في تبريره لقرار حل مجلس الأمة وتنظيم انتخابات جديدة، قال الرئيس الفرنسي: إن “التوضيح بات ضروريًا” وإنه “غاضب من أداء مجلس الأمة” لعدة أسباب منها؛ عدم وجود أغلبية مطلقة، وممارسات حزب فرنسا العصية.
لكن لو اعتبرنا أن هذا وصف دقيق لدوافع قرار الحل فلا بد من الإقرار بفشل المحاولة، فالمجلس الجديد يفتقر أيضًا إلى أغلبية واضحة، فما حدث أن الائتلاف المؤيد للرئيس تراجع ليصبح القوة الثانية في البرلمان، وخسر عشرات المقاعد، ولكن الخسائر جاءت أقل بكثير مما توقعته استطلاعات الرأي.
فبعد الإعلان عن النتائج النهائية، من الواضح أن أهم كتلة في المجلس (ائتلاف اليسار) لم تحصل إلا على ١٧٨ مقعدًا (قد يضاف إليها عشرة يساريين مستقلين)، في حين أن الطرف الغالب في المجلس المنحل كان يتمتع بـ٢٥٠ مقعدًا، ولو كان الرئيس مستاء من أداء فرنسا العصية، فإن “فرنسا العصية” لا تزال موجودة ولم يتراجع نصيبها من المقاعد.
وأوضحت الرؤية حدة وجسامة المأزق الفرنسي عبر عدة نقاط تتلخص في:
- بتبسيط قد يكون مخلًا.. قال الفرنسيون في الجولة الأولى للانتخابات: “لا نريد استمرار ائتلاف الرئيس في الحكم”، وقالوا في الجولة الثانية: “ولا نريد وصول حزب التجمع الوطني (يميني متطرف) إلى الحكم”، ولكن هذا لا يعني أنهم يريدون حكم تحالف اليسار.
- لا توجد أغلبية مطلقة: في فرنسا ثلاث كتل كبيرة وكتلة صغيرة، منها اليسار (١٧٨ مقعدًا قد ينضم إليهم عشرة نواب يساريون ليسوا أعضاء في التكتل في البرلمان الجديد)، والوسط المؤيد للرئيس (١٦٣ مقعدًا في البرلمان الجديد)، وأقصى اليمين (١٤٣ مقعدًا في البرلمان الجديد)، والجمهوريون وحلفاؤهم (٦١ مقعدًا). فلا يتمتع أي منها بأغلبية لا في البلاد (في عدد أصوات الناخبين) ولا في البرلمان. والمشكلة أن النظام السياسي للدولة (مختلط رئاسي وبرلماني في آن واحد) مصمم لتسهيل تمكين أغلبية (في البلاد أو البرلمان)، ويُصاب بالعطب إن لم توجد هذه الأغلبية.
- منطق أخف الأضرار: أكدت كل استطلاعات الرأي أن دوافع ما لا يقل عن ٤٠٪ وربما ثلثي الناخبين هي “إسقاط من يكرهون”، وأن تصويتهم لنائب لا يعني اقتناعهم به أو بحزبه. ما هو واضح أن هناك أغلبية مطلقة ترفض اليسار، وبالذات حزب فرنسا العصية، وأغلبية مطلقة أخرى ترفض الوسط، وأغلبية مطلقة ترفض أقصى اليمين. وأستشهد بمقولة رددها بعض الأصدقاء: “سأبصق في وجه من انتخبته الشهر المقبل”. يُعقّد هذا الوضع وهذه المعطيات حكم فرنسا إن وجدت أغلبية مطلقة، ويعقدها أكثر إن لم توجد أصلًا.
- استمرار ظاهرة عدم تمثيل البرلمان للمشهد الفرنسي: أكتفي بمثال واحد يوضح مقصدي. حزب مارين لوبن نال عددًا من الأصوات أكبر بكثير من عدد أصوات ائتلاف اليسار. لو كانت الانتخابات بالقائمة النسبية لجاء حزبها في المركز الأول، ولكن تكتل الأصوات ضد مرشحي أقصى اليمين أدى إلى خسارة مرشحي الحزب في أغلب الدوائر حتى تلك التي سجلوا فيها نتيجة مرتفعة للغاية في الجولة الأولى، واحتل الحزب المركز الثالث. ويضاف إلى هذا أنه لا يمكن التأكد من اتجاهات الرأي العام، فكما أسلفنا التصويت حكمه منطق إسقاط العدو الأشد خطرًا ولم يحكمه منطق اختيار المرشح المعبر عن القناعات الشخصية.
- تناقض تطلعات وطلبات الناخبين الفرنسيين. قالت بنت أخت مارين لوبن في نوع من أنواع البكائية أن الاستطلاعات تثبت أن موقف الفرنسيين من أغلب الملفات هو موقف يميني، ورغم هذا ينتخبون اليسار، واستسهلت اتهام نخب الجمهوريين الذين يفضلون التحالف مع اليسار عن التحالف مع حزبها. بيد أن هذا الكلام غير دقيق. مواقف الفرنسيين من قضية الهوية الثقافية للدولة ومن الهجرة ومن ملفات الأمن ومن قوة السلطة التنفيذية أقرب فعلًا إلى مواقف اليمين، ولكن موقفهم في ملفات القدرة الشرائية وتشريعات العمل والمنظومات الاجتماعية أقرب بكثير من مواقف اليسار. وهذا الوضع هو الذي مكن الرئيس ماكرون وبرر تأسيس كتلة وسطية شعارها “نحن يمين ويسار في آن واحد” ولكن الموقف الشخصي للرئيس بدا وكأنه عكس موقف الأغلبية الفرنسية في أغلب الملفات وهذا– إلى جانب عيوبه الشخصية وأسلوبه في ممارسة الحكم- هو سبب تراجع شعبيته.
موازين القوة/الموقف الآن
- أيًا كانت النتيجة النهائية من الواضح أن عدد مقاعد كل من الجبهة الشعبية الجديدة (يسار) وحزب التجمع الوطني (أقصى يمين) أكثر من الأغلبية المطلقة بوضوح (٣٢٠ مقعدًا تقريبًا من ٥٧٧)، ومن المعروف أنهما لن يحكما معًا، وإن كانا يستطيعان معًا إسقاط أي حكومة أو أي مشروع قانون.
- وبالتالي من الواضح أن أي حكومة لن تعيش إلا لو ضمنت حياد عدد معتبر من النواب المنتمين لهاتين المجموعتين (يتوقف هذا العدد على شكل الحكومة ومدى تمثيلها للمجموعات البرلمانية الأخرى)، أو انضمام هذا العدد المعتبر إلى الائتلاف الحاكم إن جاء من أحزاب الأقلية.
- وبالتالي السؤال الذي يفرض نفسه.. هل لائتلاف اليسار ولليمين المتطرف مصلحة في مقاربة بناءة، أم لهم مصلحة في أزمة حكم لمحاولة دفع الرئيس إلى الاستقالة لأنه صاحب القرار الذي أدى إلى هذا الوضع. وعندما أقول مقاربة بناءة أقصد تبني أحد الخيارين فيما يخص ائتلاف اليسار.. إما السعي إلى بناء حكومة قادرة على ممارسة الحكم ويقتضي هذا التحالف مع ائتلاف الوسط وتقديم تنازلات مهمة أي ترك أركان مهمة من برنامجهم الاقتصادي (وهو برنامج مجنون أصلًا)، أم عدم الاعتراض على حكومة أقلية، وفيما يتعلق بحزب مارين لوبن فإن هذا يعني عدم السعي إلى إسقاط حكومة.
- ائتلاف اليسار يجمع بين قوى لها مصالح وتوجهات وتكتيكات متناقضة، نقول أولًا أن حزب فرنسا العصية هو أقوى حزب في الائتلاف ولكنه لا يملك الأغلبية المطلقة فيه، فلديه ٧٨ مقعدًا من ١٧٨، هذا الحزب له مصلحة في انتخابات رئاسية مبكرة، آملا في وصول رئيسه إلى الجولة الثانية من هذه الانتخابات وفي أن تصل معه مارين لوبن ليتمكن بالفوز بالرئاسة. وبالتالي لا مصلحة له في حلول وسطى تسمح بتشكيل حكومة قابلة للاستمرار. ولهذا وجدنا قائده ورموزه يشددون على ضرورة أن يكون رئيس الحكومة من صفوفهم، وعلى ضرورة تنفيذ البرنامج الذي تمت صياغته بكل حذافيره. وطبعًا هذا الموقف لن يسمح بتشكيل حكومة. السؤال هل يمكن لهذا الحزب تغيير موقفه وما هو الثمن الذي سيطلبه لهذا؟ شخصيًا لا أتصور أنه سيبدي المرونة الكافية ولكنني أعترف أنني سيء الظن به.
- الكثير يتوقف إذن على موقف الاشتراكيين والخضر وبدرجة أقل على موقف الشيوعيين. الاشتراكيون والخضر يواجهون مأزقًا رغم نجاحهم في زيادة عدد مقاعدهم زيادة كبيرة. أشرنا في أوراق سابقة إلى ضغوط “الشارع اليساري” من أجل وحدة الصف اليساري، ويعلم كوادر كل الأحزاب أن أغلب الفرنسيين سئموا حكم الرئيس، وأن التحالف مع هذا الرئيس سيعرضهم لكم من الانتقادات من عينة “خدعتم ناخبيكم” و”قدمتهم قبلة الحياة لرئيس مكروه”. وفي المقابل يعلمون أن البرنامج المشترك كارثي وغير قابل للتطبيق، وأن هناك حججًا قوية لتشكيل حكومة وسطية يسارية معتدلة وواقعية، حاليًا الموقف المعلن للاشتراكيين هو: “لا نستطيع تغيير البرنامج ولا نستطيع خيانة ناخبينا ولكننا نوافق على انضمام من يريد الانضمام إلينا”.. هذا الكلام معناه: “نفضل عدم الوصول إلى سدة الحكم على التنازل ببعض بنود برنامجنا”. هل هذا هو موقف كل النواب وهل هذا الموقف نهائي؟ لا أعلم، على سبيل المثال الموقف المعلن للرئيس السابق هولاند الذي تم انتخابه نائبًا مختلفًا، ومن ناحية أخرى هل يعني هذا “ولن نؤيد حكومة لا نكون ممثلين فيها”؟ لا أعلم. أما الخضر فموقف رئيسة الحزب هو ضرورة إبداء المرونة ولكن هذا الحزب –على عكس فرنسا العصية– يعمل بآليات ديمقراطية وعلى رئيسته الحصول على موافقة هيئات الحزب وهذا غير مضمون.
- نظّم قادة أحزاب اليسار قمة جمعتهم ليلة إعلان النتيجة ولم يتم إعلان أي شيء. يبدو لي أن أصحاب مذهب تقديم التنازلات لتشكيل حكومة ائتلافية عليهم الانتظار مهلة من الوقت، حتى تفشل محاولات الصقور والمتمسكين بالبرنامج لتشكيل حكومة، وحتى ينفذ صبر الفرنسيين ليفضلوا تحالفًا يجمع بين اليسار وحزب الرئيس على الجمود الناتج عن تصلب الجميع.
- نتيجة أقصى اليمين الفرنسي جاءت مخيبة لآمال أنصاره وهم فيما يبدو ثلث الرأي العام الفرنسي تقريبًا، لا يزال حزب مارين لوبن أقوى حزب فرنسي، ورغم شبه إجماع باقي القوى السياسية على ضرورة عدم تمكينه من الوصول إلى الحكم، فإنه حسن حصته من المقاعد، هذا الفشل يعود إلى ما يسمى في فرنسا بـ”الجبهة الجمهورية” أي اتفاق الجميع على ضرورة إسقاطه في الانتخابات، ومشكلة الحزب المزمنة هو عدم وجود “مخزون من الأصوات” –أي أصوات تذهب إلى مرشح آخر في الجولة الأولى ثم تنتخبه هو في الجولة الثانية-، ولكن الفشل يعود أيضًا إلى كم مذهل من الأخطاء، على سبيل المثال حديث قادة الحزب عن ضرورة إقصاء أصحاب جنسيتين من عدد من المناصب، كما كشف الإعلام عن سير وتراجم عدد كبير من مرشحيه.. ويلاحظ –وإن كنت لا أعلم مدى تأثير هذا- أن مرشح الحزب لرئاسة الوزارة لم يحصل على شهادة جامعية وهو شاب عديم الخبرة وإن كان يتمتع بشعبية كبيرة نسبيًا.
- السؤال هو.. هل لمارين لوبن مصلحة كمصلحة فرنسا العصية للتسبب في أزمة تدفع الرئيس إلى الاستقالة وفي تنظيم انتخابات مبكرة. الرد ليس واضحًا. من ناحية هناك مشكلة مخزون الأصوات السابق الإشارة إليها، وفي الوقت نفسه قد تكون لها مصلحة في “التصرف بروح المسئولية” لكي لا تنسب أي أزمة إلى مناوراتها. ومن ناحية أخرى قد ترى مارين لوبن الآن أو بعد قليل أن الجولة الثانية من انتخابات رئاسية ستكون حتمًا بينها وبين السيد ميلانشون رئيس فرنسا العصية وهو وجه منفر لثلاثة أرباع الفرنسيين. وأن فرصة فوزها بمثل هذه الانتخابات كبيرة.
- وعلى العموم لا يملك ميلانشون ومارين لوبن العدد الكافي من النواب ليتسببوا في أزمة حكم.. ما لم يضمن ميلانشون تأييد الاشتراكيين. (لا أرى حاليًا أي مصلحة للجمهوريين في التسبب في أزمة حكم).
- نأتي للرئيس ورجال ونساء حزبه. للرئيس مصلحة في كسب الوقت حتى ينفذ صبر الفرنسيين ويقبلوا بفكرة ائتلاف يضم ائتلافه وقوى أخرى. نلفت النظر أولًا أن حزبه حصل على ٩٩ مقعدًا، وأن حلفاءه من يمين الوسط حصلوا على ٦٤ مقعدًا. يراهن على نفاذ صبر الفرنسيين ليتمكن من تشكيل ائتلاف لا يغير من سياساته كثيرًا وإن جنحت إلى اليسار قليلًا، ولكن هذا يفترض العثور على صيغة تنال رضا يمين الوسط والاشتراكيين وهذا يبدو صعبًا ولكنه ليس مستحيلًا. أقول إنه صعب لأنني أتصور أن الاشتراكيين سيطالبون بثمن كبير مقابل فضهم لائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة.
- وهناك مشكلة أخرى من الصعب تحديد جديتها وقابليتها للبقاء. أعضاء الائتلاف الرئاسي غاضبون بشدة ضد الرئيس لأنه صاحب القرار الذي أدى إلى هذا الوضع، وهو قرار تسبب في فقدانهم لنصف مقاعدهم تقريبًا بلا أخطار وبلا أي داعٍ. وعلى سبيل المثال قال رئيس الوزراء غابريال عتال: “قرار الحل لم يكن قراري ولم أختره ولكنني رفضت أن أتعامل معه بسلبية”. وأضاف وقد يكون هذا الأهم.. “مركز السلطة الآن في البرلمان” وقصد طبعًا أنه لم يعد في الرئاسة. وبالتالي هناك شكوك في قدرة الرئيس على فرض خيار على رجاله، ولكل منهم حساباته ورأيه (فيما يتعلق بتشكيل حكومة ائتلاف ومع من وفيما يتعلق بانتخابات رئاسية مبكرة). قال السيد دارمانان وزير الداخلية: إن التحالف مع الجمهوريين ضروري، وقالت السيدة بلوبي: إن التحالف مع اليسار ضروري.
- قال بعض الإعلاميين إن الشهر الأخير شهد زيادة كبيرة في الرصيد الشعبي لعتال ودرمانان، فهما الذين خاضا المعركة الانتخابية وسمحا لائتلاف الرئيس بتقليل الخسارة (في وقت ما بدا الأمر وكأن حزب الرئيس لن يحصل على أكثر من ٦٠ مقعدًا). هل هذا حقيقي وهل يمكن ترجمة هذا الرصيد إلى قوة سياسية؟ لا أعلم لا سيما أن الرئيس سيحاول “نتفهم”.
الخلاصة
ما لم تحدث معجزة لا أتصورها، لن تتشكل حكومة قبل نهاية الألعاب الأوليمبية، وربما قبل نهاية الصيف. من الصعب تخيل صيغة تسمح بائتلاف اليوم، قد يتسبب مرور الوقت في “تليين” المواقف، وقد يدفع عدد كافٍ من الفرقاء إلى محاولة دفع الرئيس إلى الاستقالة.
أتصور أن الحكومة الحالية ستكلف بتسيير الأعمال، هناك من يتحدث عن سيناريوهات بديلة.. أقصد غير استمرار الحكومة الحالية واكتفاءها بتسيير الأعمال أو التوصل إلى حكومة ائتلافية أو دفع الرئيس إلى الاستقالة.
- حكومة فنيون وتكنوقراط لا سياسية. إسوة بما حصل في إيطاليا مع حكومة السيد دراغي، ولكنني لا أتصور هذا ممكنًا حاليًا. سيعمل عدد كبير من الفاعلين على إسقاطها.
- تعاقب حكومات أقلية يكون عمر أي منها قصيرًا للغاية، ويستمر الوضع كذلك لمدة سنة ثم يقوم الرئيس الحالي بحل البرلمان.
باختصار.. الوضع ضبابي.