تعددت الكتابات والدراسات المعنية بدور الجماهير والتعبئة العامة في خطط إقامة السدود والمشاريع المائية الضخمة. وهناك اتجاهات تعاملت مع مشاريع السدود الضخمة كونها مهددًا داخليًّا ذا تأثير سلبي على الطبقات المهمشة في المجتمع والموارد الطبيعية والنظام البيئي، مما أثار الحافز للمقاومة الشعبية ضد تلك المشروعات الضخمة، وخلق حالة جدل بشأن تعريف التنمية وهدفها الرئيسي. في المقابل، يظهر اتجاه آخر يرى أن الحكومات تعمل على استخدام تلك الاستراتيجية التنموية من أجل بناء وتوحيد الأمة Nation Building التي يتبعها رئيس الوزراء الحالي “آبي أحمد” ولكن بمفردات مختلفة عن سابقيه.
يُناقش هذا المقال دور التعبئة الاجتماعية والجماهير وأثرها على مشروع بناء سد النهضة في إثيوبيا، والتي جاءت داعمة لهذا المشروع، ومغازلة للحلم الإثيوبي في التنمية، على الرغم من الصراعات السياسية العميقة بين مكوّنات الدولة الإثيوبية وتكويناتها العرقية المختلفة على قضايا الأرض والموارد والسلطة، وذلك عبر بيان السياق الذي تشكّلت فيه السياسة الإثيوبية الحالية، فضلًا عن دور الجماهير، كونهم الفاعل الاجتماعي Agency الذي تستند إليه السلطة السياسية في شرعية بناء السد على الرغم من الصراع الإثني والسياسي الطارئ في مجالات أخرى.
صراعات داخلية
تمرّ إثيوبيا حاليًّا بفترة تحول سياسي واجتماعي بما له أثر غير محدد أبعاده بعد على المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية. وتعود التغييرات الجوهرية التي تشهدها إثيوبيا -إلى حدٍّ كبير- لعملية التحول السياسي التي طرأت على “ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي” وتحوله إلى “حزب الازدهار الإثيوبي”، والتي تم بموجبها تحويل “الائتلاف الحاكم” إلى “حزب سياسي” في ديسمبر 2019. إذ يمكن قراءة المشهد السياسي الداخلي الإثيوبي الحالي بناء على هذا التحول السياسي الذي ترجع مسبباته إلى أحداث عامي 2015-2016. فقد جلبت حالة الطوارئ لعام 2016 التوترات داخل الائتلاف الحاكم، وتسببت في إعادة التوازن بين وداخل أحزاب التحالف، مما أدى إلى عملية مراجعة داخلية واستقالة رئيس الوزراء “ديسالين” لاحقًا، وقدوم “آبي أحمد” من قومية الأورومو ليرأس الائتلاف الحاكم. وبعد رئاسة “آبي أحمد” للائتلاف، عمل على تراجع نفوذ جبهة تحرير التيجراي داخل الائتلاف الحاكم.
وتشهد إثيوبيا حالة انشقاق وصراع سياسي، تمثلت أبرز ملامحها فيما يلي:
1- تفكيك الجبهة الثورية الشعبية: تشير التقديرات والشواهد إلى أن عملية تحويل الائتلاف الحاكم إلى حزب سياسي واحد تسببت في تعميق التوترات السياسية واختلال التوازن بين “الهوية الإثيوبية” و”الهويات القومية والعرقية”. وقد غيرت بعض الأحزاب من أسمائها بهدف قطع الصلة التي ربطتها بالائتلاف الذي سيطرت عليه “جبهة تحرير التيجراي” مسبقًا ليصبحوا “الحزب الديمقراطي الأورومي”، و”الحزب الديمقراطي الأمهري”. ونتج عن تدشين الحزب الجديد خروج “جبهة تحرير التيجراي” من الائتلاف.
2- عدم اليقين السياسي: إذ أشارت دراسة أكاديمية إلى أن عدم اليقين السياسي تولّد بسبب الاستقطاب المتزايد بين النخب السياسية، والذي بلغ ذروته في حادث اغتيال قادة ينتمون لقومية الأمهرة وكبار القادة العسكريين، إلى جانب الاعتقال الجماعي والاتهام السياسي لمسئولين ينتمون لقومية التيجراي، وذلك في الوقت الذي قامت فيه عصابات منتمية لجبهة تحرير الأورومو بسرقة أكثر من 18 مصرفًا، ولم يتمّ تسجيل أي إجراءات قانونية ضدهم أو ضد الأحزاب السياسية والنخب في أوروميا لنشرها خطاب كراهية بين المجموعات العرقية.
3- تعاون تكتيكي بين نخب الأمهرة والأورومو: إذ تشير تحليلات عدة إلى أن التعاون الحالي بين الأمهرة والأورومو هو عمل تكتيكي وليس استراتيجيًّا؛ بهدف إسقاط وتجريد نظام الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي من سلطته. الأمر الذي يترك الساحة السياسية عرضة لصراع قادم يُعد تحديًا أمام الإصلاحات التي تسعى الحكومة الفيدرالية لعقدها.
4- حركات انفصال: تُوّجت بمطالبة إقليم “ساداما” بإجراء استفتاء شعبي للاستقلال وانفصاله عن أحزاب القوميات الجنوبية. كما شرع إقليم “ولايات” Wolayta الجنوبي أيضًا في الحصول على استقلاله، إما بأن يكون إقليمًا منفصلًا أو وحدة إدارية. وذلك في الوقت الذي تعمل فيه “جبهة تحرير التيجراي” على تماسكها، وتدعيم سلطتها في إقليمها الشمالي، بما يُشير إلى تعميق سياسات القومية على حساب السياسات الوطنية.
5- الصراعات الإثنية: إذ بلغ عدد النازحين داخل إثيوبيا بسبب النزاعات 2.2 مليون شخص، نزح أكثر من نصفهم منذ يناير 2018. كما تنازعت قوميتا التيجراي والأمهرة على أراضٍ تراها قومية التيجراي حقًّا لها باعتبارها امتدادًا عرقيًّا ولغويًّا، في حين تؤكد قومية الأمهرة أن هذه الأرض هي حق تاريخي أصيل. وهذا النزاع ستكون له تداعيات كثيرة، أبرزها أن القوميين الأمهريين قد يعملون على إثارة المشاعر ضد النخب من التيجراي خلال الحملة الانتخابية القادمة، في الوقت الذي قد تعمل فيه قومية التيجراي على الحشد والتعبئة بما يصل إلى الدعوة للانفصال. فضلًا عن أن هذا النمط من المواجهات قد يتطلب تدخلًا عسكريًّا من الحكومة الفيدرالية، مما قد يؤدي إلى فضح الثغرات العرقية، وضعف تماسك الجيش الإثيوبي. ويُعد الصراع الدموي بين الأمهرة والتيجراي هو الأكثر مرارة في ظل الصراعات القومية بإثيوبيا، والذي يغذيه تعصب النزعة القومية العرقية في كلتا المنطقتين. ولا يبدو أن أيًّا من الجانبين مستعد للتسوية. وينطبق هذا بشكل خاص على قومية التيجراي التي ترفض الشرعية الدستورية لــــ”لجنة الحدود الفيدرالية” التي أنشأتها الحكومة المركزية في ديسمبر 2018.
وقد تُرجم النزاع بشكل رئيسي إلى نزاع بالوكالة بين قومية “الأمهرة” وقومية “كيمانت” Qimant. ويزعم العديد من النخب الأمهرية أنهم مدعومون من جبهة تحرير التيجراي، في الوقت الذي عملت فيه قومية “كيمانت” على الحصول على منطقة حكم ذاتي داخل إقليم أمهرة. وقد اجتذب العنف بين أمهرة وكيمانت وتيجراي الجيش الوطني، مما دفع الأمهرة إلى اتهام بعض الوحدات بالوقوف إلى جانب المجموعتين الأخيرتين ضدهم.
استحضار الجماهير في المعادلة
في ظل حالة الصراعات التي تُهيمن على المشهد السياسي الإثيوبي، لم يلقَ مشروع سد النهضة معارضة أو صراعًا بشأنه داخل إثيوبيا، إذ صورت السلطة السياسية المشروع كونه مشروع “النهضة” و”حلم التنمية” الإثيوبي، والذي يأتي بصورة متسقة مع المزاج العام الإثيوبي. وعملت الحكومة الإثيوبية على فرض التحكم والسيطرة التامة على الجماهير، وتضييق المجال على الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني إبان الشروع في بناء سد “جاب 3” في حوض نهر “أومو”، الذي تمّ وصفه -آنذاك- بأنه أساس بناء الاقتصاد الأخضر الإثيوبي، وهو الخطاب الذي انتهجته الحكومة لاستقدام ممولين من الخارج، الأمر الذي وصفته منظمات غير حكومية بأنه مناورة سياسية باسم النمو الاقتصادي.
كما تمّ إصدار قانون في عام 2009 بشأن الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني بهدف الحد من نشاط تلك الجمعيات من العمل في قضايا السكان الأصليين وحقوقهم، ووقف مطالبها، أو الضغط على الحكومة لتحسين أوضاع قاطني حوض نهر أومو والمتضررين من إقامة السد. وقد ضمنت الإجراءات السياسية والقانونية تضييق الخناق على أي صوت معارض لإقامة السد، ولم تتمكن الجماهير من تنظيم أي حركات أو تعبئة مناهضة لبناء السد أو حتى دفع تعويضات للمتضررين. فضلًا عن أن المجتمعات المتضررة تم وصفها من قبل الحكومة بأنهم “بدائيون” وأعداء التنمية، وذلك بهدف إبعادهم عن الساحة بصورة تامة.
وتُشير أمثلة إلى دور الجماهير في مصير بناء السدود في كلٍّ من البرازيل في حالة سد Belo Monte والذي تم الانتهاء من بنائه في نوفمبر 2019، وبنما في سد Barro Blanco الذي بدأ الشروع في بنائه في عام 2011، إلى أنماط مختلفة من تأثير الجماهير. إذ إن السياق السياسي كان أكثر انفتاحًا في حالتي الدولتين اللاتينيتين على عكس إثيوبيا. وفي حين لم تتمكن التعبئة الاجتماعية من منع بناء السدود في الدولتين، لكن كان لها تأثير متفاوت. ففي بنما كانت الحركات الاجتماعية متمتعة بدرجة عالية من المؤسسية والاتصال مع شبكات منظمات المجتمع المدني الدولية بجانب تفعيل النظام القضائي. وفي البرازيل، كانت الحركة الاجتماعية المعارضة لبناء السد على درجة جيدة من المؤسسية في بعض الأحيان؛ إلا أنها عانت من الانشقاقات في مراحل لاحقة بما أثر على عملها المدني. فضلًا عن عدم التجانس داخل مجموعات السكان الأصليين، خاصة في الحالة البرازيلية، فيما يتعلق بتحديد أولويات الأهداف.
وفي كلتا الدولتين، لم تقمع الدولة عملية التعبئة الاجتماعية؛ إلا أن العامل الحاسم الذي أضعف التعبئة ومدى تأثيرها على السياسة في كلٍّ من بنما والبرازيل كان الانشقاقات داخل تلك الحركات. على الرغم من أنه في الحالة البرازيلية، كان هذا أيضًا بسبب روابط الولاء بين حزب العمال الحاكم آنذاك والعديد من الحركات الاجتماعية.
وعلى الرغم من عوامل التشابه؛ إلا أن الحركات الاجتماعية ضد السد في بنما توصلت إلى بعض التغييرات الخاصة بإعادة التفاوض حول الظروف العامة ووضع الفئات المتضررة، وفي البرازيل كان التأثير محدودًا، وتسبب في تأجيل استحقاقات بناء السد.
خلاصة
الصراعات الإثنية في إثيوبيا هي صراعات سياسية في الأساس على الموارد والسلطة، لكن يتم توظيف السد للتغطية على هذه الصراعات، ما أدى إلى تراجع أي معارضة للسد، وذلك على الرغم من حالات التهجير الناتجة عنه في إقليم بني شنقول أو التأثيرات البيئية والجيولوجية التي قد تنتج عنه.
وتمكّنت السلطة السياسية في إثيوبيا من جعل سد النهضة بمثابة المشروع الموحد للصف الإثيوبي، والاعتماد بشكل يكاد يكون حصريًّا وكليًّا على محورية هذا الدعم الجماهيري، واعتباره العامل الحاسم والمحدد لاستمرار بناء واستكمال السد حتى النهاية، وهو ما ظهر في لغة خطاب وزير الخارجية الإثيوبي وتأكيده على اتحاد الشعب الإثيوبي بصورة كبيرة حول المشروع. وهو نفس لغة الخطاب التي اعتمد عليها رئيس الوزراء الراحل “ميليس زيناوي” من خلال استخدامه مصطلح “الدولة التنموية” بعد خروجه منتصرًا من الصراع على قيادة جبهة تحرير التيجراي في الائتلاف الثوري عام 2001 بهدف تدعيم سلطته وتوحيد الجبهة واستقدام تمويلات من الخارج.
أضف إلى ذلك أن “الدولة التنموية” أو “سد النهضة” هي أيقونات تتسق مع فلسفة الدولة الإثيوبية القائمة على استيعاب الديمقراطية بالفهم الطلائعي للحركة الثورية، والمعتمد على إخفاء أي صراع داخلي من خلال تكوين “ائتلاف” يضم جميع الأضداد وحصوله على جميع مقاعد البرلمان تقريبًا، أو حاليًا الحزب الواحد الذي يحمل اسم الحلم، ويداعب الخيال الإثيوبي بالازدهار. فضلًا عن اعتبار الداخل الإثيوبي -وحتى الكتابات السياسية بصورة كبيرة- بأن سد النهضة هو قضية صراع إقليمي فحسب، وتمكن السلطة السياسية من تصوير الدولة المصرية على أنها “العدو الخارجي”؛ وما لذلك من أثر شديد على مدى تماسك واصطفاف الشعب الإثيوبي على حتمية هذا المشروع في مواجهة “العدو” المُتوَهّمْ.