افتتحت مصر في سبتمبر من العام الحالي 2021 أكبر محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي في العالم. أتى ذلك المشروع كنتيجة لتوجه الدولة نحو صد واحد من أكبر التحديات التي تواجه مصر في السنوات الأخيرة. وهو المتعلق بتأمين ما يكفي من موارد المياه المستدامة للحفاظ على معدلات النمو التوسعية في الاقتصاد المصري وسط زيادة سريعة غير متحكم بها للتعداد السكاني منذ عقود. تفاقمت حدة الأزمة المائية مؤخراً مع المخاوف الدولية المتعلقة بالمخاطر المتراكمة من التغيرات المناخية وتأثيرها على المخزون المتاح من المياه العذبة، بالإضافة إلى أزمة سد النهضة الإثيوبي التي لم يتم التوصل حتى تاريخه إلى حل جذري يمنع تعطيل إمدادات مياه النيل.
أزمة المياه بمصر
تواجه مصر مشكلة غير مسبوقة بتاريخها الحديث تتعلق بشح المياه ومخاوف عدم كفايتها بالمستقبل القريب لسد احتياجاتها الصناعية والسكانية والزراعية ما لم يتم اتخاذ الاجراءات الطارئة الأنسب. إذ تشير عدة دراسات عبر السنوات الأخيرة أنه بحلول نهاية العقد الراهن لن يكون النيل وحده قادرًا على دعم احتياجات الشعب المصري في حالة استمرار نفس الأوضاع المهددة، مما يضع المواطن في حالة ندرة شديدة في المياه. وكان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي قد صرح في وقت سابق من هذا العام 2021، بأن نصيب الفرد السنوي في مصر من مياه النيل يبلغ حاليًا 560 متر مكعب، أي ما يقرب من نصف عتبة الـ 1000 متر مكعب التي تحدد ندرة المياه.
وهو ما دفع الدولة إلى البحث خلال السنوات الفائتة عن فرص جديدة لشعبها لا تعتمد بالأساس على نهر النيل، بالإضافة إلى تحسين قدراتها على إعادة استخدام المياه. ومن ثم حصلت مصر على ما يقارب 20٪ من إمداداتها للمياه السنوية من مياه الصرف الصحي المعالجة خلال عامي 2018 و2019، وذلك بعد حزمة من الاجراءات الهندسية والتنموية المختلفة.
نجحت الدولة في توفير 13.65 مليار متر مكعب من المياه من خلال محطات المعالجة من بين 80.25 مليار متر مكعب تم استخدامها خلال العام الأخير. ومقارنة بـ 55.5 مليار متر مكعب من نهر النيل يبدو الرقم جيداً، إلا أنه وسط الضغوط المذكورة، لازال هناك متسعاً لتحسين الأوضاع في هذا القطاع.
كل هذه المشاكل والأزمات تم دراستها بجدية من الحكومة المصرية. وتم ترجمة هذه الدراسات إلى خطوات جادة في بناء المزيد من محطات معالجة المياه كجزء أساسي من استراتيجيتها للادارة المستدامة لمواردها. وبالتوازي مع تلك المجهودات تم التركيز على ضخ المليارات من الجنيهات المصرية بهدف زيادة طاقة تحلية المياه في البلاد. إلا أن أهم مشروعات مصر الأحدث بهذا الصدد هو مشروع محطة معالجة مصرف بحر البقر.
سبب اختيار موقع المحطة
تعمل تلك المحطة الضخمة على معالجة المياه من مصرف بحر البقر الواقع شرق قناة السويس ممتداً بطول 190 كيلومترًا. كما يربط الجزء الشرقي من القاهرة الكبرى ببحيرة المنزلة التي تقع بجوار البحر الأبيض المتوسط غرب بورسعيد.
ويعتبر مصرف بحر البقر من أكثر المصارف تلوثًا في البلاد. إذ أن كمية ضخمة من النفايات الصناعية ومياه الصرف الصحي المنتجة في القاهرة تتدفق إليه يومياً. كما أن مياه الري بالغمر الفائضة والصرف الزراعي المحمل بالمبيدات والأسمدة من منطقة الدلتا كلها تذهب في نهاية المطاف إلى هذا المصرف. جعلت كل هذه الملوثات المركزة جودة المياه بالموقع تتراوح ما بين 37 إلى 48 درجة على مؤشر جودة المياه القياسي، وهو ما يجعلها فقيرة الجودة طبقاً للتصنيف وغير قابلة للاستخدام الآدمي. إلا أنه يتم استخدام الكثير من هذه المياه في أنشطة عدة كالري وصيد الأسماك. إذ يتم إعادة استخدام المياه المتدفقة إلى المصرف من قبل المزارعين، بينما تتلقى منطقة الصيد الأهم بالمنطقة، وهي بحيرة المنزلة، 60 متر مكعب من مياه الصرف الصحي كل ثانية.
مشروع محطة صرف بحر البقر
بدأ مشروع محطة معالجة مياه الصرف الصحي ببحر البقر في عام 2019 بتكلفة تقدر بنحو 18 مليار جنيه. وتمتاز المحطة بكونها الأكبر من نوعها في العالم. إذ تبلغ مساحة المحطة 155 فداناً تستوعب كافة مبانيها وخزاناتها المختلفة المسئولة عن معالجة حوالي 5 ملايين متر مكعب من المياه من حوض بحر البقر كل يوم من خلال أربعة خطوط، قدرة كل منها على المعالجة 1.25 مليون متر مكعب من المياه يوميًا.
قامت أكثر من شركة مصرية بالعمل على هذا المشروع الضخم عن طريق تقسيم الأعمال والتنسيق المتواصل بينهم. وتصدر كلا من شركتي أوراسكوم للإنشاءات والمقاولون العرب قائمة الأعمال الخاصة بتشييد المحطة وذلك باشراف من الدولة المصرية. كذلك شمل العقد المبرم، البالغ قيمته 739 مليون دولار، مسئولية الشركات عن تشغيل المحطة وصيانتها على مدى الخمس سنوات المقبلة.
حزمة من المشاريع المرتبطة
لا ينحصر المشروع على محطة الصرف الصحي فقط. إذ أن مشروع بحر البقر يضم أيضًا محطات ضخ وناقل مياه، ومن المتوقع أن يتم الانتهاء منها جميعًا بحلول نهاية عام 2022. وهو ما يعني مساهمة مباشرة من المياه المعالجة بالمحطة في استصلاح الأراضي الواقعة في شرق قناة السويس بشبه جزيرة سيناء وامكانية زراعتها، وذلك طبقاً لاستراتيجية الدولة في تعمير سيناء وتحقيق تنمية تتسم بالاستدامة للمنطقة. حيث إنه من المخطط إرسال المياه من المحطة لري حوالي 475 ألف فدان من تلك الأراضي.
من هذا المنطلق، يتم اعتبار مشروع بحر البقر جزءً من الصعب فصله من برنامج تنمية سيناء. وهو البرنامج الشامل لمجموعة من مشاريع البنية التحتية ومبادرات التنمية التي تهدف إلى تعزيز الاقتصاد المحلي ورفع مستوى المعيشة لسكان محافظتي شمال وجنوب سيناء بما تشمله من مدن ومراكز وقرى. وبالفعل تم قطع شوط ضخم بهذا البرنامج عن طريق إنفاق ما يتراوح بين 600 إلى 700 مليار جنيه مصري على مجموعة متنوعة من المشاريع، بما في ذلك النقل والري والصرف الصحي والبنية التحتية للإسكان بين عامي 2014 و2020.
مصادر التمويل للمشروع
ساعد في تمويل المشروع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي (AFESD)، والذي قدر في عام 2019 أن التكلفة الإجمالية للمشروع بما يشمل من مرافق زراعية واستصلاح للأراضي وأعمال استشارية، ستصل إلى حوالي 44 مليار جنيه.
وكانت قد قدمت الصناديق الخليجية حتى سبتمبر من العام الحالي 220 مليون دينار كويتي أو ما يقابل حوالي 11.5 مليار جنيه. حيث قدم الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية قرضين بقيمة 75 مليون دينار كويتي. كذلك صرف الصندوق 145 مليون دينار كويتي على شريحتين من القروض. الأولى من هذه الشرائح قدرت بقيمة 70 مليون دينار كويتي في عام 2018 والثانية بقيمة 75 مليون دينار كويتي في العام التالي 2019.
ويقوم القطاع الخاص والحكومة بتمويل الجزء الأكبر المتبقي. حيث يتحمل القطاع الخاص ثلثي التمويل الإجمالي المقدر بـ 29.7 مليار جنيه مصري.
أرقام قياسية حول المشروع
حطمت محطة معالجة مصرف بحر البقر ثلاثة أرقام قياسية في موسوعة جينيس للأرقام القياسية فور افتتاحها. إذ أنها ليست فقط أكبر محطة معالجة في العالم، كونها تقوم بمعالجة 64.8 متر مكعب من المياه في الثانية، بل إنها أيضًا أكبر منشأة بيئية لمعالجة الحمأة وأكبر محطة لتوليد وتشغيل الأوزون في العالم. إلا أنه من المقرر ألا يستمر هذا الرقم متفوقاً لفترة طويلة. إذ تخطط الحكومة لتحطيم رقمها القياسي بمحطة مياه الصرف الصحي والزراعي بمدينة الحمام. وهو مشروع آخر قيد التنفيذ بنفس القطاع منذ شهر فبراير 2021. وتم تصميم المحطة الجديدة المذكورة لتقوم بمعالجة 6 ملايين متر مكعب من المياه يوميًا. وهو ما سيسمح بري ما يصل إلى 500 ألف فدان غرب منطقة دلتا النيل. وكانت الحكومة قد تعاقدت مع شركة أوراسكوم للإنشاءات وحسن علام للإنشاءات والمقاولون العرب وميتيتو من أجل تصميم وإنشاء هذا المشروع القومي.