نستطيع أن نوجز تاريخ روسيا وعلاقتها بالجغرافيا والثقافة إيجازًا قد يكون مخلًّا على النحو التالي: روسيا نشأت قزمًا وأصبحت ما بين عامي ١٥٧٠ و١٧٠٠ عملاقًا، محركها التاريخي هو عدم وجود حدود طبيعية تحميها وترسم ملامحها، فعرفت مرارة الاحتلال من غزاة قادمين من الشرق أو من الجنوب تارة ومن الغرب تارة أخرى، إن وجدت ظاهرة طبيعية تحميها فهي الطقس. ولتوفير الأمن، ولأسباب دينية وأخرى سياسية، ظلت روسيا تتمدد إلى أن وصلت شرقًا إلى المحيط الهادي. ويمكن القول إنها ضمت ٨٠ كم٢ يوميًّا لمدة قرون. لكن التمدد لم يحقق الأمن، وإنما تسبب في زيادة هائلة للأعباء العسكرية والحروب. طالت الحدود، وضعفت الكثافة السكانية بسبب الطقس واتساع الرقعة وضعف نسبة الأراضي الصالحة للزراعة.
أثّر كل هذا على البنية الاجتماعية والثقافة والمخيال والعقل الجمعي. من ناحية، روسيا قوة عظمى، أو على الأقل فاعل بالغ الأهمية منذ القرن السابع عشر، ولكنها ظلت دائمًا قوة فقيرة نسبيًّا، لأن الإنفاق العسكري طغى بشدة على الأوجه الأخرى. وإلى الآن، يمكن القول إن ما يرتبط بالقوة العسكرية من صناعات أكثر تقدمًا من باقي القطاعات. ومن ناحية أخرى، مال الحاكم –على الأقل منذ البدايات إلى منتصف القرن التاسع عشر- إلى اعتبار الشعب من غنائم الحرب أو عبدًا مملوكًا للدولة لأنه شعب أو شعوب أقاليم تم غزوها. والشعب على أحسن الفروض هو مورد من موارد الدولة وأداة في يد الحاكم. ويرى العقل الجمعي الروسي –وأظن أن حقائق الأمور تؤيده- أن النظام المتسلط بل والاستبدادي ضروري لضمان سلامة ووحدة الأراضي، أو على الأقل أسهل طريقة لتحقيق الأمن القومي.
بمعنى آخر، ترتب على الأوضاع الجغرافية وضرورات المجهود العسكري ومدركات القيصر أنه تم استعباد الشعب تدريجيًّا، بحيث أصبح بلا حقوق، وبلا تعليم، وبلا كفاءات. ولم يتم تعديل وضعه القانوني كشعب عبد إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهناك أقلية تلقّت تعليمًا غربيًّا لتتقن فنون الحرب، وتشربت مع الوقت وأثناء القرن الثامن عشر بقيم غربية، واصطدمت مع القيصر في الربع الثاني من القرن التاسع عشر، مما دفع القيصر إلى تنمية القطاع المدني لجهاز الدولة، وظهرت طبقة متعلمين مدنيين روسية ترى نفسها “طليعة”. ولم يكن يجمع بين مختلف الطبقات سوى العقيدة الأرثوذكسية التي كانت بمثابة العمود الفقري للمجتمع. وكان الشعب يعتبر نفسه حارسًا لها ويفتخر بهذا الدور.
ما أريد قوله إن روسيا تقوم في مخيال شعبها على ثلاثة أركان؛ القومية، والأرثوذكسية، والأوتوقراطية (أي الاستبداد). هذا وقد حلت الماركسية اللينينية محل الأرثوذكسية خلال الفترة من عام ١٩١٩ إلى عام ١٩٨٩.
وتعددت القراءات الغربية والروسية لهذا التاريخ ولهذا البلد، وخصص أكاديميون عمرهم لدراسة الثقافة السياسية الروسية والخطابات الغربية عن روسيا. ولا يتسع المجال لعرض كل الاتجاهات والقراءات. ونحاول الإجمال مع التركيز على تلك القراءات المؤثرة بشدة على السياسات الخارجية لروسيا وللدول الغربية.
ويلاحظ على هذه القراءات -روسية كانت أم غربية- ما يلي:
أ- إما أنها تركز على القوة العسكرية الروسية، وهل تكفي لاعتبار روسيا دولة كبرى أم لا؟ وهل روسيا دولة عدوانية بالسليقة أم دولة مظلومة؟ وهل عدوانيتها هذه تختلف عن عدوانية الدول الغربية أم لا؟
ب- أو أنها تفضل تناول تأخر روسيا الاقتصادي وموقفها من الحداثة، وهل هي دولة حديثة فعلًا أم لا؟ وهل هذا التأخر يمنعها أن تكون دولة كبرى أم لا؟ ويلاحظ من ناحية أن مصطلح “تأخر” ينطوي على مقارنة دائمة مع الغرب، يُجريها الطرفان. ويلاحظ من ناحية أخرى، أن هناك قطاعات من النخب ومن الرأي العام الغربي لا ترى أن التخلف عن ركب الحداثة نقمة بالضرورة، بل قد يذهب إلى أنه “بركة”. هذه القطاعات قد تكون من المحافظين الذين لا يحبون التنوير، أو قطاعات من الجماهير التي تريد حاكمًا قويًّا يحميها أو يحمي البلاد، أو لا تحب هيمنة الليبراليين والولايات المتحدة. ويلاحظ أن المتدينين المحافظين ليسوا على موقف واحد، فمنهم من يرى في الأرثوذكسية سبب بلاء هذه الدولة.
أما موقف الفكر والثقافة الروسيين من مشكلة التأخر عن الغرب فيستحق مبحثًا خاصًّا على الأقل. وإجمالًا يمكن تحديد ما لا يقل عن أربعة مواقف؛ أولها، الإنكار ولو بالكذب وبإخفاء الحقائق وبتقديس السرية المطلقة. وتحدث مراقبون غربيون منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر عن إدمان الروس للكذب عند لقاء الغربيين. ثانيها، تقديس البلاد، والقول بأن لها مهمة إما ربانية أو تحريرية، فهي تارة البلاد الوحيدة المؤمنة بالمسيحية الحقة، وتارة حامية حمى الشعوب السلافية، وتارة حاملة لواء الاشتراكية العلمية، وشعبها أطيب شعب في الدنيا، أو هو شعب يتميز بالتطرف في فعل الخير وفي ارتكاب الشر.. إلخ. ثالثها، هو الإقرار بالتأخر والقول بأنه “بركة”، لأن الحداثة والفردية والمادية والرأسمالية –كلها أو بعضها- شر مبين. رابعها، الإقرار بالتأخر والمناداة بضرورة الاعتراف بأن الغرب نموذج يحتذى ولو جزئيًّا.
ج- هناك جدل حول تقييم آثار الحكم الشمولي الشيوعي على المجتمع الروسي، هل زالت هذه الآثار أم لا؟ هل تسبب هذا الحكم في تحديث المجتمع أم منع نهضة كبرى كانت قد بدأت في النصف أو الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، أثمرت عن مساهمات روسية عظيمة في الثقافة والعلوم العالمية؟ وهل أفسد هذا الحكم روسيا وشعبها إفسادًا يستحيل معه الإصلاح؟
د- هناك جدل آخر؛ هل تجيد روسيا تعريف مصالحها القومية وأمنها القومي؟ وعلى فرض أن الرد بالإيجاب، هل سياسات الرئيس “بوتين” وفريقه موفقة في صيانة هذا الأمن القومي؟
ونشير هنا إلى دراسة بالغة الأهمية نُشرت في مجلة “فورين أفيرز” (نوفمبر ٢٠١٩) كتبها الدكتور “توماس جراهام”، عضو مجلس الشئون الخارجية والعضو السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي في إدارة “جورج بوش الابن”، يقول إن جماعة السياسة الخارجية الأمريكية افترضت دائمًا أن الولايات المتحدة تملك من الأدوات ومن التأثير ما يسمح لها بدفع روسيا إلى مراجعة جذرية لرؤيتها للعالم ولأمنها القومي ولمصالحها. وانحصر الجدل في هذه الجماعة في تحديد الاستراتيجية التي تحقق هذا وعناصرها، عصا أو جزرة أو أي مزيج من الاثنين؟. ويقول “جراهام” إنه آن أوان الاعتراف بأن هذه الفرضية خاطئة تمامًا، وآن الأوان للتعامل مع روسيا على أساس أنها لن تغير رؤيتها. ونسب “جراهام” هذا الوهم المستمر إلى تجاهل عناصر قوة روسيا، وهي امتلاكها ترسانة نووية مهيبة، وثروات طبيعية هائلة، وموقعًا جغرافيًا مركزيًا، وقوى عاملة عالية الكفاءة، وحق الفيتو في مجلس الأمن، وأخيرًا وليس آخرًا هي الدولة الوحيدة التي تستطيع أن تدمر الولايات المتحدة تدميرًا شاملًا في نصف ساعة.
وصف “جراهام” مقاربة الأمريكيين بأنها تفكير بالتمني، أو تفكير غيبي، وحاول أن يبين أسباب تبني هذه الفرضية الخاطئة حول تأثير الولايات المتحدة. يقول إن الولايات المتحدة رأت في انتصارها في الحرب الباردة نصرًا لنظام سياسي واقتصادي على نظام آخر انهار تحت وطأة التنافس، وأن المخرج الوحيد لروسيا هو تبني نظام قائم على الجمع بين الديمقراطية التمثيلية والرأسمالية. ويعذر “جراهام” زملاءه قائلًا إنه بدا في التسعينيات أن النخب الروسية تشاركهم التشخيص ذاته. وأيًّا كان الأمر فإن معنى كلامه أن الأمريكيين إما افترضوا أن العقيدة الشيوعية كانت المحدد الأساسي أو الأوحد للمصلحة الوطنية الروسية ولرؤية روسيا للعالم، وأن انهيارها سيؤدي حتمًا إلى مراجعات شاملة، وهذا الرأي الشائع معيب واضح الخطأ، أو أنهم تصوروا أن حل مشكلة الفقر وتخلف البنية التحتية الروسية يقتضي “كمونًا استراتيجيًّا” أو إعادة تعريف الأمن القومي الروسي. وفي الواقع تساءل “بوشكوف”، عضو مجلس الشيوخ الروسي، في كتابه الأخير: هل كان من الممكن لروسيا اتباع استراتيجية “كمون”، كتلك التي تبنتها الصين، حتى تبني قاعدتها الاقتصادية قبل أن تُناطح أمريكا؟ ورد “بوشكوف” بالسلب على هذا التساؤل قائلًا إن الصين كانت تملك هذا الترف لعدم وجود حدود مشتركة مع دول الناتو، ولعدم حدوث تغير استراتيجي جغرافي يُهدد وجودها. ويرى أنه تحتم على روسيا منع اصطفاف الدول المجاورة لها مثل جورجيا وأوكرانيا مع واشنطن.
ونضيف إلى كل هذا أن عناصر القوة الروسية السابق ذكرها لم تكن سرًّا من الأسرار، وبالتالي يحتاج عدم إدخالها في الحسبان تفسيرًا، أراه مبنيًّا على بعض العناصر. وجود قناعة راسخة بأن السلاح النووي لا يمكن لعاقل اللجوء إليه في ظل امتلاك العدو لمثله، وأن متعصبًا أو مؤدلجًا هما فقط من يستطيع هذا، وأن سقوط الشيوعية قضى على هذا الاحتمال. من ناحية أخرى، يفرز النظام الرأسمالي معايير تقييم لفعالية النظام السياسي تلعب فيها حالة الاقتصاد والمالية العامة دورًا رئيسًا. ووفقًا لهذه المعايير فروسيا لا توجد في المقدمة. ويزيد الطين بلة أن النظام الروسي اتجه إلى خيار يستورد فيه التكنولوجيا من الخارج بعوائد النفط والغاز، وهذا الخيار يسمح بضرب الاقتصاد بفرض عقوبات. هذا التأخر الاقتصادي ومعه ضعف القوة الناعمة لروسيا يضعفان جاذبيتها كحليف، وأخيرًا وليس آخرًا فإن الأمريكيين قد يملكون ترف تجاهل القوة العسكرية الروسية أو الحط من شأنها، ولكن الأوروبيين ودول القوقاز لا يستطيعون التقليل من شأنها.
ومن ناحية ثالثة، يقول “جراهام” إن الأمريكيين أقنعوا أنفسهم بأن سياسة “بوتين” ليست سياسة دولة بل سياسة شلة أو مافيا من الفاسدين اللصوص (هكذا يصفهم جراهام وغيره) لا تفكر إلا في مصالحها، ويشاركهم كثير من المحللين الأوروبيين في هذا. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قرأنا على بعض المواقع أن حرب أسعار الطاقة التي شنتها روسيا مؤخرًا على المملكة السعودية تضر بمصالح روسيا إضرارًا بالغًا، ولكنها جاءت على هوى “بوتين” ورئيس مجلس إدارة إحدى الشركات الكبرى وهو من أصدقاء الرئيس الروسي ومن كبار المنتفعين. ووفقًا لجراهام يترتب على اعتبار النخبة الروسية مجموعة من اللصوص لا يفكرون إلا في جمع المال ذيوع تصور يرى أن توقيعَ عقوبات على هؤلاء اللصوص كافٍ لدفعهم إلى تغيير سياساتهم أو إلى الضغط على “بوتين” ليمتثل لمشيئة واشنطن، وتصور آخر يرى أن سياساتهم لا تمت بصلة لمصالح روسيا الحقيقية.
بصفة عامة، هناك جدل حول “موضوعية” تعريف القيادة الروسية لمصالح البلاد ولأمنها القومي ولواقع النظام العالمي من ناحية، وحول قدرة هذه القيادة على الدفاع عن تلك المصالح لا سيما إن تعارضت ومصالحها الشخصية المفترضة. وهناك تنويعات عديدة، هناك من يرى (“فرانسواز توم” تحديدًا في كتابها الأخير “فهم البوتينية”) كما أسلفنا أن القيادة مجموعة لصوص وبلطجية متأثرين بالعادات والممارسات السائدة في عالم الإجرام، وأن لغة خطاب الرئيس “بوتين” كاشفة لهذا وفاضحة له. وتستشهد “فرانسواز” مثلًا بمقولته: “سنطاردهم في المراحيض”. ويحاول أصحاب هذا الرأي أن يبرهنوا على كلامهم هذا بتتبع سيرة رجال الحكم الروس وعلاقات القيادة والكوادر مع كبار قادة المافيا الروسية وقنوات الاتصال بينهم وما كشفته قضايا الفساد. ويذهب هذا الفريق إلى أن مصالح تلك العصابة هي المحرك الرئيس للسياسة الخارجية. وهناك من يرى أن أغلب القائمين على الأمور، ومن بينهم “بوتين” نفسه، من رجال المخابرات السوفيتية ولم يتخلصوا من إرثها ومن تأثير الشيوعية، ويديرون السياسة الخارجية وكأنها سلسلة من العمليات الاستخبارية الخاصة، ويرون أن الأمن يسبق الاقتصاد وليس العكس. وأخيرًا يرى فريق –ومنهم جراهام- أن بُعدًا نفسيًّا يؤثر على القيادة الروسية وحساباتها، وهو الرغبة في أن يعتبرها العالم قوة عظمى شأنها شأن الولايات المتحدة.
كل هذا الكلام يستوجب تعليقات نجمل بعضها. أولًا، أن من حدد الخطوط العامة للسياسة الخارجية الروسية ليس “بوتين”، بل الراحل “بريماكوف”، رئيس الوزارة ومدير الاستخبارات. ويمكن القول إن السياسة الخارجية وعقيدة الأمن القومي الروسي هي عقيدة الدولة الروسية وبيروقراطيتها وتيارات فكرية مهمة وحاضرة. نعلم طبعًا أن هناك تباينات بين أصحاب هذا الخط؛ هناك مثلًا من يرى أن بعض مواقف السياسة الحالية تحرم روسيا من بعض الأوراق وترميها في أحضان الصين التي تشكل خطرًا يماثل الخطر الأمريكي. ولكنه لا يمكن نسبة هذه السياسة إلى مصالح ضيقة إجرامية كانت أم بيروقراطية، ولا التقليل من شأن استياء عام من السياسة الخارجية الأمريكية. وبصفة عامة، يتجاهل الأمريكيون تأثير بعض أخطائهم الفادحة مثل غزو العراق على مدركات الفرقاء الآخرين. ثانيًا، لا يمكن إرجاع الإيمان بأولوية الأمن وبقيادة الدولة للاقتصاد للثقافة المهنية لأبناء المخابرات الروسية وحدها، حيث تلعب هذه الثقافة المهنية دورًا مؤكدًا ولكن معطيات الجغرافيا والذاكرة الجمعية والمصالح الوطنية والقرارات الأمريكية تلعب دورًا قد يكون أكبر. وعندما نتكلم عن الذاكرة الجمعية نتكلم عن التجربة الروسية خلال تاريخ طويل وخلال التسعينيات من القرن الماضي التي شاهدت فوضى وغياب أمن وفساد وتراجع واستغلال غربي للظرف. ونشير أيضًا إلى خصوصية علاقة الولايات المتحدة بذاكرتها، إذ تميل نسبيًّا -وفقًا لدبلوماسي فرنسي مرموق- إلى اعتبار أن الاعتراف بالخطأ يمحوه كلية هو وتبعاته، وتعجز عن فهم دور الذاكرة الجمعية والخوف من المستقبل في رسم سياسة الآخرين.