مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر لها في الثالث من نوفمبر المقبل، ومع تدهور الاقتصاد الأمريكي بعد فترة من الانتعاش كان يعول عليها الرئيس “دونالد ترامب” للفوز بولاية رئاسية ثانية؛ يحاول الرئيس “ترامب” الضغط بقوة على حكام الولايات الأمريكية لإنهاء القيود التي فُرضت في إطار جهودهم لاحتواء انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد، وتحول عدد منها إلى بؤر لانتشار الفيروس، ما أدى إلى احتلال الولايات المتحدة المرتبة الأولى بين الدول الأكثر إصابة بالفيروس.
وعلى الرغم من تحذير عديد من خبراء الأوبئة ومسئولي قطاع الصحة داخل الولايات المتحدة، وحكام الولايات الأمريكية، من أن رفع التدابير المفروضة الآن بالعديد من الولايات سيؤدي إلى مزيد من انتشار العدوى بين الأمريكيين؛ أعلن “ترامب” في ١٧ أبريل الجاري أنه يخطط لإعادة فتح الاقتصاد الأمريكي الذي توقف جراء انتشار الفيروس، على أن يكون ذلك على ثلاث مراحل، وعلى أسس ومعطيات يمكن التحقق منها لتجنب موجة جديدة من انتشار الفيروس. وبعد حالةٍ من النقاش الدستوري والقانوني بسبب حديث الرئيس حول أنه الذي له الحق دستوريًّا في الأمر بإعادة فتح البلاد؛ فهو قد ترك أمر اتخاذ الإجراءات المناسبة في هذا الصدد لحكام الولايات.
ومنذ إعلان “ترامب” خطته لإعادة فتح الاقتصاد الأمريكي، نشأت حالة من الجدل وتبادل الانتقادات بين الرئيس وحكام الولايات التي تعاني بشدة من إخفاقات الإدارة الأمريكية في التعامل مع جائحة الفيروس، في وقت تتزايد فيه الاحتجاجات ببعض الولايات الرافضة لتمديد فترات العزل بالمنازل.
أسباب متعددة
الرئيس الأمريكي يضغط لإعادة فتح الاقتصاد الأمريكي مرة عدوى في أقرب وقت استنادًا إلى أن بعض الأمريكيين يطالبون بعودة العمل، وإنهاء القيود التي تفرضها الولايات، وإنهاء إجراءات العزل الصحي المفروضة لمواجهة فيروس كورونا المستجد، ولا سيما في الولايات التي تشهد انخفاضًا في عدد الإصابات. وقد قدم الرئيس الدعم لتلك المطالبات من خلال عددٍ من التغريدات على حسابه بموقع تويتر، حيث طالب الأمريكيين بـ”تحرير” عددٍ من الولايات التي يديرها حكام من الحزب الديمقراطي، مثل ولايات: ميشيجان، ومينيسوتا، وفرجينيا.
في مقابل هذه الحجج، أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث، في 16 أبريل الجاري، أن لدى غالبية الأمريكيين (66٪) حالة من القلق من إعادة فتح الولايات الأمريكية ورفع القيود على النشاط العام بسرعة كبيرة، في مقابل 32٪. كما أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجراه مركز جالوب، صدرت نتائجه في ١٦ أبريل الجاري، أن نسبة كبيرة من الأمريكيين (٥٧٪) لديها قلق بشأن فيروس كورونا المستجد أكثر من قلقها من التداعيات والمصاعب المالية الشديدة بسبب التباطؤ الاقتصادي الذي يسببه الفيروس (٤٨٪).
لقد تحدث الرئيس الأمريكي في الإحاطة الإعلامية التي أعلن فيها عن خطته لإعادة فتح الاقتصاد الأمريكي مجددًا، عن أن إغلاق البلاد لفترة طويلة من شأنه إلحاق المزيد من الأضرار بالاقتصاد الأمريكي. ويتوقع الرئيس أن عدد حالات الوفاة نتيجة الفيروس ستكون أقل مما يتوقع الخبراء ومسئولو قطاع الصحة الأمريكي. وذكر أيضًا أن منحنى الإصابات بين الأمريكيين بات مسطحًا، وأن نسبة الوفيات جراء الإصابة بفيروس كورونا قد انخفضت نتيجة للإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الإدارة الأمريكية لمواجهة الفيروس.
ولا تشير المبادئ التوجيهية التي تضمنتها المراحل الثلاث لخطط الرئيس لأي تواريخ محددة لإعادة فتح الاقتصاد الأمريكي، لكنها تضع معايير يجب أن يتم استيفاؤها قبل الانتقال من مرحلة إلى أخرى.
صِدام مع حكام الولايات
منذ بداية جائحة فيروس كورونا المستجد، تشهد العلاقات بين الرئيس وحكام الولايات الأمريكية مرحلة من التوتر المستمر، لا سيما مع كثير من الانتقادات التي يوجهونها لـ”ترامب” لتأخره في التعامل مع الجائحة. وقد كانت قضية إعادة فتح الاقتصاد الأمريكي مجددًا إحدى قضايا الخلاف بينهما، حيث قال الرئيس إنه هو الذي “يملك السلطة الكاملة” لإنهاء الإغلاق الذي تفرضه الولايات في إطار جهودها لمجابهة الجائحة، في تناقض مع وجهات نظر حكام الولايات وخبراء دستوريين.
الدستور الأمريكي ينص على أن الولايات مخولة بالحفاظ على النظام العام والسلامة. وحتى الآن فإن حكام الولايات هم من أصدروا قرارات الإغلاق العام والتزام الأمريكيين بمنازلهم. ولهذا أكد عدد من الخبراء القانونيين أن هذا النص الدستوري يمنح حكام الولايات سلطة القرار، وليس الرئيس، لرفع القيود المفروضة للحد من انتشار فيروس كورونا بولاياتهم. ولهذا فقد مدد حكام بعض الولايات الأمريكية أوامر العزل المنزلي إلى ١٥ مايو المقبل.
وعن الجدل حول من يتحمل مسئولية مواجهة جائحة (كوفيد-١٩)، أشارت “نيكي هيلي” السفيرة الأمريكية السابقة بالأمم المتحدة (٢٠١٧-٢٠١٩) والحاكم السابق لولاية جنوب كارولينا (٢٠١١-٢٠١٧) في مقال بصحيفة “نيويورك تايمز”، في ٨ أبريل الجاري، عنوانه “ركز على الحاكم وليس ترامب”؛ إلى أن حكام الولايات الأمريكية ومسئوليها المحليين هم من يتحملون المسئولية الأكبر في مواجهة الجائحة، وليس الرئيس الأمريكي ومسئولو الحكومة الفيدرالية، لجملة من الأسباب، من أبرزها تمايز الولايات عن بعضها بعضًا، وأنه ليس هناك ولايتان متشابهتان من حيث حجم الأزمة وتداعياتها، مما يصعب فرض نمط وحيد للتعامل معها. وأنه في حال الأزمة، فإن مهمة الحكومة الفيدرالية تقتصر على توفير الموارد المهمة للتعامل معها، ولكن المهمة الأساسية تقع على حكام الولايات ومسئوليها المحليين لتوزيع تلك المواد بالصورة الأمثل لإنهاء الأزمة.
وأضافت “هيلي” أن حكام الولايات ينجحون في التعامل مع الأزمات الكبرى التي تضرب الولايات الأمريكية عندما يتم منحهم قدرًا من المرونة في القيادة وقت الأزمات، ناهيك عن دراية كل حاكم باحتياجات ولايته، وسرعة اتصاله بمسئولي الولاية من المحليين.
وتتمثل أبرز ملامح الصدام بين الرئيس وحكام عدد من الولايات الأمريكية في أن قرار إعادة الاقتصاد الأمريكي واستئناف الحياة الطبيعية بشكل جزئي يرتبط بقدرة كل ولاية على إجراء الفحوصات والاختبارات، لكن بعض حكام الولايات قالوا إن القدرة على إجرائها أدنى من المستوى المطلوب لتجنب تفشي جديد للفيروس.
ويتفق عدد من الحكام الديمقراطيين والجمهوريين على أن ولاياتهم لا تزال غير قادرة على إعادة فتح اقتصاداتها مرة أخرى لنقص جزئي في قدراتها لإجراء ما يكفي من الفحوص والاختبارات. وبدون اختبارات قوية سيكون من الصعب على المسئولين والأطباء تحديد أي حالات جديدة لتفشي الفيروس في وقت مبكر، وإيقافها قبل أن تخرج عن نطاق السيطرة. كما أن نقص الاختبارات يجعل من الصعب على أي ولاية تخفيف إرشاداتها بشأن المسافة الاجتماعية ومعرفة آثارها على الصحة العامة، وهو أمر -بحسب الخبراء- حاسم لضمان السلامة وتحريك الاقتصاد الأمريكي نحو حالته الطبيعية.
ومع إطلاق “ترامب” عددًا من المبادئ التوجيهية لإعادة فتح الاقتصاد الأمريكي، أعلن مجموعة من الحكام الجمهوريين والديمقراطيين لعدد من الولايات (إلينوي، وميشيجان، وأوهايو، وويسكونسن، ومينيسوتا، وإنديانا، وكنتاكي) تشكيل تحالف لتقييم خطواتهم المستقبلية، وما إذا كان يتعين عليهم البدء في إعادة فتح الاقتصاد تدريجيًّا وفق المراحل الثلاث التي تضمنتها خطة الرئيس “ترامب”.
هذا التحالف يماثل تحالفات أخرى بين ولايات على الساحل الشرقي والغربي للولايات المتحدة لنفس الغرض. ولم تحدد تلك التحالفات أي جداول زمنية محددة لإعادة فتح الاقتصاد الأمريكي خلال مرحلة استمرار الوباء، لكنها شددت على أن التنسيق سينطوي على نهجٍ قائمٍ على الحقائق، مدفوعٍ بالبيانات وتوصيات خبراء الرعاية الصحية.
أسباب انتخابية
رغم أن الخبراء بقطاع الصحة الأمريكي، وفي مقدمتهم الدكتور “أنطوني فوتشي” (مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية)، يرون أن الولايات المتحدة ليست في وضع يسمح للحكومة الفيدرالية بفتح آمن للاقتصاد، يضغط الرئيس الأمريكي الطامح للفوز بولاية رئاسية ثانية في الانتخابات التي ستجري في الثالث من نوفمبر القادم على حكام الولايات لإعادة فتح الاقتصاد الأمريكي في أسرع وقت، للمساعدة في إنعاش الاقتصاد الأمريكي المدمر.
لقد بددت جائحة فيروس “كورونا المستجد” الكثير من المكاسب الاقتصادية التي حققها الرئيس “ترامب” خلال الأعوام الثلاثة له في البيت الأبيض، والتي كانت محور خطابه الأخير لحالة الاتحاد أمام الكونجرس الأمريكي بمجلسيه (مجلس النواب والشيوخ)، والتي كان يعول عليها بقوه لفوزه في الانتخابات الرئاسية القادمة، لا سيما بعد تخطيه عقبات عدة كانت آخرها محاولات عزله. فبعد أن حققت الإدارة الأمريكية معدل بطالة يعد الأدنى منذ خمسة عقود يصل إلى ٣,٥٪، وصل عدد الذين فقدوا وظائفهم منذ جائحة فيروس كورونا إلى ٢٢ مليون شخص، وهو رقم كبير ومُقلِق بالنسبة للرئيس الأمريكي.
وفي أعقاب توقيعه على خطة إنقاذ تاريخية بقيمة ٢.٢ تريليون دولار، يأمل الرئيس “ترامب” من وراء خطوة إعادة فتح الاقتصاد الأمريكي مجددًا أن تؤدي إلى إنعاش سريع في الاقتصاد الأمريكي قبل وصوله إلى تاريخ الانتخابات. لكن بعض الخبراء الاقتصاديين يرون أن ذلك لن يحدث قبل نوفمبر المقبل، حيث إن استعادة الاقتصاد الأمريكي لعافيته مجددًا ستستغرق وقتًا طويلًا للعودة إلى ما كان عليه قبل جائحة كورونا.
ومع قرب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأمريكية، أضحت قضية إعادة فتح الاقتصاد الأمريكي قضية انتخابية بامتياز، ومحور نقاش محتدم على المستوى الوطني، حيث يركز الجمهوريون على المخاوف الاقتصادية للمتضررين من إغلاق الاقتصاد الأمريكي جراء الجائحة (العمال، الموظفين، والشركات)، وارتفاع معدلات البطالة. بينما يحذر الديمقراطيون من أن عودة الاقتصاد والإنهاء المتسرع لسياسة التباعد الاجتماعي ستكون لها تداعيات خطيرة على الولايات المتحدة، لا سيما أنها تأتي في مقدمة دول العالم من حيث عدد المصابين بالفيروس، بجانب ارتفاع عدد حالات الوفيات بسبب الفيروس.
خلاصة القول، لأسباب انتخابية يضغط الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” على حكام الولايات لتخفيض إجراءات العزل المفروضة لمواجهة جائحة فيروس كورونا وإعادة فتح الاقتصاد الأمريكي، على أمل أن يؤدي عودة النشاط الاقتصادي والإنتاج إلى استعادة الاقتصاد عافيته قبل الانتخابات الرئاسية التي ستجري في الثالث من نوفمبر المقبل، وبما يعزز من فرص فوزه بولاية رئاسية ثانية. لكن قرار إعادة فتح الاقتصاد الأمريكي قبل توافر الاختبارات الكافية قد يأتي بنتائج عكسية إذا ارتفع عدد الإصابات بالفيروس، ما يدفع الاقتصاد الأمريكي إلى مزيد من التدهور.
ومع استمرار ارتفاع عدد الوفيات الناجمة عن جائحة فيروس كورونا المستجد، لا يتوقع معظم الأمريكيين نهاية سريعة للأزمة، ويعتقدون أن الأسوأ جراء الجائحة لم يأتِ بعد، فقد أظهرت نتائج استطلاع مركز بيو للأبحاث (السابق الإشارة إليها) أن ما يقرب من ثلاثة أرباع (73٪) البالغين الأمريكيين عند الحديث عن المشكلات التي تواجهها البلاد من تفشي الفيروس يقولون إن الأسوأ لم يأت بعد، بينما يرى 26٪ أنه قد تم تجاوز المرحلة الأصعب.