بعد أشهر من تجنب “دونالد ترامب” الرد على الاستفزازات الإيرانية بإسقاط طائرة تجسس أمريكية، واستهداف ناقلات نفطية، وتهديد الملاحة الدولية في مياه الخليج العربي، واستهداف منشأتين نفطيتين بالمملكة العربية السعودية (أحد حلفاء الولايات المتحدة الاستراتيجيين بالمنطقة)؛ اتّجهت إدارة الرئيس الأمريكي إلى تغيير حسابات إيران، وردعها، وإرغامها للخضوع للشروط الأمريكية، ولا سيما مع الأزمات الداخلية التي يواجهها “ترامب”، وقرب موعد الانتخابات الرئاسية المقرر لها في نوفمبر المقبل.
ولهذا، قرر الرئيس “ترامب” اغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني” (٦٣ عامًا) لكونه أحد أهم القادة العسكريين الإيرانيين، والمسئول عن الدور الإيراني المزعزع للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، واستهداف الجنود والمواطنين الأمريكيين. وقد تم استهدافه ونائب قائد ميليشيات الحشد الشعبي في العراق “أبو مهدي المهندس” في هجوم أمريكي بطائرة بدون طيار في ٣ يناير الجاري قرب مطار بغداد الدولي.
ومع تهديد إيران على لسان مسئوليها بردٍّ قاسٍ على مقتل “سليماني”، بدأت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) في اتخاذ إجراءات احترازية لمواجهة التصعيد الإيراني المتوقع، بإرسال مزيدٍ من قوات أو معدات عسكرية إضافية إلى الشرق الأوسط، والتي يتوقع أن تتزايد في حال تنفيذ طهران هجمات تهدد أمن ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
وبالفعل شنت إيران في ٧ يناير الجاري هجومًا بأكثر من ١٠ صواريخ باليستية من داخل إيران على قاعدتين عسكريتين عراقيتين (قاعدة عين الأسد الجوية، وقاعدة في مدينة أربيل) تستضيفان قوات للتحالف الدولي لهزيمة تنظيم “داعش” بقيادة الولايات المتحدة.
الانتشار العسكري الأمريكي في المنطقة
حفزت العديد من التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، بداية من مقتل متعاقد أمريكي في العراق خلال هجوم صاروخي نفذته كتائب “حزب الله” الموالية لإيران في ٢٧ ديسمبر الماضي، مرورًا باحتجاجات حول سفارة الولايات المتحدة في بغداد في أعقاب سلسلة من الغارات الجوية الأمريكية على مواقع للكتائب بالعراق وسوريا، ووصولًا لاستهداف “سليماني” و”المهندس”، الولايات المتحدة على تعزيز قواتها في مواقعها الأمامية وقواعدها بالمنطقة في إطار إجراءاتها الاحترازية لردع إيران، وللرد على أي هجوم إيراني انتقامي.
وقد كشفت الرسالة التي أرسلتها وزارة الدفاع الأمريكية إلى العراق بخصوص سحب القوات الأمريكية منها، رغم نفيها من قبل المسئولين الأمريكيين، عن زيادة في تحركات القوات في العراق والمنطقة خلال الأيام القادمة. ففي أعقاب مقتل “سليماني” تحدثت العديد من التقارير الأمريكية عن أن البنتاجون يخطط لإرسال ٣٥٠٠ جندي إضافي إلى الشرق الأوسط، إضافة إلى حوالي ٥٠ ألف جندي بالمنطقة في السابق.
وسيتم نشر القوات الأمريكية الجديدة في العراق والكويت وأجزاء أخرى من المنطقة في استجابة للتهديدات في جميع أنحاء المنطقة. وستأتي التعزيزات من قوة الاستجابة العالمية للفرقة (٨٢) المحمولة جوًّا. وقبل الهجوم على “سليماني” أرسلت وزارة الدفاع الأمريكية ٧٥٠ جنديًّا من الفرقة إلى الكويت.
وقد أشار تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” في ٦ يناير الجاري إلى أن ما يقرب من ٤٠٠٠ جندي من الفرقة ٨٢ المحمولة جوًّا المتمركزة في فورت براج، شمال شرق الولايات المتحدة، قد بدأوا بالانتشار في الكويت، والتي يُمكن نشرها -بحسب تصريحات ضابط أمريكي للصحيفة- بسرعة للدفاع أو تعزيز أمن السفارات والقنصليات والقواعد العسكرية الأمريكية بالمنطقة.
ويضيف التقرير أنه وفقًا لمسئول بالبنتاجون فسيتم نشر مئات من الجنود في مناطق مختلفة بمنطقة الشرق الأوسط، من ضمنها جنود من قوات المظلات من فريق اللواء القتالي ١٧٣ المحمول جوًّا المتمركز في فيتشنزا بإيطاليا.
وقبل استهداف قائد فليق القدس، كانت هناك تقارير تتحدث عن أن وزارة الدفاع الأمريكية تخطط لإرسال ما بين خمسة وسبعة آلاف جندي إضافي إلى الشرق الأوسط لمواجهة إيران. ويؤكد عدد من المسئولين العسكريين الأمريكيين أن الجنود الأمريكيين الإضافيين ليسوا ردًّا مباشرًا على مقتل “سليماني”.
وأضاف التقرير أن ٢٢٠٠ من مشاة البحرية، وسربًا من الطائرات والمقاتلات وطائرات النقل، في الطريق إلى الشرق الأوسط على متن سفن تابعة للبحرية الأمريكية كجزء عملية النشر المقررة في السابق.
وفي سياق المواجهة المتوقعة مع إيران تتحدث تقارير عن نشر وزارة الدفاع الأمريكية ٦ قاذفات “بي ٥٢” الاستراتيجية في القاعدة العسكرية الأمريكية في دييجو جارسيا بالمحيط الهندي، والتي ستكون جاهزة للعمليات العسكرية ضد إيران في حال اتخذ قرار بذلك، حيث تبعد ٤٨٤٢ كم عن إيران. وقد استخدمت القاعدة في حرب الخليج لتحرير دولة الكويت من الغزو العراقي في عام ١٩٩١، وفي الحرب الأمريكية على أفغانستان في عام ٢٠٠١.
الأصول الأمريكية في المنطقة
منذ بداية هجمات واستفزازات إيران في مايو الماضي في إطار استراتيجيتها للمقاومة والضغط على الولايات المتحدة بعد تبينها استراتيجية “الضغوط القصوى”، نشرت وزارة الدفاع الأمريكية حوالي ١٤ ألف جندي إضافي في منطقة الخليج، ومنهم ٣٥٠٠ جندي إضافي في السعودية. ويشير تقرير صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن هناك ما بين ٤٥ ألفًا و٦٥ ألف عسكري أمريكي منتشرون الآن في دول الخليج العربي، منهم ٥٥٠٠ جندي في العراق و٦٠٠ في سوريا.
وتتضمن الأصول الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط طائرات الإنذار المبكر، وطائرات الدورية البحرية، وبطاريات الدفاع الجوي والصاروخي (باتريوت)، وقاذفات بي ٥٢، وحاملة قاذفات، وطائرات مسيرة من طراز “ريبر” بجانب عدد من المهندسين وموظفي الدعم.
ويتمركز الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية الذي يقود السفن الحربية التي تقوم بدوريات بالمنطقة في البحرين. وتضم قاعدة العديد في قطر حوالي عشرة آلاف جندي. وتعتبر القاعدة مقرًّا للعمليات الجوية الأمريكية بالمنطقة، حيث تستضيف أسطولًا من ناقلات إعادة التزود بالوقود في الجو، إلى جانب طائرات الاستطلاع.
ويوجد حوالي ألفي جندي أمريكي في تركيا، يتمركز معظمهم في قاعدة “إنجرليك” الجوية. فعلى الرغم من التوترات في العلاقات بين الحليفين في حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو)، وتهديد الرئيس التركي بإغلاق القاعدة ردًّا على الضغوط الأمريكية لسياساته الإقليمية وتقاربه مع روسيا؛ لا تزال القوات الأمريكية تستخدم القاعدة التي لعبت دورًا حاسمًا في الجهود الأمريكية لهزيمة تنظيم “داعش” الإرهابي، والقضاء على خلافته المزعومة في سوريا والعراق. وتوضح الصورة التالية عدد القوات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
أهداف الانتشار العسكري الأمريكي
يكشف الانتشار الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط أن الولايات المتحدة لا تخطط لهجمات برية كبيرة تقوم بها هذه القوات ضد إيران، كما حدث في حرب الخليج عام ١٩٩١ أو غزو العراق في ٢٠٠٣، حيث سيعتمد الرد الأمريكي على الهجمات الإيرانية المتوقعة بصورة كبيرة على القوات الجوية والبحرية، وكذلك على الهجمات الإلكترونية، وذلك لضرب الأهداف الإيرانية أو وكلاء طهران بالمنطقة.
وترجع عدم رغبة الولايات المتحدة في الدخول في تصعيد عسكري مفتوح مع إيران يفضي إلى حرب لا ترغب فيها الإدارة الأمريكية إلى سببين رئيسيين؛ أولهما عدم رغبة الرئيس الأمريكي في توريط واشنطن في حرب جديدة يرفضها الناخبون الأمريكيون مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل. وينصرف ثانيهما إلى رغبة وزارة الدفاع الأمريكية في نقل تركيزها بعد هزيمة تنظيم “داعش” لمواجهة خصوم الولايات المتحدة الاستراتيجيين (روسيا والصين)، حيث ترغب الدولتان -وفقًا للرؤية الأمريكية- في تشكيل عالم يلائم نموذجهما الاستبدادي، وتقويض النظام الدولي القائم من داخله من خلال استغلال مميزاته، وفي الوقت نفسه هدم مبادئه والقواعد التي تحكمه. ولهذا، فإن المنافسة الاستراتيجية طويلة الأمد مع بكين وموسكو ستكون الأولوية الرئيسية للبنتاجون، بسبب حجم التهديدات التي تشكلها الدولتان ضد أمن ورفاهية الولايات المتحدة، خاصة مع إمكانية زيادة تلك التهديدات في المستقبل.
وتهدف الولايات المتحدة من إعادة انتشار قواتها في المنطقة والقوات الأمريكية الجديدة المحمولة جوًّا والقوات البرية الأخرى بصورة أساسية إلى أن تكون قوات دفاعية تهدف إلى تعزيز القواعد والمجمعات الأمريكية بالمنطقة، والرد على أي هجوم إيراني محتمل. بيد أن التصعيد الإيراني خلال العام الماضي في أعقاب الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي في ٨ مايو ٢٠١٨، وتبني الإدارة الأمريكية استراتيجية “الضغوط القصوى” التي كانت لها تأثيرات قوية على الاقتصاد الإيراني في وقت يواجه فيه النظام احتياجات شعبية من وقت لآخر، والتوقعات بتزايد هذا التصعيد بعد اغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني”، والذي سيقابله تصعيد أمريكي في وقت يسعى فيه الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” للفوز بفترة رئاسية ثانية في انتخابات نوفمبر المقبل؛ كل ذلك قد يُفضي إلى مواجهة عسكرية ممتدة لا تريدها واشنطن أو إيران في ظل التداعيات غير المقصودة وغير المخطط لها لهذا التصعيد المتبادل.
وقد تُنذر قرارات الرئيس الأمريكي للرد على التصعيد الإيراني في ظل غياب الخطط والاستراتيجية الأمريكية للتعامل مع تداعيات مقتل “سليماني” بانزلاق الإدارة الأمريكية في حرب إقليمية جديدة (مباشرة أو غير مباشرة) لا تريدها، ولا يريدها الشعب الأمريكي ولا يدعمها. وإن كان البعض يرى أن هذا الاحتمال ضئيل في ظل تجنب الطرفين له، إلا أنه مطروح في ظل حالة عدم اليقين وتعقد المشهد الإقليمي في الوقت الراهن، والأزمات الداخلية التي يواجهها الرئيس الأمريكي في الداخل مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية.