منذ البدايات الأولى لأزمة سد النهضة، ومع وضع حجر الأساس في 2 أبريل 2011، كان واضحًا أن إثيوبيا تسعى بشكل حثيث إلى استغلال اضطراب الأوضاع الداخلية في مصر إبان ثورة يناير 2011، لإحداث تحولات نوعية كبرى تُمكّنها من التحكم المنفرد والهيمنة التامة على مجرى نهر النيل الأزرق المسئول عن النسبة الأكبر من إيرادات المياه التي تصل إلى مصر. وقد ظهر ذلك من خلال مؤشرين بَالِغَيِ الأهمية؛ الأول: هو تجاهل إثيوبيا المطلق لمبدأ الإخطار المسبق، وهو أحد أهم مبادئ القانون الدولي فيما يتعلق باستخدامات المياه في غير الأغراض الملاحية، فبادرت أديس أبابا إلى الإعلان عن وضع حجر الأساس، في الوقت الذي حرصت فيه على إبقاء كل التفاصيل المتعلقة بالسد ومواصفاته وسعة تخزينه طي الكتمان.
المؤشر الثاني: ظهر من خلال السعة الضخمة للسد، التي كانت تدور -حسب كل الدراسات المقترحة- حول 14 مليارم3، فإذا بإثيوبيا ترفع سعة التخزين إلى 74 مليارم3، أي حوالي خمسة أضعاف السعة التي أقرتها كل الدراسات العلمية الأوروبية والأمريكية.
في الوقت نفسه، وحين تم الاطلاع على مواصفات السد من خلال اللجنة الدولية الأولى التي تكونت عام 2012، تبين أن كفاءة السد في توليد الطاقة منخفضة للغاية، ولا تتجاوز 30%، بما يعني أن الإعلان الإثيوبي عن السد باعتباره أكبر محطة توليد طاقة كهرومائية في إفريقيا بطاقة توليد 6000 ميجا وات كان عملًا دعائيًّا محضًا، فالسدّ في الحقيقة لن يستطيع توليد إلا حوالي 2000 ميجا وات، قد تزيد أو تنقص قليلًا. وبالتالي، فإن التساؤل البديهي الذي لا بد أن يطرأ على الأذهان: ما الهدف من السد إذن؟ لا سيما وأنه لا يمكن استخدامه في الري بالنظر لوقوعه على الحدود الإثيوبية السودانية، وبالتالي لا توجد أراضٍ إثيوبية يمكن ريّها، كما أنه لا يخدم الهدف المتعلق بالحد من مخاطر الفيضانات، حيث لا تعاني إثيوبيا من ذلك، بل السودان، ومصر في وقت سابق أيضًا، إلا أنه تم درء ذلك عبر السد العالي.
ومن ثمّ يمكن استنتاج أن السد ليس إلا أداة للتحكم في تدفقات النهر، بدعوى أن إثيوبيا لها حق السيادة على الموارد داخل أراضيها، وهو قول عبثي تمامًا. فهذه النظرية بخلاف أن القانون الدولي قد تجاوزها وأصبحت منقرضة؛ فإن نهر النيل الأزرق ليس نهرًا داخليًّا، بل هو نهر دولي توجد عليه دول أخرى متشاطئة، وهذه الدول لها حقوق يحميها القانون الدولي، أهمها ضرورة التأكد من عدم وجود ضرر ذي شأن. وهذا الأمر بدوره يحتاج إلى دراسات عديدة هيدرولوجية واقتصادية واجتماعية وبيئية، يجب أن تسبق عملية الشروع في البناء، لكي تكون جميع الأطراف على بينة من التأثيرات المستقبلية، ولكي يتم اتخاذ الإجراءات المناسبة لحفظ حقوق الجميع على قاعدة “لا ضرر ولا ضرار”، وأيضًا لتحديد المسئوليات والتعويض عن الأضرار في حالة وقوعها خارج الحسابات الموضوعة، الأمر الذي وُضع من أجله مبدأ الإخطار المسبق الذي تجاهلته إثيوبيا، وكأنها تتحرك في غابة.
بالرغم من كل ما سبق، ورغم وضوح النوايا والأهداف الإثيوبية؛ فإن مصر في إطار حرصها على حالة التعاون في حوض النيل الشرقي، وعلى مصالح الشعوب في التنمية والأمن في البلدان الثلاثة (مصر، والسودان، وإثيوبيا)؛ أعلنت معادلتها المعروفه “أن من حق إثيوبيا التنمية، ومن حق مصر الحياة”، وذلك يعني أن لإثيوبيا حق توليد الطاقة التي تريدها، شريطة الالتزام بتقليل الأضرار على مصر إلى أدنى حدٍّ ممكن. وتطبيقًا لهذا المبدأ القائم على تقاسم المصالح والتشارك في التنمية، وتحاشي الانزلاق إلى الصراع؛ اتّبعت مصر استراتيجية أساسية قوامها إبداء المرونة والصبر الطويل، والتفاوض بحسن نية، والتركيز الجاد على الوصول إلى حلول سلمية تتسم بالتوازن وتلبية مصالح كل الأطراف.
على الجانب الآخر، كانت التحركات الإثيوبية -للأسف الشديد- وطوال عشر سنوات من الاجتماعات والمباحثات والكر والفر، تتصف بعدة سمات على النحو التالي:
1- سوء النية منذ البداية، وعدم وجود أي إرادة سياسية للوصول إلى اتفاق، أو الالتزام بأي قواعد حول كيفية التصرف في المياه المحتجزة خلف السد في الحالات المختلفة للفيضانات المنخفضة والمتوسطة والعالية. فعقب إصدار اللجنة الدولية تقريرها في عام 2013، وإثباتها وجود أخطاء تصميمية في السد قد تؤدي إلى انزلاقه، بالإضافة إلى الضعف الشديد للدراسات الهيدرولوجية، وغياب دراسات الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية؛ فقد طلبت مصر أن تتكون لجنة أخرى من خبراء وطنيين ودوليين للإشراف على إنجاز هذه الدراسات، لأهمية هذه الخبرات من الناحية الفنية، وأيضًا حتى يكون هناك طرف محايد يمكنه حسم الخلافات، ويفتح المسار للتقدم إلى الأمام. إلا أن إثيوبيا، ونتيجة لسوء النية المسبق، أصرت إصرارًا شديدًا على استبعاد أي خبراء دوليين من اللجنة الوطنية التي تم التوافق عليها (12 عضوًا بواقع 4 أعضاء من كل دولة). وقد اتضح أن الهدف من ذلك هو امتلاك حق الفيتو، إذ إن قرارات اللجنة في هذه الحالة لا بد أن تصدر بالتوافق، ومن ثم استخدمت إثيوبيا ذلك الأمر بشكل متعنت جدًّا، أدى في نهاية المطاف ورغم كل الجهد الطويل والمكثف الذي بُذل، والمقترحات التي تقدمت بها مصر أو مطالبتها بإشراك البنك الدولي كجهة فنية في مسألة إنجاز الدراسات، فقد كان الموقف الإثيوبي الدائم هو الرفض، وأحيانًا بدون إبداء أي أسباب. مما أفضى في النهاية إلى عدم إنجاز الدراسات المطلوبة عمدًا، الأمر الذي ترتب عليه أيضًا إفراغ إعلان المبادئ الموقّع في مارس 2015 من مضمونه، وإسقاط إثيوبيا كل أقنعتها، والقول بكل صلف وجهالة إن “الماء ماؤنا، والسد سدنا، ونحن أحرار فيما نفعل”.
2- دأبت إثيوبيا على سياسة الكذب والخداع الإعلامي، وأطلقت مئات التصريحات الإعلامية، ومن أعلى هرم السلطة في إثيوبيا، بأنه لن تنقص نقطة مياه واحدة من مصر، ثم تسلك نقيض ذلك في قاعات التفاوض، مع الحرص على استنزاف الوقت عن طريق الاعتذار عن الاجتماعات، وتعمد إطالة الفجوة الزمنية بين كل اجتماع وآخر، بحجة انشغال مسئوليها في مهام أخرى. وحين اضطرت إثيوبيا لقبول دعوة واشنطن للتفاوض، وبعدما أصبحت هناك وثيقة جاهزة للتوقيع، قلبت إثيوبيا ظهر المجن، وغادرت التفاوض بحجة أن هناك انتخابات داخلية تقتضي التأجيل، لكنها سرعان ما فضحت سوء نيتها بشكل علني حين أعلنت بطريقة همجية أنها سوف تبدأ الملء بشكل منفرد في فيضان هذا العام (يوليو – سبتمير 2020)، دون وجود أي اتفاق، ضاربة عرض الحائط بكل قواعد القانون الدولي، وغير آبهة بما قد تُلحقه من ضرر بالدولتين أسفل المجرى وخاصة مصر، وغير مكترثة أيضًا بما قد ينتج عن ذلك من الانزلاق إلى صراع ممتد، سوف يُلحق الضرر والخسائر بشعوب الدول الثلاث التي يصل تعداد سكنها إلى 240 مليون نسمة، والتي هي في أشد الحاجة لتوجيه كل جهودها نحو التنمية والأمن الإنساني والاجتماعي والاقتصادي لهذه الشعوب، وليس للتنازع والصراع.
3- أثبتت إثيوبيا في كل مراحل التفاوض غياب الحس بالمسئولية، والسعي الحثيث لفرض استراتيجيتها الخاصة ذات الآثار المدمرة على مصر، رغم معرفتها التامة بأن النيل يُمثل شريان الحياة للمصريين. وفوق ذلك، ولعلم إثيوبيا أن كل مواقفها تقع خارج القانون الدولي، فإنها ظلت طوال وقت ترفع راية المظلومية، وتزعم طوال الوقت أنها دولة فقيرة تسعى فقط للتنمية، وأن شعبها يحتاج إلى الكهرباء من أجل التنمية، وأن نسبة كبيرة من السكان يعيشون في الظلام. وحين قدمت مصر كل المعادلات الفنية التي تضمن لها توليد الطاقة مع تقليل الضرر على مصر، رفضت وتعنتت، وبذلك سقطت الصورة المصطنعة التي روجتها لسنوات طوال. وظهر جليًّا للعالم والمجتمع الدولي أنها (إثيوبيا) تريد الهيمنة على النهر منفردة، ولا تبالي بإلحاق ضرر هائل بالآخرين. والمثير للدهشة والعجب أنها قامت بشن حملة إعلامية تعتمد بشكل كامل على الأكاذيب عن اتفاقيات استعمارية، وعن توافر موارد جوفية لمصر يمكن أن تعتمد عليها، أو أنّ مصر لا تحسن استخدام ما لديها من مياه، وكل هذا يصب بشكل واضح في الاستمرار في التصرف المنفرد بغض النظر عن مواقف دولتي المصب وخاصة مصر.
4- لإثيوبيا سوابق في مثل هذه التصرفات التي تُلحق الضرر بالآخرين، كما فعلت تجاه كل من الصومال وكينيا في نهري “جوبا وشبيلي”، حيث قامت أيضًا بتصرفات منفردة، نتج عنها إلحاق ضرر هائل بالسكان والبيئة والزراعة في هاتين الدولتين، بما يعني أن حديثها عن الاستخدام المنصف والعادل وعن الحق في التنمية (والذي لا تنكره مصر) هو مجرد هُراء تتلفظ به في بعض الأماكن ثم تنكره في أماكن أخرى وتدعي الصمم والعمى.
وعلى ذلك، فإنه من الواضح للجميع أن مؤسسات الدولة المصرية قد أظهرت على مدى السنوات الماضية حرصها الكامل على الروح التعاونية، وعلى الوصول إلى اتفاق عادل ومتوازن، وقد أبدت من الصبر والمرونة وسعة الصدر الكثير بما يفوق الاحتمال، الأمر الذي عرّضها -في كثير من الأحيان- لانتقادات داخلية عديدة، كما صبرت على إصرار إثيوبيا على الاستمرار في الدوران في حلقة مفرغة من الاجتماعات عديمة القيمة والفائدة، ورفض أي توفيق أو وساطة لحل الخلافات القائمة، رغم النص على ذلك في إعلان المبادئ، وذلك حرصًا منها على روح الوفاق والتعاون ولصالح شعوب الدول الثلاث. كما أن كل مواقف مصر ومقترحاتها التزمت دائمًا بروح وقواعد القانون الدولي، وبذل وفدها التفاوضي جهودًا فنية فائقة في تقديم البحوث والدرسات والسيناريوهات المختلفة، مدعمة بالحجج والأسانيد العلمية لتحقيق مطلب التوازن في المصالح بين الدول الثلاث.
ونتيجة للأداء رفيع المستوى والنظرة بعيدة المدى، استطاعت مؤسسات الدولة المصرية حين انتقلت المفاوضات إلى العاصمة الأمريكية واشنطن وبحضور البنك الدولي، أن تعرض كل جهودها السابقة ومقترحاتها ووجهات نظرها في اتساق ووضوح وقدرة فنية متفوقة، تتوافق -في الوقت نفسه- مع القانون الدولي، وتراعي بمسئولية روح التوازن في المصالح، الأمر الذي أدى في النهاية إلى التوصل إلى وثيقة واشنطن، التي وقعتها مصر بالأحرف الأولى، ووافق عليها السودان، وإن لم يوقع، ورفضتها إثيوبيا بعد أن شاركت في الموافقة على 90% منها، معلنة الانسحاب، ومحاولة بدء جولة جديدة من الكذب والخداع بأعذار واهية.
ومع اقتراب السد من الانتهاء، وإصرار إثيوبيا على البدء في الملء في يوليو المقبل، وفرض أمر واقع جديد بالقوة؛ لم يكن هناك مناص أمام مصر من التقدم بمذكرة إلى مجلس الأمن، تُطلِع المجلس فيها على تفاصيل ما جرى خلال السنوات العشر الماضية، وتخاطب المجلس بأن استمرار إثيوبيا في موقفها الراهن يُهدد السلم والأمن في المنطقة، وتطلب منه أن يحث إثيوبيا على التوقيع على اتفاقية واشنطن التي تُقدم حلًّا عادلًا ومتوازنًا بشهادة الولايات المتحدة والبنك الدولي.
إن مصر ما زالت حريصة على الوصول إلى اتفاق، وتشهد على ذلك جهودها التي يشهد عليها العالم أجمع، والكرة الآن في ملعب إثيوبيا، التي يجب عليها أن تدرك أن مصالح الشعوب لا يجوز أن يتم التلاعب بها كمناورة في صراعات داخلية، ولا أن تكون رهنًا للتهويمات المضطربة عن التحول إلى الهيمنة على حساب حياة الآخرين، أو الأوهام المتعلقة بإمكانية فرض إرادتها المنفردة في شأن بالغ الأهمية والحيوية كمياه النيل.