يلعب القانون الدولي دوراً رئيسياً في تحديد ملكية الدول للموارد الطبيعية فهو يشكل الإطار الأساسي لهذا التحديد من خلال وضعة لقواعد تنظم ملكية الدول للموارد الطبيعية بما فيها المياه، وقواعد لمعالجة المشكلات الناتجة من تنازع الدول حول هذه الموارد ومنها الأنهار الدولية.
تعرف الأنهار الدولية بأنها التي تفصل او تجتاز اقاليم دولتين او اكثر وتباشر كل دوله سيادتها على الجزء الخاص من النهر الذي يجري في اقليمها، ولكنها تتقيد بان تراعي مصالح الدول الاخرى التي يمر بها النهر , وبصفه خاصه فيما يتعلق بالانتفاع المشترك بمياه النهر لأغراض الزراعة والصناعة وبالملاح النهرية الدولية
ويعتبر نهر النيل نهر دولي وهو من أطول انهار العالم حيث يبلغ طوله 6650 كم، ونصيب مصر من حصة مياة النيل 55.5 مليار متر مكعب، ونصيب السودان 18.5مليار متر معكب وهما دولتي المصب ونهر النيل من الأنهار الدولية ويمر من خلال احدى عشر دولة.
ويعد نهر النيل أقدم وأطول أنهار العالم وذلك لقيام أعظم وأقدم الحضارات على ضفافه وهي الحضارة الفرعونية، ويتميز نهر النيل بأنه يتجه من الجنوب إلى الشمال تبعا لميل الأرض مما يعطيه نوعا جغرافيا فريدا.
ومع بداية ظهور اتفاقية عنتيبي تصاعدت وتيرة الخلافات بين دول المنبع ودول المصبّ عندما أعلنت دول المنبع توقيعها اتفاقية عنتيبي في غياب دولتَي المصبّ متَنَكّرةً لجميع الاتفاقيات المنظِمة والمقرِّرة لحقوق مصر التاريخية في تلك المياه.
فغياب الإطار القانوني الجامع الذي يحظى بقبول الجميع يفتح مجالاً للصراع المائي الدولي بين دول حوض النيل.
وسوف نتناول بالتحليل النقاط الخلافية في أتفاقية عنتيبي والرد عليها وفقا لقواعد القانون الدولي ولحقوق مصر التاريخية في مياة نهر النيل
والتي نرى انها ما هي الا محاولة دول المنبع لإيجاد نظام جديد لاستخدام وتوزيع مياة النيل.
أولا: اتفاقية عنتيبي من منظور القانون الدولي:
في 14 مايو 2010 وقعت كلا من ( اثيوبيا – رواندا – تنزانيا – اوغندا – كينيا – بروندي) على اتفاقية عنتيبي دون انهاء الخلاف والمفاوضات مع دول المصب وهي مصر والسودان
وفي 2024 انضمت جنوب السودان للاتفاقية ووقعت عليها
رغم ان اتفاق عنتيبي كان الهدف منه ترسيخ أواصر التعاون بين دول حوض النيل لتحقيق الاستخدام المنصف والمعقول لمياة نهر النيل الا انه تضمن بعض الموضوعات التي من شأنها الخلاف بين دول المنبع ودول المصب حيث جاء الخلاف حول ثلاث نقاط وهي
- الماده (14) الخاصة بالامن المائي
- المادة (18) موافقة مصر على أي مشروع مائي تقام على أعالي النيل والإخطار المسبق
- الحقوق التاريخية لمصر والسودان
فدول المنبع ترغب في عدم الاعتراف بالاتفاقيات القائمة لمياه نهر النيل وهي التي تنص على عدم التأثير على الحقوق والاستخدامات الحالية لنهر النيل
كذلك كان الخلاف حول رؤية دول المنبع فتريد دول المنبع التوصل لاتفاقية متعددة الأطراف تتضمن إعادة تقسيم المياه بين دول حوض النيل ؛ ولكن دول المصب وهي مصر والسودان تريد التوصل لاتفاقية تتضمن المبادئ الأساسية للقانون الدولي التي تنظم التعاون والعلاقات بين دول حوض النيل واولوية هذه المبادئ في حقوق مصر والسودان في الحصص التاريخية لنهر النيل والتمسك بمبدأ عدم الضرر المرتكز الي مبدأ الحقوق المكتسبة والاستخدام المسبق.
ودافعت مصر والسودان كدول مصب عن الوضع القائم كحق مكتسب من اتفاقيات ومعاهدات دولية مبرمة سابقا ، بينما ترى دول المنبع وفي صدارتها اثيوبيا ضرورة وضع إطار قانوني جديد لتخصيص المياه وإعادة التفاوض على الاتفاقيات القائمة بالفعل والتوصل لاتفاقيات جديدة .
وهو ما نراه مخالف لقواعد القانون الدولي ومخالفته للمبدأ القانوني الدولي في حجية الامر المقضي به والتوارث الدولي للمعاهدات حيث ان ذلك بناء على معاهدات تم التصديق عليها سابقا ودخلت حيز التنفيذ واكتسبت شرعية دولية.
وقد خالفت اتفاقية عنتيبي قواعد القانون الدولي للاستخدام المجاري المائية الدولية ومن اهم تلك القواعد هي قواعد هلنسكي 1966 التي وضعت ھذه القواعد بمعرفة ” جمعیة القانون الدولي “، وھي أكبر منظمة مھنية متخصصة في مجال القانون الدولي، وقد كان لتلك القواعد أھمیة بالغة في تطور القانون الدولي للمیاه، وذلك لما تضمنته من مبادئ صارت محل قبول ال عدید من الدول المتعاونة في مجال الموارد المائیة المشتركة، وتسري ھذه القواعد بشكل عام على جمیع الدول المشاركة في أحواض الانهار الدولية ما لم تكن ھناك اتفاقیات أو معاھدات مُلزمة بین ھذه الدول تتضمن ما یخالفھا ومن اهم قواعد هلنسكي
– النصيب العادل والمنصف الذي تقرر في المادة السابقة يمكن تحديده على ضوء مجموعة من الاعتبارات الموضوعية، ومن بينها على سبيل المثال عدد السكان واحتياجاتهم المائية ، ومدى الاحتياج لعمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية لكل دولة.
- حمایة الحقوق التاریخیة المتمثلة في حجم المیاه السابق استخدامھا قبل نشوب النزاع.
ومن مبادئ القانون الدولي مبدأ الحقوق المكتسبة ومبدأ حظر الاستخدام الضار ومبدأ الإخطار والتشاور والتفاوض وبذلك تكون اتفاقية عنتيبي مخالفة لاتفاقيات الخاصة بمياه النيل كونها قائمة ومنتجة لاثارها طبقا لقواعد التوارث الدولي
كذلك خالفت اتفاقية عنتيبي لقاعدة توافق الآراء فيتم اللجوء لتلك القاعدة عند تفاوض الدول في أي اتفاق دولي متى كان موضوع الاتفاق يتصل بالامن القومي للدولة وباعمال تلك القاعدة علي اتفاقية عنتيبي في دعوة دول المنبع للتوقيع قبل توافق الآراء رغم اعتراض دول المصب وهم مصر والسودان هو مخالفة صريحة للقواعد الإجرائية المتفق عليها
مما يشكل ضرر لدول المصب .
كذلك الاتفاقيات التي ابرمتها مصر مع دول المنبع لم تكن الأخيرة تحت الاستعمار كما تردد فتعتبر جميعها سارية ونافذه ومنتجة لاثارها القانونية.
الاتفاقيات التي ابرمت خلال فترة احتلال بعض دول المنبع هي أيضا اتفاقيات ملزمة وتتوارث احكامها وهو ما أكدته اتفاقية فيينا بشأن التوارث الدولي وقرارات منظمة الوحدة الافريقية سنة 1963ى فأكدت جميعها على فكرة التوارث الدولي فليس من المعقول ان تتنازل مصر عن حقوقها التاريخية المقررة بموجب الاتفاقيات عن حقها في نهر النيل رغم الشح المائي وزيادة السكان مع ثبات نسبة مصر من مياه النيل.
المسئولية الدولية للاستخدام الضار لسد النهضة:
تتكون المسئولية الدولية للاستخدام الضار للأنهار الدولية عند وجود ضرر حتى لو كانت الأفعال المنشئة للضرر لا يحظرها القانون الدولي ومرجع ذلك نظرية المخاطر او التعسف في استخدام الحق التي تتمثل في وجود خطر يحقق ضرر لأحد اشخاص القانون الدولي فما نقصده هنا هو مسئولية اثيوبيا وهي دولة مشاطئة لنهر النيل ومن دول المنبع بتشييدها سد النهضة مما سبب اضرار تصيب دول مشاطئه وهي دول المصب تشترك معها في نهر النيل
وبناءا على ذلك تتحمل دولة اثيوبيا مسئولية قيامها بالاستغلال الضار للمياه متى قامت باستغلال النهر استغلالا يؤدي الي المساس بالمصالح الحيوية لدول النهر الأخرى او بأي منها وهو المتحقق فعليا من اضرار سد النهضة علي كلا من مصر والسودان.
فلا يمكن لأي دولة نهرية ان تتصرف بنحو فردي في استغلال النهر الدولي بصورة تؤدي الي احادث اضرار بالغة بمصالح دول أخرى او تعرض هذه المصالح للخطر ومن حق الدول المضرور ان تعترض.
وبعد عرض ما سبق والمسئولية الدولية للضرر الواقع على الدولة المصرية بصفتها دوله مصب من نقص الحصص المائية الخاصة بها فأننا نرى ان ذلك يضع مصر في مرحلة شُح مائي مما يحرم السكان من الماء وهو ما يتمثل في اهلاك السكان وحرمانهم من المياه مما يعد جريمة دولية متمثلة في جرائم ضد إنسانية يمكن مسائلة دولة اثيوبيا عليها وإقامة المسئولية الدولية ضدها.
ثانيا: المآلات والخيارات السياسية في قضية سد النهضة
لايمكن الحديث حول المآلات والخيارات السياسية فى قضية السد الإثيوبى دون أن أشير إلى أن موقف مصر تجاه هذه القضية يجب أن يكون درساً لكل دولة لديها نفس المشكلة، حيث قدمت مصر نموذجاً فريداً فى المفاوضات السياسية وإنتهاج مسار تفاوضى غير مسبوق يحرص على الحلول السلمية بعيداً عن أية خيارات عسكرية خاصة وأن مصر أكبر دولة إفريقية ملزمة بأن تضرب المثل فى كيفية التعامل مع الأزمات الإفريقية .
لم تتوان مصر منذ ظهور مشكلة السد الإثيوبى عن التحرك العاجل منذ عام 2011 من أجل التوصل إلى حل يحقق مصالح الأطراف الثلاثة وهم مصر والسودان وإثيوبيا وأن تكون الرسالة المصرية واضحة أمام الجميع وهى أن على الدول المتشاطئة أن تجعل من نهر النيل مجالاً للتعاون المثمر بين هذه الدول وليس مجالاً للصراع والتوتر والحروب وأن على هذه الدول أن تستثمر النهر فى دعم مشروعات التنمية والتقدم التى تحقق مصالح كافة الأطراف دون أن تجور على حق أى دولة مع الأخذ فى الإعتبار أن كل من مصر والسودان هما دولتى مصب بينما إثيوبيا هى دولة منبع .
إتجهت مصر فى مفاوضات ماراثونية إستغرقت أكثر من عقد من الزمان وتنوعت هذه المفاوضات بين أن تكون ثلاثية أو رباعية أو خماسية أو غير ذلك ووافقت على أن يكون الإتحاد الإفريقى هو المظلة التى يجب حل المشكله فى إطاره ثم كانت الخطوة المصرية الأهم وهى التوقيع على إتفاق إعلان المبادئ فى مارس 2015 الذى كانت ترى مصر أنه سوف يكون الأساس الملائم لحل أزمة السد الإثيوبى بشرط توافر الإرادة السياسية لكافة الأطراف لتنفيذ هذا الإعلان وخاصة إثيوبيا .
حرصت مصر على أن تتجاوب مع كافة جهود الوساطة الدولية التى كان من بينها الجهود الأمريكية خلال فترة حكم الرئيس السابق “دونالد ترمب” ووصل الأمر إلى بلورة إتفاق متكامل لحل الأزمة فى فبراير 2020 ووقعت مصر بالأحرف الأولى على الإتفاق ( المبدئى) إلا أن إثيوبيا غابت عن الإجتماع وبالتالى لم يكتب لهذا الإتفاق الهام أن يخرج إلى النور لاسيما وأن الضغوط الإقليمية والدولية كانت أيضاً غائبة ولم نراها على الإطلاق .
ولم تجد مصر مفراً من أن تلجأ إلى مجلس الأمن أكثر من مرة حتى يضطلع بمسئولياته فيما يتعلق بالحفاظ على الأمن والسلم العالمى وقدمت مصر كافة الأسانيد التى تؤكد التأثير السلبى للسد الإثيوبى على الأمن القومى المصرى المائى، إلا أن المشكلة تبلورت فى جوهرها فى طبيعة التشدد الإثيوبى ورفض كافة المقترحات المصرية والدولية التى من شأنها حل الأزمة حلاً سياسياً وكان من الواضح أن رئيس الوزراء الإثيوبى “آبى أحمد” يستثمر قضية السد لتحقيق أهداف داخلية .
لايزال الموقف المصرى واضحاً ويقوم على أساس ضرورة التوصل إلى حل عادل وشامل وقانونى وملزم بالنسبة لإدارة وتشغيل السد وأن يتم بلوغ هذا الحل من خلال المفاوضات التى تمثل الإسلوب الوحيد لحل الأزمة، وأن على المجتمع الدولى أن يتدخل بفاعلية لحل قضية السد حيث أن مصر وهى لاتزال ملتزمة بالمسار السياسى لن تقبل أن يتاثر أمنها القومى المائى ولن تقبل أن يتم تعطيش شعبها حيث أن قضية المياه فى النهاية هى مسألة حياه أو موت .
وبالتالى فبالرغم من الجمود الحالى الذى يحيط بقضية السد الإثيوبى إلا أن هذه القضية لاتزال تحتل أولوية هامة فى أولويات الأمن القومى المصرى، ولن تتوقف مصر عن التعامل معها بكل جدية مطلوبة ، ومن ثم فإن مصر لاتزال تطالب الجانب الإثيوبى بالعودة إلى مائدة المفاوضات من منطلق أننا لسنا ضد أن تقوم إثيوبيا بالتنمية الإقتصادية لصالح شعبها ولكن عليها أن تعلم فى نفس الوقت أن هناك مصالح مائية لشعب آخر يتجاوز تعداده 110 مليون نسمه يعتمد على نهر النيل بنسبة حوالى 95% من مصارده المائية وهو شعب لن يقف مكتوف الأيدى إذا وصل إلى مرحلة التعطيش التى نأمل ألا نصل إليها .