤدي إلى توريط الجيش الإيراني في المواجهة التي يبدو أنه لن يكون قادرًا على تحمل تبعاتها بسبب محدودية إمكانياته وقدراته، ولا يريد الجيش الإيراني وسلاح البحرية التابع له أن يجد نفسه في نفس الموقف القديم عندما فرض الحرس الثوري أسلوبه في الحرب الإيرانية-العراقية، مما أدى إلى توريط الجيش في معارك خاسرة نُسبت أسباب خسارتها إلى عدم كفاءة القوات المسلحة النظامية وقادتها، وليس للأسلوب المتهور في إدارة الحرب من قبل الحرس الثوري.
على أية حال، يمكن القول إن السؤال الذي ستجيب عنه الأيام القليلة القادمة هو: هل سيكف الحرس الثوري الإيراني عن ممارسة مثل هذه الألعاب الخطرة؟ وهل سيقتنع القادة الإيرانيون بفشل استراتيجيتهم القائمة على مناوشة القوات الأمريكية لحملها على الرحيل عن الخليج والمنطقة؟ أم أنهم يحتاجون لرد أمريكي قاسٍ وغير مُنتظر إذا ما استمروا في استفزازاتها؟ مثل ذلك الرد لم يكن في حسبانهم وهم يدفعون ميليشياتهم في العراق لمهاجمة القواعد الأمريكية، والتي عندها ردت الولايات المتحدة، ليس بمهاجمة قواعد هذه الميليشيات فقط، بل قامت بقتل “سليماني” الذي لم يخطر على ذهن الإيرانيين أن الولايات المتحدة يمكن أن تخاطر بارتكاب مثل هذا الفعل خوفًا من نشوب الحرب.