أنهى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارته الأولى السريعة للقاهرة التي وضعت حدًا لقطيعة ناهزت حوالي 11 عامًا، بإعلان البلدين توقيع اتفاقية تأسيس مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى، والاتفاق على قيام الرئيس عبد الفتاح السيسي برد الزيارة خلال شهر أبريل المقبل؛ حيث ستنعقد الدورة الأولى لأعمال المجلس. وتركز هذه الورقة على تحليل أبرز نتائج الزيارة، واستعراض أبرز دلالاتها، والسياق المحفّز لها.
تجديد العلاقات
كانت الزيارة بمثابة إفصاح علني عن تفاهمات الغرف المغلقة والقنوات الخلفية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وإعلان رئاسي عن اعتزام البلدين الانتقال من مرحلة إدارة المواجهة إلى إدارة المصالح والخلافات المشتركة. ويُمكن إجمال مخرجات الزيارة في ثلاثة ملامح رئيسية هي:
• تجنب إثارة الخلافات: سارت الزيارة بوتيرة سريعة وغلب على بيانها الختامي النبرة الدبلوماسية الهادئة، من حيث الاكتفاء بالإشارة إلى ما يبعثه الإرث التاريخي المشترك والمصالح والتهديدات المشتركة الناجمة عن اللحظة الدولية والإقليمية الراهنة من آفاق وفرص تعاونية مستقبلية، مع تجنب تسمية قضايا بعينها أو التطرق لموضوعات خلافية. وعلى ما يبدو فضَّل الرئيسان ترك الملفات الجدلية لمناقشات الغرف المغلقة. وتُظهر الزيارة ارتضاء الدولتين إعادة العلاقات إلى مسارها الطبيعي، والمُضيّ قدمًا في تطويرها على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية دون انتظار حل الملفات الخلافية ضمن صيغة “رابح-رابح”، واعتبار الحوار الخيار الأفضل لمعالجة التوترات.
• الانتقال إلى المستوى السياسي الأرفع: أحدثت مرحلة الخلافات قطيعة على المستوى الرئاسي، إلى الحد الذي كرر معه أردوغان مرارًا استحالة إمكانية التواصل مع نظيره المصري، ومن ثم ابتعدت العلاقات عن مركز العملية السياسية وانتقلت إلى الهامش وتُرِكَت إدارتها للمستويات التنفيذية البيروقراطية الأقل كالوزرات أو المستويات الأمنية والاستخباراتية من خلال أجهزة الاستخبارات، وهي مستويات تتعامل بطبيعتها مع قضايا فرعية منفصلة ويغيب عنها وضع رؤية استراتيجية شاملة لإدارة العلاقات. وعليه، فإن الزيارة بمثابة إعادة إدارة العلاقات على أرفع المستويات السياسية من قِبل مركز عملية صنع القرار داخل النظام السياسي، بما يضمن تسريع وتيرة العلاقات، واكسابها زخمًا رئاسيًا، ويتح قدرًا أكبر من المرونة في التفاهم بشأن الملفات الحرجة.
• استحداث آليات مؤسسية لإدارة العلاقات: وقع الرئيسان خلال الزيارة اتفاقية تأسيس مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى، ليصبح آلية مؤسسية تستهدف عقد اجتماعات منتظمة لمناقشة ما يطرأ من قضايا إقليمية ودولية تتطلب تنسيقًا مشتركًا، بمعنى خلق مجال حيوي لمصالح الدولتين يضمن تحقيق قدر من الاستقرار لعلاقتهما، كما تساهم مأسسة العلاقات في استكشاف القضايا والتفاهم بشأنها واحتوائها قبلما تتفاقم، وتجزئتها ومعالجتها بشكل منفصل. وعلى قدر أهمية الاجتماعات السياسية رفيعة المستوى في إدارة المسائل ذات الطابع الاستراتيجي، يتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة تفاهمات على المستويات التنفيذية الأقل، مثل الوزارات ومجالس رجال الأعمال والغرف التجارية، لمناقشة الخطوات التالية على صعيد الارتقاء بمختلف جوانب العلاقات الثنائية.
دلالات الزيارة
تنطوي مبادأة الرئيس التركي بإجراء زيارة رئاسية إلى القاهرة على دلالات بشأن تطور مستويات التفاهم بين البلدين، ويُمكن استعراض أبرز الدلالات كالتالي:
• إعادة تقييم التصورات تجاه العلاقات الثنائية: يحمل حلول أردوغان ضيفًا على القاهرة دلالات عدة بشأن وصول التفاهمات السرية والعلنية عبر القنوات الدبلوماسية والاستخباراتية إلى درجة مُرضية نسبيًا للطرفين، بات ضروريًا معها وضع حد رسمي لعشرية القطيعة بزيارة رئاسية رفيعة المستوى في توقيت دقيق ولحظة حرجة يمر بها الشرق الأوسط ربما عجلت باتخاذ تلك الخطوة، ورسخت إدراك البلدين لضرورة الانتقال من مرحلة الصدام والمواجهة إلى مرحلة التشاور والتنسيق وإدارة الخلافات وفق صيغ تفاهمية تتقبل وجود تصورات مختلفة تجاه بعض القضايا الإقليمية ومصالح متعارضة يتوجب مراعاتها وإدارتها بالتوازي مع التركيز على الأرضية المشتركة للتعاون الجيوسياسي والاقتصادي، وهي اللعبة التي لطالما أجادها أردوغان وحكمت علاقاته بالأقطاب الدولية الكبرى: الولايات المتحدة، وروسيا؛ ما يتيح للقاهرة وأنقرة توظيف مكانتهما كقوتين إقليميتين واستغلال نفوذهما السياسي والاقتصادي لتعزيز السلام والاستقرار الإقليمي، وتبريد الساحات المشتعلة بما ينعكس بشكل إيجابي على العالم العربي.
• حدوث اختراق على مسار كسر الجمود: لم تأتِ زيارة أردوغان بشكل عرضي أو مفاجئ وإنما توترات أنباء عقدها مرات عديدة منذ قرار ترفيع العلاقات الدبلوماسية في يوليو 2023، بمعنى أنها أخذت الوقت الكافي للإعداد والتجهيز دبلوماسيًا واستخباراتيًا. وعليه فهي نتيجة لمقدمات تعددت أوجهها لتشمل تبادل الرسائل السرية والعلنية على المستويين الاستخباراتي والدبلوماسي، وتخفيض لهجة الخطاب السياسي لأردوغان تجاه القاهرة وسياساتها، وإجراء اتصالات مكثفة بين المسئولين الدبلوماسيين والأمنيين، وتبادل الزيارات على مستوى وزراء الخارجية، وعقد لقاءات رئاسية بروتوكولية سريعة على هامش ثلاث فعاليات دولية هي: مونديال قطر في نوفمبر 2022، والقمة الـ18 لمجموعة العشرين بنيودلهي في 10 سبتمبر 2023، والقمة العربية الإسلامية المشتركة بالرياض في 11 نوفمبر 2023، علاوة على عقد لقاءات وزراية في محافل دولية عدة، واستمرار وتطور العلاقات التجارية والاقتصادية.
• تراجع العامل الإخواني: كان الدعم التركي المستمر لجماعة الإخوان المسلمين وتوفير منصات إعلامية وملاذات آمنة لقياداتها وعناصرها الهاربة من مصر، أحد العوامل الرئيسية لتعكير الأجواء بين البلدين، لكن إدراك أنقرة لصعوبة الرهان على جماعة الإخوان بعدما فشلت في تقديم نفسها كبديل سياسي مقبول للشارع المصري، وانهيار مشروعها السياسي داخل العديد من دول المنطقة التي شكل بعضها معقلًا تقليديًا للجماعة مثل تونس والمغرب والسودان، فرض عليها الاستجابة لحقائق الواقع السياسي الجديد والتعاطي معها. وقد أبدت أنقرة بوادر حسن نية تمثلت في تسليم عدد محدود من المطلوبين، وإغلاق بعض القنوات المعارضة التي عملت كمنصات إعلامية لجماعة الإخوان لمهاجمة القاهرة، ورفض منح الجنسية والإقامة لبعض القيادات الإخوانية، مع ضرورة التأكيد على أن فك الارتباط بين أنقرة وجماعات الإسلام السياسي يظل يدور في فلك المناورة التكتيكية وليس التوجه الاستراتيجي نظرًا لرغبة تركيا في إبقاء ورقة الجماعات الإسلامية كإحدى أدواتها لتحقيق مصالحها الخارجية.
• صوابية الموقف المصري: أظهر استعادة العلاقات المصرية التركية قدرة الدولة المصرية على قراءة الحقائق السياسية ولا سيَّما المتعلقة باستحالة العداء الدائم، ومن ثم الالتزام بالرشادة والانضباط أمام النشاطات التركية المزعزعة للاستقرار والمعادية خلال مرحلة التباعد السياسي، والنأي بالنفس عن التراشقات اللفظية، وتفضيل الإدارة المؤسسية للعلاقات والابتعاد عن شخصنتها، مع الالتزام بثوابت السياسة الخارجية إزاء التعاطي مع القضايا الإقليمية التي تتقاطع فيها مصالح الدولتين، ما أجبر الطرف الآخر على مراجعة سياسته تجاه القاهرة.
عوامل دافعة
حفزت بعض السياقات المحلية والإقليمية والدولية التقارب المصري-التركي، وهو ما نستعرضه على النحو التالي:
• نهج إدارة السياسة الخارجية التركية: كان لانتقال هاكان فيدان من رئاسة المخابرات التركية إلى وزارة الخارجية دور في تسريع عملية تحسين العلاقات المصرية التركية؛ إذ ساهمت خبرته أثناء عمله مديرًا للاستخبارات في إدراك جذور الخلافات وسُبل معالجتها، لذلك كان قرار رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية من أوائل قرارات السياسة الخارجية التي اتخذها عقب توليه منصبه، مثلما لعب سابقًا دورًا في كسر الجمود بين البلدين من خلال الاتصالات الاستخباراتية وإدارة جولات المحادثات الاستكشافية. كذلك، ساهم تراجع النهج المؤسسي في السياسة الخارجية لصالح الاعتماد على الدبلوماسية الشخصية في توفير قدر مرتفع من المرونة في إحداث انعطافات حادة في توجهات السياسة الخارجية.
• تداعيات المرحلة الانتقالية للنظام الدولي: يُمكن اعتبار النظام الدولي في طور التحول من نمط الأحادية القطبية الذي ظل مهيمنًا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات، إلى نمط التعددية القطبية مع بزوغ قوى دولية تدفع باتجاه تسريع عملية إعادة هيكلة النظام الدولي بتوظيف أدوات تتنوع بين العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، ودائمًا ما تفرض المراحل الانتقالية في النظام الدولي ضغوطًا وتطرح فرصًا أمام النظم الإقليمية الفرعية، ما يفرض على أطرافها إيجاد أنماط من الشراكات لمعالجة القضايا المشتركة.
وفي هذا الإطار، يمر الشرق الأوسط بتحولات دقيقة ومحاولات لإعادة صياغة موازين القوى بين أطرافه، تتصل في أحد أبعادها بتحولات النظام الدولي، الأمر الذي دفع دوله للانتقال من الاهتمامات الأيديولوجية إلى الاهتمامات الأكثر واقعية، وفتح قنوات اتصال بينية لاستكشاف الفرص وتسوية المشكلات العالقة بغرض تعظيم المكاسب والمساهمة في رسم مستقبل المنطقة، وهو السياق الذي جاء فيه التقارب المصري-التركي.
• تصاعد الاضطرابات الإقليمية: أدى اتساع نطاق الصراع الإقليمي الناتج عن تداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة امتداده إلى خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، في لبنان وسوريا والعراق والأردن واليمن، إذ عادت المليشيات الإيرانية إلى صدارة التفاعلات الإقليمية باستهداف المصالح الأمريكية والإسرائيلية، ما تطلب تحشيدًا عسكريًا أمريكيًا وأوروبيًا مضادًا في إقليم البحر الأحمر، إلى تزايد الحاجة للتنسيق بين الأطراف الإقليمية الفاعلة تجاه المخاطر الاقتصادية والأمنية الناشئة، والاضطلاع بدور أكبر في الترتيبات السياسية والأمنية المستقبلية.
ختامًا، سوف ترقب أنظار المتابعين للشأن التركي خلال المرحلة المقبلة تفاصيل زيارة السيسي لأنقرة وانعقاد الدورة الأولى لمجلس التعاون الاستراتيجي الذي يُنتظر أن يكون آلية رفيعة المستوى لطرح الرؤى والمواقف وتنسيق السياسات وإدارة الخلافات، ويظل نجاح مسار التقارب مرهونًا إلى حد كبير بوجود عوامل دافعة تتضمن مثلًا قدرة البلدين على تجزئة القضايا ومعالجتها بشكل منفصل، مع التغلب على القضايا التي تتباعد فيها مصالحهما، والتركيز على تلك التي يتلاقيان فيها. بمعنى آخر خلق مجال حيوي مشترك لمصالحهما.