في تحدٍّ واضح للحكومة الفيدرالية الإثيوبية، أجرت حكومة إقليم تيجراي الانتخابات المحلية والعامة على مستوى الإقليم في التاسع من سبتمبر، وذلك لتحديد أعضاء المجلس التشريعي الإقليمي وممثلي الإقليم في المجلس التشريعي الفيدرالي، وذلك على الرغم من رفض حكومة أديس أبابا القاطع لمثل هذا الإجراء، لكن دون أي قدرة على منعه.
وتعتبر حكومة إقليم تيجراي التي تسيطر عليها “جبهة تحرير شعب تيجراي” Tigray People’s Liberation Front (TPLF)، أن إجراء الانتخابات على مستوى الإقليم هو إجراء دستوري، بعد أن رفضت الجبهة –بجانب أطراف معارضة عديدة- قرار تمديد ولاية حكومة آبي أحمد الذي أقره المجلس الفيدرالي في يونيو الماضي بزعم صعوبة تنظيم الانتخابات لحين انتهاء خطر انتشار فيروس كورونا.
وبالفعل، قامت السلطات في إقليم تيجراي بتنظيم الانتخابات في مختلف مدن وقرى الإقليم، والتي يبلغ العدد الإجمالي للناخبين المسجلين بها نحو 2.7 مليون ناخب، تم توزيعهم على 2672 مركز اقتراع لتيسير عملية التصويت. ووفق البيانات الأولية التي أذاعتها جبهة تحرير تيجراي فقد بلغ معدل المشاركة في الانتخابات نحو 85%، ولم يتم تسجيل مخالفات إجرائية أو خروقات أمنية تُذكر.
ومن جانبه، هاجم آبي أحمد تنظيم الانتخابات في إقليم تيجراي، مشبهًا القائمين على هذا الإجراء بمن يقوم “ببناء أكواخ على أرض لا يمتلكونها”، معتبرًا الانتخابات “غير ذات جدوى أو قيمة”، و”لا تشكل مصدر قلق للحكومة الفيدرالية التي لن تعترف بنتائجها”. كما هدد آبي أحمد في لقاء مع التلفزيون الرسمي الإثيوبي بحسم الأزمة عسكريًّا في أقرب وقت ممكن، إلا أنه عاد ليشير لعدم تفضيله هذا الخيار حرصًا على مصلحة شعب تيجراي.
الأهمية الخاصة لإقليم تيجراي
على الرغم من تعدد مظاهر المعارضة الحادة التي تواجهها حكومة آبي أحمد في العديد من الأقاليم الإثيوبية وفي مقدمتها إقليم أوروميا؛ إلا أن التطورات التي يشهدها إقليم تيجراي في الآونة الأخيرة وصولًا لعقد انتخابات التاسع من سبتمبر تُعد الأكثر تأثيرًا على بنية النظام السياسي الإثيوبي، وذلك لما يتمتع به إقليم تيجراي من أهمية خاصة لعددٍ من الأسباب تتمثل في:
1- الخبرة السابقة لجبهة تحرير تيجراي في قيادة النظام السياسي الإثيوبي بصورة مباشرة خلال سنوات حكم ميليس زيناوي بين عامي 1991 و2012، وبصورة غير مباشرة خلال سنوات حكم هايليماريام ديسالين بين عامي 2012 و2018، وهي الخبرة التي منحت النخبة السياسية والعسكرية من أعضاء الجبهة خبرات هائلة في تسيير العملية السياسية المعقدة في إثيوبيا، سرعان ما بدا آبي أحمد مفتقدًا لها على الرغم من قصر عهد حكمه.
2- التراكم الكبير لأصول القوة المادية للدولة الإثيوبية في إقليم تيجراي، وهو ما ينسحب من ناحية أولى على مصادر الثروة وعوائد التنمية والاستثمارات الأجنبية الكبرى الصينية على وجه الخصوص، ومن ناحية ثانية على القدرات العسكرية التي تم حشدها بصورة استثنائية في الإقليم خلال السنوات الطويلة للحرب الإثيوبية الإريترية، والتي لا تزال نسبة مؤثرة منها موجودة في الإقليم إلى الآن.
3- الموقع الجغرافي المهم للإقليم والذي يقع في أقصى شمال البلاد محاذيًا لإريتريا، فضلًا عن اتصاله بالسودان بشريط حدودي ضيق يقع في شرق الإقليم. هذا الموقع الطرفي سمح للإقليم بالتمتع بحالة من “الانفصال الفعلي” عن الدولة الإثيوبية، حيث تبعد مدينة ميكيلي Mekele -عاصمة الإقليم- عن العاصمة الإثيوبية أديس أبابا أكثر من 900 كم، الأمر الذي قد يتيح فرصة لتحول هذا الانفصال الفعلي إلى انفصال رسمي حال تأزم العلاقة بين السلطتين في المستقبل.
4- الموقف الاستثنائي لحكومة إقليم تيجراي الخاضعة لسيطرة جبهة تحرير تيجراي والذي يقوم على رفض الانضمام للحزب الجديد الذي أسسه آبي أحمد تحت اسم حزب الازدهار والذي يسعى من خلاله للقضاء على صيغة الفيدرالية الإثنية المطبقة في إثيوبيا منذ عام 1995، وهو الموقف الذي جعل مؤيدي هذه الصيغة التعددية في حكم البلاد من مختلف الأقاليم والانتماءات الإثنية أكثر تقديرًا واقترابًا من موقف جبهة تحرير تيجراي، على نحو ما ظهر مؤخرًا من تفاهمات نادرة الحدوث في التاريخ الإثيوبي بين الجبهة وبين معارضي آبي أحمد من جماعة أورومو.
مسارات التصعيد بين الحكومتين الإقليمية والفيدرالية
لم تأتِ انتخابات التاسع من سبتمبر في إقليم تيجراي كخطوة مفاجئة بعد أن سبقتها مقدمات متعددة خاصة في الشهور الأخيرة أكدت الشرخ العميق في العلاقة بين جبهة تحرير تيجراي والحكومة الفيدرالية التي يرأسها آبي أحمد وحزبه الجديد الذي يحمل اسم حزب الازدهار.
فقد كانت جبهة تحرير تيجراي من أول الرافضين لمساعي آبي أحمد لتمديد حكمه دون انتخابات تذرعًا بصعوبة إجرائها في ظل انتشار فيروس كورونا، الأمر الذي تبعه إعلان الجبهة اعتزامها إجراء الانتخابات على مستوى الإقليم في الموعد الطبيعي قبل نهاية سبتمبر، معتبرة أن التمديد المفتوح الذي قدمه المجلس الفيدرالي لآبي أحمد يخالف نص الدستور.
وفي السابع عشر من يونيو أنشأت حكومة إقليم تيجراي مفوضية للانتخابات للإشراف على كافة الجوانب التنظيمية والإجرائية للعملية الانتخابية المنتظرة، وهو ما شكل الخطوة التنفيذية الأولى لإجراء الانتخابات على الرغم من معارضة الحكومة المركزية. وفي الرابع من أغسطس وجه المجلس الفيدرالي دعوة لحكومة إقليم تيجراي للوقف الفوري لعمليات إجراء الانتخابات وهو ما قابلته الجبهة بالرفض معلنة مواصلتها الاستعداد لإجراء الانتخابات.
وتأتي هذه التطورات على الرغم من المحاولات الأخيرة لرئيس الوزراء آبي أحمد لتهدئة التصعيد بعد أن شهدت نهاية يوليو الماضي تصريحات له وصف فيها جبهة تحرير تيجراي بالحزب الذي كان له دور رئيسي في السياسة الإثيوبية من نشأتها في أعقاب سقوط منجستو. كما أشار آبي أحمد إلى أن الخلاف بين حزب الازدهار الذي يرأسه وجبهة تحرير تيجراي قد تمت مفاقمته بفعل “قوى خارجية” لم يسمها، فضلًا عن إعلانه أن الحكومة ليست بصدد الدخول في حرب مع جبهة تحرير تيجراي على خلفية قرار الأخيرة بإجراء الانتخابات من جانب واحد على مستوى الإقليم، حيث أكد رئيس الوزراء أن الحكومة الفيدرالية لن تستخدم القوة ضد أي من أعضاء الحكومة الإقليمية في تيجراي من القائمين على إقامة الانتخابات.
لكن مع اقتراب موعد الانتخابات، عاد الطرفان للاشتباك مجددًا عبر إصدار جبهة تحرير تيجراي بيانًا صحفيًّا في الرابع من سبتمبر تعتبر فيه أي محاولة من السلطات الفيدرالية لإعاقة العملية الانتخابية في الإقليم بمثابة “إعلان حرب”. ومن جانبها سعت الحكومة الفيدرالية لإعاقة سفر الصحفيين والإعلاميين إلى ميكيلي لتغطية العملية الانتخابية من أجل التعتيم على هذا التطور المهم، خاصة في ظل حالة الترقب الإقليمي والدولي لهذه الانتخابات منذ الإعلان عنها.
دور الظهير العسكري القوي لجبهة تحرير تيجراي
تشهد علاقات آبي أحمد بالعديد من الجماعات الإثيوبية الرئيسية توترات حادة، خاصة مع سعيه للتخلص من صيغة “الفيدرالية الإثنية” التي يتبناها دستور 1995 وإعادة تأسيس نظام مركزي للحكم يسمح له بقدر أكبر من السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد دون منافسة من الحكومات الإقليمية القوية. وعلى الرغم من تعدد الأطراف المعارضة لآبي أحمد من جماعات متعددة من بينها جماعة أورومو الأكبر حجمًا من بين جميع الجماعات الإثيوبية، جاء رد الفعل الأكثر قوة من جانب حكومة إقليم تيجراي متمثلًا في تنظيم الانتخابات على مستوى الإقليم على الرغم من المعارضة الكبيرة من جانب السلطات الفيدرالية. ويعد هذا الوضع نتيجة مباشرة للعديد من عوامل قوة جماعة تيجراي في مقدمتها الجمع بين الأدوات السياسية والعسكرية التي تتمتع فيها بتفوق نسبي واضح.
فعلى الجانب العسكري، شهدت مدينة ميكيلي، عاصمة إقليم تيجراي والعديد من مدن الإقليم الأخرى، في الثاني من أغسطس، عددًا من العروض والمسيرات العسكرية قام بها أعضاء قوات الأمن والقوات الخاصة التابعة لحكومة الإقليم مرتدين زيهم العسكري وحاملين أسلحتهم الخفيفة والثقيلة، قبل أن تجتمع المسيرات المتعددة في استاد ميكيلي.
وبينما لم تقم حكومة الإقليم بالتعليق على هذا الحدث سوى بالإشارة إلى أنه “تنبيه للشعب بأهمية مقاومة فيروس كورونا”، أصدر مكتب الأمن بالإقليم بيانًا أعلن فيه: “إننا مستعدون بالتضحية بكل شيء من أجل السلام”، مشيرًا إلى أن “السلام الذي تم منحه للشعب لا يعتمد على الحماية الخارجية، ولكن على القدرات الداخلية”.
وقد جاء العرض العسكري الأخير تكرارًا لنمط متصاعد في الأشهر الأخيرة، إذ سبقه عرض عسكري ضخم شهدته المدينة في الحادي عشر من فبراير الماضي. فبحكم الدستور الإثيوبي يحق لحكومات الأقاليم الإثيوبية أن تنشئ قوات شرطة ومجموعات مسلحة تحمل اسم “القوات الخاصة”، لكن على أرض الواقع تشهد القدرات العسكرية لحكومات الأقاليم الإثيوبية تفاوتًا هائلًا، حيث تتعدد الشواهد على كون القوات التابعة لحكومة إقليم تيجراي هي الأقوى من بين مختلف القوات التابعة لحكومات الولايات في إثيوبيا، بل ويُمكن اعتبارها منافسًا حقيقيًّا للقوات المسلحة الإثيوبية الخاضعة لقيادة رئيس الوزراء، وتتمثل هذه العوامل في:
1- القدرات العسكرية الكبيرة لجيش تحرير تيجراي الذي تمكن من دخول العاصمة أديس أبابا في مايو من عام 1991 والذي مكن جبهة تحرير تيجراي من أن تحتل موضعًا مركزيًّا في النظام السياسي الجديد في إطار الجبهة الديمقراطية الثورية وفي المؤسسة العسكرية بعد إعادة تنظيمها، وهو ما ساهم في تعزيز القدرات العسكرية لحكومة الإقليم بصورة مطردة عبر سنوات.
2- تغلغل أبناء جماعة تيجراي في بنية القوات المسلحة الإثيوبية أو المؤسسات الأمنية الفيدرالية لنحو ثلاثة عقود لحين وصول آبي أحمد للسلطة عام 2018، ليبدأ في تطبيق سياسته بالحد التدريجي من نفوذ أبناء الجماعة في المؤسسات العسكرية والأمنية الفيدرالية إما عبر إزاحتهم من المناصب القيادية أو عبر إقصائهم من العمل بهذه المؤسسات بصورة كلية. ومنذ ذلك الوقت، قامت قوات حكومة إقليم تيجراي باستيعاب أعداد إضافية من أبناء الجماعة ممن تم إقصاؤهم من العمل بالمؤسسات العسكرية والأمنية الفيدرالية في أجهزتها الأمنية الإقليمية.
3- تداعيات الصراع الإثيوبي الإريتري الذي استمر منذ عام 1998 والذي شكل فيه إقليم تيجراي جبهة المواجهة الإثيوبية الرئيسية، الأمر الذي أوجد مبررًا مستمرًّا لحشد الأسلحة بشتى أنواعها وكذلك المقاتلين في معسكرات الجيش الإثيوبي داخل الإقليم.
4- توظيف جبهة تحرير تيجراي التطورات السياسية الداخلية والإقليمية بنجاح في “عسكرة” القضايا الخاصة بأبناء الجماعة، وهو ما انعكس بوضوح في الموقف الرافض لانسحاب القوات الإثيوبية من الحدود في مثلث بادمي المتنازع عليه مع إريتريا في أعقاب اتفاق السلام الموقع بين الحكومتين الإثيوبية والإريترية عام 2018، وهو ما أسفر عن استمرار خضوع المنطقة المتنازع عليها لسيطرة قوات حكومة إقليم تيجراي إلى الآن.
مستقبل إثيوبيا عقب انتخابات إقليم تيجراي
في ظل المشهد الحالي الذي زادته انتخابات إقليم تيجراي تعقيدًا، ينتظر أن يسير مستقبل الدولة الإثيوبية في ثلاثة اتجاهات رئيسية تتمثل في:
1- تراجع مشروع آبي أحمد لتجاوز صيغة الفيدرالية الإثنية كقاعدة منظمة للسياسة والحكم في البلاد منذ عام 1995، وهو ما قد يُهدد مستقبله السياسي كشخص، فضلًا عن فتح الباب أمام تفكك حزبه الناشئ لمكوناته الأصلية ذات الطابع الإثني الواضح.
2- اضطرار الحكومة الفيدرالية لعقد صفقة سياسية صعبة مع جبهة تحرير تيجراي يتم من خلالها إعادة دمج الجبهة في بنية الحكم التي ستنشأ بعد عقد الانتخابات العامة في عموم الأقاليم. ومن المتوقع أن تكون هذه الصفقة السياسية مكلفة للغاية لآبي أحمد. حيث ستتمثل أولى مظاهر التكلفة المرتفعة في اضطرار رئيس الوزراء للتخلي عن عدد من المناصب السياسية والأمنية المهمة لجبهة تحرير تيجراي قد تتضمن عودة الجماعة للسيطرة على القوات المسلحة وجهاز الاستخبارات فضلًا عن استعادتها السيطرة على قطاع الأعمال المملوك للدولة. أما المظهر الثاني لهذه التكلفة فسوف يتمثل في إعادة آبي أحمد صياغة تحالفاته مع الجماعات الإثنية، لينصرف عن سلوكه الحالي القائم على التحالف القوي مع جماعة أمهرا بصورة شبه حصرية. هذه الصفقة من شأنها أن تجنب آبي أحمد انفجار الوضع في البلاد مؤقتًا، لكنها لن توفر ضامنًا قويًّا لحماية نظامه من الانهيار.
3- محاكاة العديد من حكومات الأقاليم الإثيوبية الأخرى النمط الذي أسسته حكومة إقليم تيجراي، إما بالشروع في عقد الانتخابات على المستوى الإقليمي دون الرجوع للحكومة الفيدرالية، أو بمساومة آبي أحمد على المزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية مقابل الاستمرار في دعمه، مع عودة التهديدات القديمة من بعض الجماعات بتفعيل المادة 39 من الدستور الإثيوبي، والتي تمنح الأقاليم المعترف بها دستوريًّا الحق في الانفصال وتأسيس دولة مستقلة، خاصة في ظل الفترة الزمنية الطويلة التي تفصل بين الشروع في إجراءات الانفصال وتطبيقه فعليًّا والتي قد تتجاوز ثلاث سنوات، مما يعني إمكانية استخدامها كورقة للمناورة والضغط على الحكومة الفيدرالية، والعدول عن تفعيل إجراءات الانفصال حال الاستجابة للمطالب.
وبعيدًا عن الآثار السياسية المباشرة، جاء التنظيم الناجح لانتخابات إقليم تيجراي في التاسع من سبتمبر ليكبد آبي أحمد خسارة رمزية كبيرة على المستويين الداخلي والخارجي، بعد أن ظهر بمظهر القائد فاقد السلطة والسيطرة على المجالات ذات البعد السيادي كتنظيم الانتخابات، فضلًا عن لجوئه المتكرر لاستخدام العنف أو التهديد باستخدامه في مواجهة المعارضة المتنامية في مختلف الأقاليم، بجانب عجزه عن توضيح ملامح واضحة للمستقبل السياسي للبلاد بعد التأجيل المتكرر للانتخابات العامة. هذه التأثيرات السياسية والرمزية تجتمع لتطرح الكثير من الشكوك الجادة بشأن المستقبل السياسي لآبي أحمد وحزب الازدهار والدولة الإثيوبية عمومًا.