التطورات الأخيرة الجارية بشمال غرب سوريا، بعد تقدم الجيش السورى الفعال ضمن ما اصطُلح على تسميته «منطقة خفض التصعيد الرابعة»، وتمكُّن الجيش من السيطرة على مساحات ومدن استراتيجية كبيرة، خصماً مما كان يُفترض أن يظل تحت الحماية التركية التى تلعب دور الضامن للأطراف المسلحة التى تسمى نفسها بالمعارضة، وفق اتفاق سوتشى الموقع ما بين روسيا وتركيا.. هذا هو عنوانها العريض الذى تجرى وقائعه فى الوقت الذى تقدم فيه روسيا إسناداً ملموساً للجانب السورى لإنجاز مهامه فى الاستحواذ على ما يمكّنه من أراضٍ وبلدات، أمام مكون تركى هجين ما بين القوات النظامية للجيش التركى، وميليشيات مسلحة تعمل تحت إمرة الجانب التركى الطامح لوقف التصعيد، خشية أن تتدحرج الأمور لمواجهة مباشرة مع روسيا فى سوريا وهو ما تنذر به الأحداث بقوة.
تقدم الجيش السورى، مدعوماً من روسيا، بحملة عسكرية هى الأولى من نوعها بشمال سوريا، وتعطيل روسيا اتفاقيات أستانا وسوتشى واجتماعات اللجنة الدستورية بجنيف، جعل الموقف التركى ضعيفاً بشكل كبير، وبالتوازى مع التصعيد على الأرض، بات يفقد الكثير من أوراق القوة لديه، لا سميا بعد حصار «تسع نقاط» مراقبة عسكرية فى المنطقة. لم يكن أمام الجانب التركى سوى دعم الفصائل الموالية له بالأسلحة النوعية أولاً، ودفعها لاستخدامها فى الدفاع عن النقاط التركية بشكل جاد وحقيقى، فى الوقت الذى بدأت فيه أنقرة تستدعى دعم حلفائها فى الناتو والولايات المتحدة، الذى يضمن لها غطاء ودعماً صريحاً لاستخدام القوة، من أجل فك الحصار عن تلك النقاط وبالتالى إجبار النظام على التراجع، كما ورد فى تهديد أردوغان ووفق المهلة التى منحها للجيش السورى بنهاية هذا الشهر. تركيا تخشى بشكل كبير أن يضعها هذا المتغير الجديد فى موقف حرج وضعيف يُفقدها المزيد من الأوراق، وكذلك يحقق ما تعول عليه روسيا منذ بدأت تحث النظام على التقدم، وهو زعزعة العلاقة والثقة بين المدنيين بإدلب وحلب مع الضامن التركى، كى تسحب من أنقرة ورقة قوية ظلت «ذريعة» وداعمة للوجود التركى فى الشمال السورى برمته.
لهذا بدا لافتاً أن ترد للمرة الأولى بالبيانات العسكرية الرسمية للجيش السورى وقائع مثل تدمير 20 دبابة وعشرات الآليات المدرعة أثناء حربه على الميليشيات التى كانت قبلاً تدور قدراتها العسكرية حول الرشاشات المتوسطة والثقيلة وأنواع القذائف المحمولة وأنواع المفخخات المختلفة. تلك النقلة النوعية فى إمكانياتها تؤكد أن أنقرة كثفت، خلال الأسابيع الأخيرة، من إرسال التعزيزات العسكرية التى تضم مجموعة متنوعة من الأسلحة الثقيلة إلى ريف «إدلب»، جرى ذلك بعد التقدم الذى أحرزته قوات الجيش السورى بالأخص بعد وصوله لمدينة «سراقب» التى شهدت على متغير لافت هو الآخر، وهو تصاعد حدة الصدام بين تركيا وقوات تابعة للنظام، متمثلاً فى استهداف نقطة تركية ثبتت حديثاً غربى مدينة «سراقب» أسفر عن مقتل جنود أتراك تابعين للجيش التركى دخلوا إلى الأراضى السورية بموجب تفاهمات سوتشى ومناطق خفض التصعيد. هذا استلزم رداً تركياً مباشراً وجهته حينها إلى استهداف مروحية سورية فى أجواء «قبتان الجبل» أثناء تحليقها فى سماء المنطقة، والجدير بذكره فى هذا الصدد أنها ثانى حادثة من نفس النوع فى غضون ثلاثة أيام.
الجانب الروسى أكد أن المروحيات استُهدفت بصواريخ أُطلقت من نقاط مراقبة تركية، قرب منطقة «دارة عزة»، فى الوقت الذى أعلن فيه النظام السورى أن المروحية الثانية سقطت بالقرب من «أورم الكبرى»، حيث تنتشر التنظيمات المسلحة المدعومة من تركيا. لكن كلا الحليفين اجتمعا على اتهام تركيا علانية بأنها زودت المسلحين فى «إدلب» بأنظمة محمولة للدفاع الجوى أمريكية الصنع، عندما كان أردوغان يهدد فى وقت سابق بأن طائرات النظام السورى لن تطير بحرية فى إدلب. هذا لم يقف عند حد رفع وتيرة التصريحات، بل ذهب الجيش التركى إلى إنشاء نقاط مراقبة جديدة فى ريف إدلب الشمالى، فلم تكن أنقرة لتقف مكتوفة الأيدى إزاء تطويق قوات الجيش السورى لمواقع المراقبة التركية فى إدلب، فى الوقت الذى بدا فيه إيجاد سبل لتنفيذ اتفاقات إدلب عبر الاتصالات الثنائية والاتفاقات بعيد المنال على الأقل فى الوقت الراهن، فما زالت جعبة كلا الطرفين لديها ما يمكّنه من إيلام الطرف الآخر به، والعمليات القذرة بدأت تقفز على السطح بقوة، للحد الذى يجرى فيه استخدام المدنيين كرهينة وضحية لمعادلات التصعيد بصورة يومية وعلى مختلف محاور التصعيد الذى يجرى فى الأنحاء.
أبرز الأمثلة التى جرت فى الجوار القريب من الأحداث أن بعض فصائل الجيش الحر الموالى لتركيا قسمت منطقة «عفرين» التى تسيطر عليها إلى قطاعات، وكل فصيل مسئول عن قطاع لا يسمح لأحد من النازحين، جرّاء العمليات العسكرية، بالدخول إليه ما لم يحصل على ورقة بـ«خاتم تركى» تتضمن إذن سماح له بالنزوح إلى هذه المنطقة. الحصول على هذه الورقة يتطلب دفع رشاوى إلى الجهة التى تتحكم بالمنطقة، وهذا يرجع إلى الحاجز المسئول عن تحصيل قيمة الرشوة التى تتحدد وفق خطورة الوضع الذى تعانيه الأسر وما يشتملونه من أطفال ونساء، فتركيا ترى أن الخيار الوحيد الذى ستفعله بمساعدة الاتحاد الأوروبى هو نقل هؤلاء لمنطقة شرق الفرات الخاضعة تحت سيطرة العملية العسكرية التركية «نبع السلام»، على غرار توطين مهجرى ريف دمشق فى «عفرين»، من جانب أنقرة سيجرى حل هذه المسألة وفق هذا المخطط كأمر واقع، اضطرت إليه تحت وقع التقدم السريع للجيش السورى، ومحاولة لحفظ ماء وجهها فهى أكثر انشغالاً اليوم بأخذ غطاء من الولايات المتحدة والناتو لكى تدافع تركيا عن نفسها وليس عن السوريين، وهى اليوم تتفاوض مع الجميع لإعطائها الضوء الأخضر لما يمكن أن تفعله بالحد الأدنى والأعلى، كى تبقى الأمور مفتوحة لسيناريوهات متعددة، تختار منها أنقرة ما يمكن إنقاذه.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ١٨ فبراير ٢٠١٩.