تُعد قضية الحدود بصفة عامة، وحدود أيرلندا الشمالية بصفة خاصة، من أعقد القضايا في ملف البريكست، شأنها شأن العلاقات بين المملكة المتحدة وإقليم شمال أيرلندا وجمهورية أيرلندا. ومع شيء من التبسيط يمكن القول إن إغلاق الحدود بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا يخالف روح ونصوص الاتفاقيات التي أنهت الصراع في تسعينيات القرن الماضي، وإن لم تُغلق يتبقّى خياران؛ أولهما: الإبقاء على الأوضاع كما هي، وهو ما يخالف نتيجة الاستفتاء على البريكست ويتحايل عليه. وثانيهما: رسم حدود بين أيرلندا الشمالية وباقي أقاليم المملكة المتحدة، ويقتضي هذا الحل خوض معركة لتعديل الدستور، ناهيك عن رفض حزب الاتحاديين المؤيد للمحافظين له.
بدايةً، تُعتبر المملكة المتحدة دولة مكونة من أقاليم مختلفة، هي: إنجلترا، وويلز، وأسكتلندا (بريطانيا العظمى)، إضافة إلى أيرلندا الشمالية. وللمملكة المتحدة حدود برية مع دولة واحدة هي أيرلندا. وهناك في إقليم أيرلندا الشمالية (التابع للمملكة) مجموعات تدعو إلى توحيد الشعب الأيرلندي، وبالتالي إلى الانفصال عن المملكة، وأخرى ترفض هذا. وتلعب الاعتبارات المذهبية والطائفية دورًا في كلا الموقفين.
وقد نصّ الاتفاق الخاص بالبريكست بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على تنظيم وضع أيرلندا الشمالية عن طريق ما يُسمى بشبكة الأمان Backstop بين أيرلندا الشمالية ودولة أيرلندا، والتي تضمن بها بريطانيا أن تظل أيرلندا الشمالية مستمرة في الخضوع للقواعد المنظِّمة للاتحاد الأوروبي ولقواعد السوق الأوروبية الموحدة. وهذا الاتفاق المخلّ بسيادة المملكة هو السبب الرئيسي لرفض الكثيرين لهذا الاتفاق الذي وقّعته “ماي”، ورفضه السيد “بوريس جونسون” الذي طرح حلولًا بديلة لم تقنع أحدًا في أوروبا وجمهورية أيرلندا.
وجه الاعتراض الرئيسي على اتفاق “ماي” هو إخلاله بسيادة المملكة، فهو ينص على التزام المملكة بقوانين الاتحاد طالما لم يُوقَّع اتفاقٌ جديدٌ بينها وبين الاتحاد. وفيما يخص أيرلندا -موضوع هذا المقال- ينص اتفاق “ماي” على أنه في حال لم يتم التوصل إلى قواعد منظِّمة للعلاقة بين أيرلندا الشمالية ودولة أيرلندا فيستمر هذا الاتفاق حتى بعد الفترة الانتقالية. وسيوثر هذا حتمًا على العلاقة بين أيرلندا الشمالية وسائر أقاليم المملكة المتحدة، حيث تخضع أيرلندا الشمالية لقواعد الاتحاد الأوروبي، بينما تخضع باقي الأقاليم للقوانين البريطانية، وهو ما يقتضي تنظيم الدخول والخروج من أيرلندا الشمالية.
لماذا يدافع الاتحاد الأوروبي عن عدم عودة الحدود بين أيرلندا الشمالية وأيرلندا؟
هناك اعتبارات اقتصادية نُجملها في ضرورة الدفاع عن مصالح دولة فضلت البقاء في الاتحاد، وهي جمهورية أيرلندا، وأخرى تاريخية سياسية، كما لا يمكن التهوين من الاعتبارات الاجتماعية والثقافية وحتى العائلية، فهناك عائلات لها أفراد في أيرلندا الشمالية (أو في المملكة) وآخرون في جمهورية أيرلندا.
ولا تزال العلاقات بين أيرلندا والمملكة وثيقة، فقيمة الصادرات الأيرلندية إلى المملكة فاقت ٣٧ مليار يورو سنه ٢٠١٦، وقامت بتصدير ثروة حيوانية ومنتجات ألبان وأدوية وخدمات مالية وماكينات وكيماويات.. إلخ، بينما تبلغ مشتريات أيرلندا من المملكة ثلاثين مليار يورو سنويًّا، أي إن نصيبها من الصادرات البريطانية أهم من نصيب الصين والهند مجتمعتين.
وتُقدر السلطات الأيرلندية أن خروج المملكة المتحدة من السوق المشتركة، أي إقامة حدود بينها وبريطانيا؛ سيقلص النشاط بنسبة قد تصل إلى ٢٠٪، وسيتسبب في مشكلات أهمها: زيادة البطالة، وتباطؤ نمو الاقتصاد، وتراجع حصيلة الضرائب، ويأتي هذا كله في حين أن الاقتصاد الأيرلندي لم يتعافَ كاملًا من أزمة ٢٠١١ – ٢٠١٣.
ولا تُبرز تلك الأرقام حجم المشكلة؛ فكثير من الشركات وزعت مصانعها ومراحل إنتاج المنتجات بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، معتمدة في ذلك على فرضية عدم وجود حدود. ومن ثم فإن إقامة حدود سيؤدي حتمًا إلى تعطيل الحركة، وإلى إتلاف الكثير من المنتجات، ولا سيما في مجال الصناعات الغذائية التي توظف مباشرة مائة ألف عامل (دون حساب العاملين في قطاعات تابعة تعتمد عليها) في بلد لا يزيد عدد سكانه عن أربعة ملايين ونصف. كما أن إقرار رسوم الجمارك سيزيد الأمور تعقيدًا، فهناك قطاعات بالكامل لا تنتج فيها قطع الغيار إلا بناء على طلب أو حاجة إليها، أو على الأقل لا تخزن في كل دولة، وإقامة حدود سيعطل تسليم تلك القطع إلا لو تمت مراجعة شاملة قد تكون مستحيلة للعملية الإنتاجية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ستتأثر صناعة السيارات الأوروبية والبريطانية من جراء إقامة هذه الحدود.
مشكلة أخرى في حالة إقامة حدود بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، هي قضية إقامة الأجانب في بريطانيا، وحرية الحركة والسياحة، حيث اضطرت “ماي” إلى تقديم تنازلات كبيرة هي أحد أسباب رفض مشروعها. وتلك القضية بالغة الأهمية. فالنقل الجوي بين لندن ودبلن عبارة عن ١٥ ألف رحلة جوية في السنة ومليونا مسافر.
والأسباب السياسية هي الخوف من انهيار اتفاقيات 1998 التي أنهت الصراع الداخلي في أيرلندا الشمالية، ومن احتمال عودة العنف. وكما هو معلوم، تمّ تقسيم الجزيرة الأيرلندية رسميًّا عام 1921 إلى قسم شمالي تابع للتاج البريطاني وآخر جنوبي استقل وأصبح جمهورية أيرلندا، وظلت أيرلندا الشمالية مسرحًا لصراع بين الكاثوليك الراغبين في الانفصال عن المملكة المتحدة والبروتستانت الراغبين في البقاء فيها. واشتدت حدة هذا الصراع منذ أواخر الستينيات حتى أواخر التسعينيات. وخلال تلك الفترة تم العديد من المحاولات لوقف هذا الصراع، كانت أنجحها اتفاقية “الجمعة العظيمة” الموقعة في أبريل 1998 والتي حافظت على السلام حتى الآن، والتي قامت بتغييرات أساسية في دستور كلٍّ من بريطانيا وأيرلندا.
هل عودة الحدود تستتبعه بالضرورة عودة العنف؟
بدايةً، لقد رفض السكان في أيرلندا الشمالية الخروج عن الاتحاد الأوروبي في استفتاء 2016 بنسبة 55,7%. وقد عكس التصويت انقسام المجتمع دينيًّا وسياسيًّا، وإن كان اتجاه الكاثوليك (القوميون) ناحية البقاء يُعد أكبر من اتجاه البروتستانت (الاتحاديين) نحو الخروج، مما يوحي بأن مرور عشرين عامًا لم يغير في التركيب الداخلي لمنطقة أيرلندا الشمالية (انظر الشكل التالي). ١
لكن على الرغم من ذلك، نجد أن العديد من الباحثين برروا عدم عودة العنف للمنطقة استنادًا إلى عدد من الأسباب، أبرزها اختلاف الظروف التاريخية بشكل كبير عن اليوم، حيث إن العنف كان مصاحبًا للحركة المدنية التي نادت بحقوق الكاثوليك المفتقرين إليها. وكذلك كانت هناك وفرة في الأسلحة وغضب عارم تجاه الدولة البريطانية. إلا أن السنوات العشر الأخيرة عززت المساواة في الحقوق بين الطائفتين، ودفعت الجماعات شبه العسكرية إلى تفكيك جميع أسلحتها، وتحسنت الظروف المعيشية بالإقليم، وساهمت أموال الدعم التي قدمها الاتحاد الأوروبي لكل من أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا في هذا، ودفعتهم إلى قبول تنفيذ الاتفاق. ويقول البعض إن شبح الوحدة مع جمهورية أيرلندا لم يعد مخيفًا كما كان بالنسبة للبروتستانت؛ لأن أيرلندا قطعت شوطًا كبيرًا في العلمنة وتراجع فيها نفوذ الكنيسة الكاثوليكية.
غير أن هناك العديد من الشواهد التي لا تستبعد عودة العنف مرة أخرى لعدة أسباب:
1- تم تنظيم التعايش دون معالجة كل أسباب التوتر، وما زالت ذاكرة كل طرف محملة بالضغائن ضد الطرف الآخر، وتصر فصائل من الطرفين على الاحتفال بمناسبات مؤلمة للطرف الآخر، وتمثل هزائم مهينة له. وما زال التعليم طائفيًّا، فلكل طائفة مدارسها وجامعاتها.
2- تعد فكرة الحدود في حد ذاتها رمزًا محفزًا للجوء الفرقاء الكاثوليك المتطلعين إلى وحدة أيرلندا إلى العنف، والجغرافيا والطبوغرافيا تجعلان تأمين الطرق عملية بالغة الصعوبة إن لم تكن مستحيلة. ففي سبعينيات القرن الماضي كان 90 في المائة من الطرق التي تعبر الحدود لأيرلندا الشمالية محفورة بالمتفجرات. وفي الوقت الحالي في حالة إقامة الحدود سيوجد على الحدود الأيرلندية 208 طرق رسمية، معظمها ريفي. ويدعي بعض سكان الحدود أنه إذا تم تضمين كل ممر ومسار ودرب، فسيكون العدد أقرب إلى 300، ٢وستكون تلك الحدود البرية في حال إقامتها الأكثر قابلية للاختراق في أوروبا.
3- ترى الأحزاب المسئولة عن تنفيذ اتفاقية “الجمعة العظيمة”، وبخاصة الأقرب للطائفة الكاثوليكية، أن قبولها الاتفاق كان نابعًا من أن بريطانيا وأيرلندا عضوان في الاتحاد الأوروبي. في هذا الإطار، لم تعد الحدود بينهما عائقًا لحركة السكان والبضائع. وصرحت رئيسة حزب شين فين “ماري لو ماكدونالد” مرارًا بأن البريكست يشكل “تهديدًا مؤكدًا ووشيكًا” لاتفاق “الجمعة العظيمة” الذي يضمن السلام في جزيرة أيرلندا منذ عقدين.
4- انعكس الاندماج في الاتحاد الأوروبي على المستويات المعيشية بأيرلندا الشمالية، إذ صاحبت اتفاقية “الجمعة العظيمة” منح سخية قدمها الاتحاد الأوروبي، فتم إنشاء هيئة برامج الاتحاد الأوروبي الخاصة (SEUPB) لإدارة أموال الاتحاد بأيرلندا الشمالية منذ عام 1994. فعلى سبيل المثال، قدمت الهيئة بين عامي ٢٠١٤ و٢٠٢٠ مبلغًا قدره 3.5 مليارات يورو كإعانات زراعية ومنح هيكلية تتلقاها أيرلندا الشمالية، وهو مبلغ كبير لدول عدد سكانها صغير.
5- وتعتمد كل من جمهورية أيرلندا وشمال أيرلندا بدرجة كبيرة على الطاقة القادمة من الاتحاد الأوروبي والتي تمر عبر المملكة. وتشير التقديرات إلى حجم الضرر الذي سيلحق باقتصاد أيرلندا الشمالية، حيث تبلغ الصادرات لأيرلندا نسبة 33% من صادراتها الخارجية، وإلى الاختلال الكبير الذي سيصيب قطاع الغذاء في جمهورية أيرلندا. ففي عام 2016، على سبيل المثال، تم تصدير 49% من جميع لحوم البقر الأيرلندية إلى المملكة. وفيما يتعلق بمنتجات الألبان، في عام 2016 ذهب 82% من الحليب الأيرلندي إلى المملكة.
6- اختلاف الظروف التاريخية التي دفعت إلى توقيع اتفاقية “الجمعة العظيمة” عن اليوم. ففي إجمال غير مخلٍّ يمكن القول إن الاتفاق نتج عن رغبة أطراف محلية أنهكها الصراع وعن وجود دعم دولي قوي، وتغيرت المعادلة الآن، فحكومة المحافظين متحالفة مع حزب أيرلندي متطرف، وترى أنه لا يمكن تعطيل رغبة الإنجليز لمراعاة مصالح دولة وإقليم صغيرين.
مجمل القول، إن قضية الحدود بين أيرلندا الشمالية وأيرلندا قضية معقدة ومركبة أنتجها العديد من الفواعل والعوامل السياسية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، ومن الصعب حلها بطريقة مرضية للطرفين؛ إلا أن إقامتها يهدد استقرار أيرلندا الشمالية وبالتالي استقرار المملكة. وحتى لو افترضنا وجود تأييد شعبي قوي للسلام ولاتفاقية “الجمعة العظيمة”، فإن قدرات المتطرفين على زعزعة الأمن ما زالت كبيرة.
المصادر