المعركة التي يواجهها نيتنياهو الأن، تختلف جذريا عن المعارك التي خاضها ونجح في عبورها خلال العشر سنوات الأخيرة. وهو النجاح الذي أبقى عليه في سدة حكم إسرائيل لما يزيد عن عشر سنوات متصلة إضافة إلى عامين سابقين في نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وبذلك أصبح صاحب أطول فترة كرئيس حكومة في إسرائيل بين كل من تولى ذلك المنصب منذ نشأة إسرائيل قبل سبعين عاما. اختلاف المعركة الحالية عن سابقاتها أنها ليست سياسية فقط، وأنها ربما تكون المرة الأولى التي تبدو فيها المعركة مع الرأي العام الإسرائيلي والأهم عن الرأي العام في حزبه الليكود ومن خلفه اليمين. فمصير الليكود ومعه اليمين ظل معلقا خلال السنوات الماضية بمصير نيتنياهو، ويبدو اليوم أن العلاقة بين الطرفين وصلت إلى مفترق طرق. فالليكود ومعه اليمين يفكران في كيفية الخروج بأقل الخسائر الشعبية من المصير المحتمل لنيتيناهو بعد تم توجيه لائحة بتهم الفساد إليه من المدعي العام الإسرائيلي. ويبدو الأمر بين نيتنياهو من جهة وكل من الليكود واليمين من جهة أخرى كأنه صراع على من سيكون “كبش فداء” للآخر. فالرأي العام الإسرائيلي، الذي ظل أسيرا لفكرة عدم وجود بديل لنيتنياهو، يبدو اليوم مرتبكا وإن كان غير مرحب بفكرة بقاء نيتنياهو رئيسا للحكومة في ظل توجيه الاتهام إليه بالفساد.
وقبيل توجيه المدعي العام الإسرائيلي لائحة الاتهام رسميا لنيتنياهو كشف استطلاع للرأي العام الإسرائيلي أجراه “معهد إسرائيل للديمقراطية” في الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر 2019 إن على نتنياهو التنحي عن منصبه كرئيس لحزب الليكود، في حين يعتقد 65% إن عليه فعل ذلك في حال تم توجيه لائحة اتهام ضده. ويعارض 24% استقالته من رئاسة الليكود في أي حال من الأحوال. ومن المصوتين لحزب الليكود أفاد 85% منهم أنهم سيصوتون مجددا لحزب الليكود. نسبة من يطالبون بضرورة رحيل نيتنياهو ارتفعت إلى 56% في أعقاب توجيه الاتهام لنيتنياهو. حيث أفاد استطلاع أجرته القناة 13 بالتليفزيون الإسرائيلي في 22 نوفمبر 2019 أن 56% من الإسرائيليين يعتقدون أن نيتنياهو يجب أن يستقيل، فيما يؤيد 35% بقاءه في منصبه و9% لم يحددوا موقفهم من المسألة. كما أظهر الاستطلاع أيضا أن 35% ممن شملهم الاستطلاع بنيامين نيتنياهو المسؤولية عن الوضع الذي قد يتطلب إجراء الانتخابات الثالثة. ومع تلك النتائج يبدو أن الليكود بدأ في الشعور بالقلق من بقاء نيتنياهو، إذ دعا جدعون ساعر العضو في حزب “الليكود”، إلى إجراء انتخابات تمهيدية لرئاسة الحزب، بينما قال عضو آخر في الحزب أن عصر نيتنياهو قد انتهى. الغالبية العظمى (85%) التي ما زالت ملتزمة بالتصويت لليكود كما أشارت الاستطلاعات لا يمكن الجزم أنها ملتزمة حزبيا وأن تصويتها لليكود يأتي بمنأى عن وجود نيتنياهو رئيسا للحزب، ومن ثم فليس من الصعب توقع أن تتراجع تلك النسبة بشكل يعتد به في حال تم إقصاء نيتنياهو عن الحزب. شئ من هذا التراجع بل الانهيار حدث لحزب الليكود حين انفصل عنه رئيسه السابق آرئيل شارون في النصف الأول من العقد الماضي.
ورغم التطور الذي تبدو عليه الحياة السياسية والتجربة الحزبية في إسرائيل، فإن الأحزاب ما زالت إلى حد كبير ترتبط بالأشخاص وزعاماتها، وتجربة الأحزاب الجديدة مثل حزب أزرق أبيض وحيازته نسبة كبيرة من الشعبية رغم حداثة عهده دليل على تأثير الشخصيات القائدة للحزب على انحياز الرأي العام له. بل إن نيتنياهو نفسه صرح في نهاية سبتمبر الماضي بأن حزب الليكود ليس مجرد حزب بل “إنه عائلة واحدة متمسكة بقيادتي ولا يوجد ليكودي أصلي مخلص يقبل أن يجروه إلى انقسام أو تصدع أو حتى خدش صغير”، بل وأضاف لدى عودته من لشبونة مساء الجمعة الماضية أن تشبثه بالحكم يرجع لأن وجوده في الحكم ضروري لأنه كما قال الوحيد القادر على التعامل الإيجابي مع الرئيس الأمريكي، وذلك في محاولة منه لمواجهة الحملة ضده خاصة من بعض الكوادر في حزب الليكود الذين باتوا ينظرون إليه باعتباره بات عبئا وليس كنزا، كما كانوا يرونه عشية الانتخابات. وعلى الرغم من ذلك فإن استطلاعا نشر قبل ثلاثة أيام يؤكد أنه لو أجريت الانتخابات اليوم، فإن اليمين بقيادة نيتنياهو لن يفقد سوى مقعد واحد عما كان عليه في الانتخابات الماضية، وأن ذلك المقعد سيكون خصما من رصيد الليكود حيث يحصل على 32 مقعدا مقابل 33 مقعدا في انتخابات سبتمبر الماضي. الأمر الذي يؤكد أن أزمة عدم وجود بديل لنيتنياهو في رئاسة الحكومة ما زالت تمارس تأثيراتها على اختيارات الرأي العام الإسرائيلي عامة واليمين بصفة خاصة.
وفي الحقيقة، فإن تلك المعطيات تقدم مؤشرا إضافيا إلى ترجيح أن إسرائيل ذاهبة إلى انتخابات ثالثة بدأ الحديث عنها فعلا لتكون في بداية مارس القادم ليبقى نيتنياهو رئيسا للوزراء خلال تلك الفترة ويخوض نفس التجربة المتعلقة بتشكيل الحكومة أو بالأحرى تعطيل تشكيلها لقرابة شهرين إضافيين. وبكل تأكيد فإن نيتنياهو سيسعى خلال تلك الشهور الست القادمة لتحسين موقعه في الاتهامات الموجهة للخروج بأقل الخسائر الممكنة على الأقل لينهي مسيرته بالشكل الذي يحفظ تلك المسيرة. والمؤكد أن فترة أخرى في رئاسة الحكومة طالت أم قصرت لن تضيف كثيرا لمسيرته السياسية، ولكنها بكل تأكيد ستساعده في حفظ ماء وجهه، ومن ثم، فإن الحديث دار وما زال يدور حول صفقها يمكن عقدها تتيح لنيتنياهو خروجا آمنا من الساحة السياسية وإلا فإن المرجح أن تبقى إسرائيل رهينة موقفه وتعجز عن تشكيل حكومة للمرة الثالثة، وهو ما يجعل خيار انتخابات رابعة أمرا ليس مستبعدا. وفي كل الأحوال فإن معركة نيتنياهو الحالية، والتي من المؤكد أنها ستكون معركته الأخيرة، والشلل الذي أصاب الحياة السياسية في إسرائيل سيفرض حتما على الإسرائيليين، حتى لا تكون كبش فداء لأي سياسي أو حزب، التفكير في كيفية منع تكرار ذلك الموقف ولو بالعودة إلى نظام الانتخاب المباشر لرئيس الوزراء الذي ألغي بعد انتخابات عام 2001.
رئيس وحدة الرأي العام/ رئيس تحرير الموقع الالكتروني