في إطار رفع مستوى التبادلات الدبلوماسية المصرية التركية إلى المستوى الرئاسي منذ زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان للقاهرة في 14 فبراير الفائت، يُجري الرئيس عبد الفتاح السيسي زيارته الأولى إلى أنقرة منذ توليه مهام منصبه يوم 4 سبتمبر، وذلك عقب عملية إعادة تقييم ومراجعة للعلاقات الثنائية على قاعدة التفاهم بشأن تسوية الخلافات العالقة وبناء تفاهمات مشتركة فيما يتعلق بالملفات الإقليمية على أساس تقبل التعارضات المصلحية، وتشهد الزيارة عقد الاجتماع الأول لمجلس التنسيق الاستراتيجي رفيع المستوى الذي نشأ بموجبه اتفاقية ثنائية خلال زيارة أردوغان للقاهرة.
خطوات تمهيدية
شهدت الفترة الزمنية الفاصلة بين زيارة أردوغان لمصر وزيارة السيسي لتركيا خطوات على صعيد الارتقاء بالعلاقات الثنائية وإدارتها وفق نمط طبيعي وتأكيد عودتها إلى المسار الاعتيادي، نذكر منها:
• مناقشة الشراكة الدفاعية والعسكرية: أجرى رئيس أركان القوات المسلحة المصرية الفريق أسامة عسكر زيارة لأنقرة خلال شهر أبريل 2024 التقى خلالها بنظيره التركي الفريق أول متين غوراك تُعد الأولى لمسئول عسكري مصري رفيع المستوى لتركيا منذ 2013، ومن المؤكد أن اللقاء ناقش ملامح شراكة دفاعية مستقبلية تُضفي بُعدًا استراتيجيًا طويل الأمد على العلاقات الثنائية، حيث تبرز تكنولوجيا الطائرات بدون طيار والتصنيع المشترك لبعض المكونات العسكرية للمُسيرات والسفن الحربية والذخائر كمجال واعد للتعاون بالنظر لامتلاك أنقرة تكنولوجيا تصنيع عسكري متطورة نسبيًا مكنتها من حجز مقعدها كلاعب رئيسي في سوق الدفاع العالمي.
وتضمنت زيارة الفريق عسكر جولة تفقدية لبعض شركات الصناعات الدفاعية التركية لمشاهدة بعض الطرازات المُنتجة؛ منها شركة “بايكار”، حيث شاهد عددًا من الطائرات المُسيرة من طراز “كيزيل إلما” المخصصة لأغراض القتال الجوي، وشركة “توساش” إذ تفقد بعض الطرازات أيضًا مثل طائرة التدريب المتقدم والهجوم الخفيف “حرجيت”، والمُسيرة “بيرقدار TB2″، والمروحية “تي – 129”. وكان السفير التركي بالقاهرة صالح موطلو شن، كشف خلال تصريح سبق زيارة أردوغان في فبراير الماضي، موافقة بلاده على توفير طائرات مقاتلة بدون طيار وغيرها من التقنيات الدفاعية المتطورة لمصر، ولا شك أن اللقاء الثنائي بين السيسي وأردوغان واجتماع مجلس التنسيق الاستراتيجي سوف يُقر التفاهمات التي جرى التوصل إليها عبر القنوات الوزارية.
ويُسهم التعاون الأمني والدفاعي في توسيع الثقة بين البلدين ويُمكنهما من تحقيق مصالحهما الاستراتيجية، وتكتسب تكنولوجيا المُسيرات أهمية بالنسبة للقاهرة كونها تضمن لها تحقيق توازن عسكري استراتيجي في الشرق الأوسط في ظل امتلاك المنافسين الإقليميين تكنولوجيا طائرات مُسيرة متطورة وانتشارها بين الفواعل المسلحة من دون الدولة كالمليشيات الإيرانية والتنظيمات الإرهابية، علاوة على تعزيز قدرات مصر الدفاعية، ومنحها ميزة تكتيكية في المعارك، حيث تتميز المُسيرات التركية بقدرتها على تنفيذ مهام متنوعة تشمل الاستطلاع والمراقبة وتوجيه الضربات الدقيقة.
• إطلاق مشروعات استثمارية: ظل العامل الاقتصادي والتجاري المتنفس الوحيد للعلاقات المصرية التركية خلال مرحلة التوترات عندما قرر البلدان النأي به عن مسار الخلافات السياسية، ولعله أيضًا من الملفات التي ستشهد تقدمًا إيجابيًا عقب تحسن العلاقات، ومن ملامح اهتمام البلدان برفع الاستثمارات المتبادلة، وضع الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس حجر الأساس للمشروع الاستثماري “إروغلو غارمينت” (Eroglu Garment) للملابس الجاهزة، بمنطقة القنطرة غرب الصناعية بالتعاون مع مجموعة “إروغلو غلوبال” القابضة التركية، بإجمالي استثمارات 40 مليون دولار على مساحة 64 ألف متر مربع من المخطط توسعتها مستقبلًا على مساحة 400 ألف متر مربع، ويشغِّل المشروع 2750 عاملًا بعد تشغيله بحلول يناير 2025.
كذلك، وسعت عدد من الشركات التركية في مدينة العاشر من رمضان خطوط إنتاجها، ومنها شركة “جيد تكستايل” التي افتتحت مصنعًا جديدًا لإنتاج المنسوجات والملابس الرياضية ليرتفع عدد مصانعها بمصر إلى 5 موزعين على ثلاث محافظات هم الشرقية والإسكندرية والإسماعيلية، بواقع 300 خط إنتاج باستثمارات 250 مليون دولار، كما تخطط شركة “كيرفن” لتصنيع الحلويات لإضافة ما يزيد على 12 خط إنتاج جديد خلال السنوات القادمة. كما وقعت شركة المجموعة المصرية للمحطات متعددة الأغراض EGMPT التابعة لوزارة النقل وشركة دوغوس القابضة “Doğuş Group” التركية مذكرة تفاهم لإنشاء منطقة صناعية لوجستية تركية بالمنطقة الاقتصادية بجرجوب تستهدف جذب استثمارات مباشرة بقيمة 7 مليارات دولار طوال مدة المشروع وتوفير حوالي 20 ألف فرصة عمل.
• تنفيذ تدريب بحري محدود: أجرت السفينة الحربية التركية “قنالي أدا” (Kınalıada) تدريبًا بحريًا عابرًا مع الفرقاطة “الفاتح” التابعة للقوات البحرية المصرية، بهدف استعراض الصداقة المصرية التركية، حيث توقفت السفينة التي قامت بزيارات ودية لموانئ بعض الدول مثل اليابان وقطر، في قاعدة الإسكندرية البحرية يومي 18 و19 أغسطس 2024.
ملامح الزيارة ومدلولاتها
تكتسب زيارة الرئيس السيسي إلى أنقرة أهمية خاصة نظرًا لسياقها ومدلولاتها كما أنها تمثل عودة بالعلاقات إلى النهج المُتعارف عليها في الأعراف الدبلوماسية؛ ويُمكن إبراز أهميتها على النحو التالي:
• تُظهر الزيارة قدرة البلدين على تفعيل آليات العمل الدبلوماسي على المستوى الرئاسي، الذي هو أعلى مستوى سياسي ومركز عملية صناعة القرار الاستراتيجي في الدولة، عقب مرحلة بلغت خلالها العلاقات الثنائية ذروة مستويات التوتر واتسمت بتبني سياسة حافة الهاوية والاشتباك اللفظي، مما يُعبر عن درجة عالية من النضج السياسي مكنت الدولتين من التحول عبر خطوات بطيئة ولكنها ثابتة باتجاه تصفية العلاقات الثنائية من شوائب الأيديولوجية والشخصنة التي حكمت تفاعلاتها إلى آفاق بناء الثقة وتضييق الفجوات والبحث عن التفاهمات بشأن القضايا الإشكالية. ولعل هذا ما أدركته القاهرة مبكرًا ودفعها للنأي بنفسها عن الاشتباك أو التفاعل مع التصريحات أو الممارسات الاستفزازية لتجنب قطع الطريق أمام العودة للمسار الصحيح للعلاقات استنادًا إلى قاعدة “لا عداء دائم ولا صداقة دائمة في السياسة”.
• تُتيح مأسسة العلاقات الثنائية من خلال الانعقاد الدوري لمجلس التنسيق الاستراتيجي الفرصة لتبادل الرؤى والأفكار ووجهات النظر واستكشاف القضايا الإشكالية والعمل على معالجتها واحتوائها لتفادي انزلاق العلاقات إلى نقطة اللا عودة، كما تُبين تفضيل الجانبين للحوار كآلية فاعلة، وتسمح برسم الخطوط العريضة لمسار العلاقات التي ستتحرك عليها المستويات التنفيذية والبيروقراطية الأدنى من قبيل الوزارات ومجالس رجال الأعمال والغرف التجارية فيما يتعلق بالتعاون في مجالات مثل التجارة والاقتصاد والسياحة والتعليم والصحة والتكنولوجيا والدفاع والطاقة والبناء والنقل والاتصالات والثقافة والصناعة وغيرها، كما أنها بمثابة إقرار رئاسي للتفاهمات على المستوى الأدنى.
• يُعد الوفد المصاحب للرئيس السيسي وموضوعات النقاش والاتفاقيات المزمع توقيعها كاشفين عن أولويات الزيارة وأهدافها ونتائجها المتوقعة؛ إذ يُصاحب السيسي مجموعة من رجال الأعمال المصريين فضلًا عن 10 وزراء، وبحسب المُعلن تتضمن أجندة الزيارة مناقشة التعاون في مجالات الصحة والسياحة والدفاع والطاقة المتجددة والتعدين والغاز الطبيعي المسال والإعلام والاتصال والجامعات، فضلًا عن توقيع اتفاقيات تشمل الجوانب التجارية والاقتصادية والثقافية والصحية. وتدلل القضايا المذكورة أن التقدم على مسار الملفات الثنائية الداخلية سيأخذ وتيرة أسرع مقارنة بالملفات الإقليمية، وربما ذلك راجعًا لكون الموضوعات الاقتصادية والخدمية أقل ارتباطًا بتباينات الرؤى المتعلقة بالمصالح الاستراتيجية العليا للدولة، وغير خاضعة لإرادات فواعل خارجية متعارضة، ومن ثَمّ فإنجاز التفاهمات بشأنها لا يتطلب سوى توفر الإرادة الثنائية والإمكانيات المادية واللوجستية والبشرية.
ويأتي الملف الاقتصادي على أولوية اهتمامات البلدين بالنظر لمرورهما بأزمات متشابهة تتعلق بارتفاع معدلات التضخم وعدم استقرار سعر العملة، حيث يستهدف البلدان استغلال الإمكانيات المتوفرة لدى كلاهما (الخبرات الصناعية المتقدمة لدى تركيا والعمالة الرخيصة والمناطق الصناعية المؤهلة على غرار المنطقة الاقتصادية لقناة السويس) لخلق فرص استثمارية مهمة للمستثمرين الأتراك في مصر، وتقدر قيمة الاستثمارات التركية الإجمالية بحوالي 3 مليارات دولار توفر 70 ألف فرصة عمل مباشرة ونحو 100 ألف فرصة عمل غير مباشرة من خلال 200 شركة تركية تعمل بمصر أبرزها “أركليك” (Arcelik) و”سيسكام” (Sisecam) و”تمسا” (Temsa) و”يلديز القابضة” (Yildiz Holding).
كذلك، يتطلع الجانبان إلى رفع حجم التبادل التجاري من نحو 10 مليارات دولار حاليًا إلى حوالي 15 مليار دولار، وبلغت قيمة التجارة الخارجية غير النفطية بين البلدين نحو 6.6 مليارات دولار خلال عام 2023، بمستوى صادرات يبلغ 3.8 مليارات دولار، وواردات تبلغ 2.8 مليار دولار، لتصبح بذلك أكبر شريك تجاري لتركيا في القارة الإفريقية. ويشمل هيكل الصادرات المصرية لتركيا الوقود والزيوت المعدنية، والبلاستيك والأسمدة، مقابل هيكل الواردات المتضمن الحديد والصلب، والآلات والأجهزة الكهربائية، والوقود والزيوت المعدنية.
ويتصل بالبُعد التجاري للعلاقات، إمكانية عقد مباحثات بشأن إعادة تشغيل خط النقل البحري “الرورو” الذي توقف عام 2015 نظرًا لعدم ملاءمته للقاهرة، ويكتسب هذا الطريق التجاري البحري أهمية متزايدة لتركيا خلال المرحلة الراهنة نظرًا لإغلاق مسار التجارة عبر ميناء حيفا الإسرائيلي الذي اعتمدت عليه أنقرة لتصدير بضاعتها إلى الخليج على خلفية التوترات الجارية مع إسرائيل بسبب حرب غزة، على أن تراعي صيغة تشغيل الخط مصالح الطرفين المصري والتركي بحيث تتضمن تقديم تسهيلات للصادرات المصرية إلى أوروبا عبر الموانئ التركية، وبالأخص الحاصلات الزراعية سريعة التلف بما يعزز الصادرات المصرية ويفتح أسواقًا جديدة أمامها، مقابل نقل الصادرات التركية من ميناءي مرسين وإسكندرونة التركيين إلى موانئ دمياط وبورسعيد قبل شحنها لاحقًا إلى ميناء العرب على البحر الأحمر، ثم تحميلها على متن السفن التركية إلى دول الخليج.
• ينعقد الاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي بينما يموج المشهد الإقليمي باضطرابات عصفت بحالة الاستقرار الهشة التي أنتجتها المصالحات الإقليمية، ولا شك أن قضايا الوضع الإقليمي المشتعل تحتل أولوية أجندة الاجتماع وفي مقدمتها موضوعات غزة والسودان والصومال وليبيا، وهي قضايا تُضفي بُعدًا إقليميًا على علاقات البلدين وتخلق مساحات للتفاهم والتنسيق المشترك تسمح بتجاوز مرحلة الانحصار في القضايا الخلافية. وباعتبارهما فاعلين مهمين في الشرق الأوسط، يُمكن أن تلعب الدولتان دورًا في تقليص الأزمات الحالية بالمنطقة ومنع وصولها إلى مستويات لا يُمكن السيطرة عليها وتحولها إلى صراع إقليمي إذا تمكنتا من التوفيق بين مصالحهما وسياساتهما الاستراتيجية.
• انطلاقًا من حقيقة أن المتغيرات العالمية والإقليمية لطالما حكمت مستويات الصعود والهبوط في العلاقات الثنائية، فإن مقتضيات الظرف الإقليمي الراهن المتعلق بحرب غزة والاشتباكات المرتبطة بها في مختلف أنحاء المنطقة، توفر لحظة سياسية مناسبة لتجاوز القضايا الخلافية وإدارتها والتشاور بشأن مستقبل الشرق الأوسط عقب انتهاء الحرب؛ فالأطراف جميعها تدرك أن حرب غزة لها ما بعدها وأن ملامح اليوم التالي ستفرز متغيرات جديدة، وستعيد تشكيل موازين القوى الإقليمية، وسيصاحبها تغييرات في استراتيجيات الدول الكبرى بالمنطقة، علاوة على إمكانية تزامنها مع توقيع تفاهمات أمنية بين أطراف عربية وإقليمية ودولية، مما يدفع دول المنطقة لتفضيل تصفية التوترات كخطوة استباقية لمواجهة أي ترتيبات يُمكن أن تؤثر في مصالحها أو أمنها القومي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قضية غزة تُعد أحد الملفات الإقليمية القلائل التي أوجدت أرضية مشتركة بين القاهرة وأنقرة تقوم على المطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار وتمرير المساعدات الإنسانية ومنع انتقال الموجهات لساحات إقليمية أوسع، كما تشترك البلدان في رغبتها تجنب صراع إقليمي واسع النطاق، حيث تنظر أنقرة إلى انخراط أطراف إقليمية في الحرب –وبالأخص إيران– باعتباره تهديدًا لمصالحها الوطنية وسياستها الخارجية، خاصة في ضوء المنافسة الجيوسياسية بين البلدين.
• لم تطرأ مستجدات على أجندة العلاقات الثنائية لذلك يُتوقع أن يناقش الرئيسان خلال الاجتماع القضايا التقليدية مثل غزة وليبيا وشرق المتوسط والسودان والصومال وسوريا، ورغم اختلاف المصالح الاستراتيجية بما ينعكس على ترتيب القضايا على سلم أولوياتهما وبالتالي تباين رؤيتهما بشأن المعالجة، ورغم أن عودة الاجتماعات الرئاسية والوزارية إلى وتيرتها الطبيعية تفتح قنوات للدولتين لتوضيح وجهات نظرهما ومصالحهما وطرح مقاربتهما للحل ومبرراتهما لها، فإن ذلك لا يعني توحيد السياسات تجاه القضايا الإشكالية أو تصفيتها، فالعلاقات بين الدول لا تُبنى على أساس “صفر مشاكل” وإنما على أساس “إدارة المشاكل”. ومن هذا المنطلق، لا بد وأن تناقش الاجتماعات الرئاسية كقضية مثل شرق المتوسط، ومن المؤكد أن الجانب التركي سيطرح مسألة ترسيم الحدود البحرية والانضمام لمنظمة غاز شرق المتوسط، بينما سيتمسك الجانب المصري بضرورة خضوع أي ترسيم للمعاهدات والمواثيق الدولية وألا يتعارض مع مصالح شركائها في حوض المتوسط، مع الانتباه إلى أن تلك القضية تتجاوز مسألة الإرادة المصرية التركية المنفردة لتظل رهينة لمعالجة الأزمات الهيكلية بين تركيا من جهة واليونان وقبرص من جهة أخرى، بمعنى أن أي تغيرات فعلية في المشهد الحالي بشرق المتوسط ستكون مرتبطة بمصالح وتوجهات وأهداف الأطراف المذكورة.
كذلك، لا يخلو اجتماع مصري تركي من مناقشة الأزمتين الليبية والسودانية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن محورية القضيتين بالنسبة للقاهرة تُعادل محورية الملفين السوري والعراقي بالنسبة لأنقرة، كونهما يقعان ضمن الخط الأول لدوائر الأمن القومي المصري المباشر، وتؤثر مجرياتهما وتطوراتهما في المصالح المصرية بقدر تأثر الأمن التركي بتطورات الوضع السياسي والأمني في سوريا والعراق، وهو ما يُساعد كلا البلدين على تفهم الشواغل الأمنية للآخر مع تقبل اختلاف المصالح السياسية، كما يلعب التقارب الثنائي دورًا في تخفيف حدة التحركات المزعجة.
وفيما يتعلق بالملف الليبي، فقد أبدى الجانبان انفتاحًا على المكونات السياسية والعسكرية في الغرب والشرق، وهي خطوة إيجابية باتجاه إمكانية التوصل لتفاهمات أمنية وعسكرية وسياسية تراعي المخاوف المصرية من استمرار الانقسامات والاضطرابات السياسية وانتشار المرتزقة الذين تعتبرهم القاهرة تهديدًا أمنيًا، ويراعي في الوقت نفسه المصالح الاقتصادية والسياسية التركية، وربما يُسهم التقارب الثنائي في تسريع عملية سياسية ليبية على أساس القرارات الدولية تُفضي إلى انتخابات تُعبر عن إرادة الشعب الليبي وتُمهد لإنهاء الانقسام المؤسسي سواء سياسي أو عسكري أو مالي، وجمع سلاح المرتزقة المنفلت، والدخول في عملية إعادة الإعمار.
وبشأن الحرب السودانية، يتوافق البلدان على ضرورة التسوية السياسية للأزمة وقد سمحت تركيا لمصر بتمرير مُسيرات من طراز “بيرقدار TB2”. كما تتشارك الدولتان في رفض المساعي الإثيوبية لإنشاء قاعدة بحرية وتأجير ميناء بربرة عبر ما يسمى بـ “جمهورية أرض الصومال” الانفصالية، ومن مصلحتهما استقرار منطقة القرن الأفريقي نظرًا لمصالح مصر المائية ومصالح تركيا الاقتصادية والعسكرية. أما بخصوص الملفين السوري والعراقي، فتتبنى مصر موقفًا ثابتًا إزاء رفض وجود قوات عسكرية أجنبية داخل البلدين، وضرورة تسوية الأزمة السورية عبر الحوار السياسي ومعارضة الحلول العسكرية والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وهذا الأخير تحديدًا يُمثل موقفًا مشتركًا مع تركيا التي ترفض أي مشروعات انفصالية شمال شرق سوريا.
• لا يُمكن قراءة الانفراجة الحالية في العلاقات المصرية التركية بمعزل عن الاستدارة التي أجرتها أنقرة في سياستها الخارجية وانعكست في عمليات المصالحة الإقليمية مع السعودية والإمارات وإسرائيل (قبل حرب غزة)، نتيجة تراجع البُعد الأيديولوجي لصالح تبني سياسات براجماتية، والتراجع عن دعم جماعة الإخوان بعد فشل مشروعها السياسي داخل معظم دول المنطقة، علاوة على رغبة أنقرة معالجة الارتدادات الداخلية لسياسة “العزلة الثمينة” التي ساهمت في مفاقمة الأزمة الاقتصادية وتزايد انتقادات المعارضة لأردوغان وربما أثرت في فرص حزب العدالة والتنمية وبالأخص خلال الانتخابات المحلية الأخيرة في نهاية مارس 2024، لا سيَّما أن الفترة الرئاسية الحالية لأردوغان تُعد الأخيرة له –ما لم يُجري تعديلات دستورية تسمح له بفترات أخرى أو يدعو لانتخابات مبكرة– ويتطلع لبناء إرث شخصي باعتباره أحد القادة الأتراك الذي جعل بلاده دولة محورية على الساحة العالمية وعزز مكانتها الإقليمية وهو ما دفعه لتفعيل الدبلوماسية الشخصية واستغلال قدرته على إحداث تحولات دراماتيكية في السياسة الخارجية لتحسين علاقات بلاده، كما أنه يسعى لإنقاذ الفرص الانتخابية لحزبه العدالة والتنمية خلال الجولات الانتخابية القادمة.ختامًا،لا ينطوي استئناف العلاقات الثنائية عبر آليات العمل الدبلوماسي المُتعارف عليها سواء فيما يخص تبادل الزيارات الرئاسية أو الاجتماعات الوزارية أو انعقاد مجلس التعاون الاستراتيجي أو مجالس رجال الأعمال، على معالجة نهائية للقضايا الإشكالية، وإنما يضع العلاقات ضمن مسار إيجابي يستهدف البحث عن نقاط التقاء وإيجاد أسس للتفاهم بشأنها وتفكيك بعض القضايا السياسية الشائكة على عدة جبهات، في إطار إدراك الدولتين لضرورة تبني نهجًا عمليًا يسعى إلى التغلب على خلافاتهما والتركيز على أهدافهما المشتركة، ما يُسهم في تنسيق أفضل بشأن القضايا الإقليمية لضمان قدر أكبر من الاستقرار والتوازن الإقليميين وتجنب تعريض أمنهما القومي أو دورهما الإقليمي للخطر.