عانى المجتمع المصري في ظل نظام التعليم الفني بالعقود السابقة من وجود فجوة كبيرة بين متطلبات سوق العمل وقدر المعارف والمهارات التي يمتلكها خريج هذا النظام، ولعل من أبرز الأسباب التي أدت لذلك عدم إشراك المتخصصين في الزراعة والصناعة والتجارة والتكنولوجيا في صياغة أهداف ونواتج التعليم الفني، فظل لسنوات طويلة يعكس الجوانب النظرية دون العملية، ولم يمتلك خريجو التعليم الفني في معظم تخصصاته المهارات التي تمكنهم من مواكبة سوق العمل، مما اتبعه في الغالب صعوبة توفير الأيدي العاملة ذات المهارة والدراية بطبيعة الأعمال ومستحدثاتها على مختلف أنواعها، وبالتالي أثر ذلك سلبًا على إمكانية توطن بعض الصناعات والأنشطة الاقتصادية، واتجه خريجو هذا النظام إلى ممارسة الأعمال الحرفية البسيطة المعتادة، سواء داخل أو خارج مصر، ويعد ذلك إهدارًا للموارد البشرية المصرية.
وقد تنبهت وزارة التربية والتعليم إلى ضرورة تطوير التعليم الفني بما يلبي متطلبات سوق العمل من خلال اكتساب خريج التعليم الفني المهارات اللازمة التي تؤهله لذلك من خلال تطبيق نظام الجدارات في مختلف أنواع التعليم الفني الزراعي والصناعي والتجاري وغيره. والجدارة هي التطبيق الواضح للمهارات والمعارف والاتجاهات المطلوبة للعمل في مجال محدد أو وظيفة أو مهنة وفقًا لمعايير محددة.
ويُشير نظام الجدارات، الذي تسعى الدولة لتعميمه على جميع مدراس التعليم الفني بنهاية عام 2022، إلى تقديم المعارف والمهارات والقيم الوظيفية بطريقة أكثر اتصالًا بسوق العمل، حيث يشارك المختصون بالأنشطة الاقتصادية والخدمية في تحديد متطلبات سوق العمل التي يجب أن يمتلكها خريج التعليم الفني من خلال أخذ آرائهم في المناهج والمقررات والاستفادة من خبراتهم الواقعية في تخصصاتهم المختلفة لصياغة برامج التعليم الفني والجوانب اللوجستية لتنفيذ تلك البرامج، وكذلك الاستعانة بهم في عملية الإشراف والتقويم لمستوى تحقيق طلاب التعليم الفني للجدارات اللازمة لسوق العمل.
منظومة التعليم الفني وفق نظام الجدارات
بدأت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني في تطبيق نظام الجدارات على عدد 105 مدارس ووصل العدد إلى 400 مدرسة بنهاية عام 2021، ومن المستهدف أن يتم تطبيق هذا النظام على 1200 مدرسة بنهاية عام 2022، ومن المقرر أن يتخرج من نظام الجدارات هذا العام قرابة 23 ألف طالب وطالبة كأول دفعة دراسية من نظام الجدارات بالتعليم الفني ووفقًا لنظام الجدارات يدرس طلاب التعليم الفني خلال السنوات الثلاث مقرراتهم الدراسية في صورة مجموعة من الوحدات المنفصلة كل عام مقسمة على فصلين دراسيين، حيث يدرس الطلاب المواد الثقافية (جدارات أساسية) وتعد كل مادة وحدة بذاتها إضافة إلى مواد التخصصات (جدارات فنية) عبارة عن برامج تتضمن وحدات منفصلة محددة.
على مدار العام الدراسي، يعكف طلاب التعليم الفني على الدراسة النظرية والدراسة العملية في الورش والمشاغل والمعامل والحقول التابعة لمدارس التعليم الفني وفقًا لتخصصاتهم، ويقوم الطلاب بجمع أدلة تعلمهم خلال العام من صور وفيديوهات وأدلة مادية على أنشطة تعلمهم بما يعزز ويقوي ملف إنجازهم الدراسي وبما يؤهلهم لتحقيق الجدارات اللازمة للتخرج، ويعزز مكانتهم في الالتحاق بالجامعات.

تختلف آليات التقييم لنظام الجدارات عن النظام التقليدي، حيث يشتمل التقييم وفقًا لنظام الجدارات على ثلاثة أنواع من التقييم هي: التقييم المعرفي، والتقييم المهاري، وملف إنجاز الطلاب، تسهم بشكل أساسي في تحديد مستوى جدارة الطالب وتترجم إلى درجات للتمييز في مستوى إتقان الجدارات، ففي التقييم المعرفي يتم اختبار الطلاب فيما تم دراسته، سواء في المواد الثقافية (الجدارات الأساسية) والوحدات التخصصية (الجدارات الفنية) بشكل نظري وفقًا لنظام البوكلت، ويسمح للطالب أن يدخل دور الانعقاد الثاني إذا لم يحصل على الدرجة النهائية الصغرى لاجتياز المادة. وفي التقييم المهاري: يخضع الطالب لاختبار مهاري، حيث يطلب منه أداء مهام مهارية ضمن الوحدات التي قام بدراستها بمنهج الجدارات، ويتم ملاحظة الطالب باستخدام بطاقات ملاحظة من قبل ثلاثة مُقيمين لمستوى جدارة الطالب، ثم يتم تجميع الدرجات التي وضعها المُقيمون وحساب متوسط الدرجة التي حصل عليها الطالب.
وبالنسبة لملف الإنجاز فهو يشتمل على سجلات التقييم وأدلة التعلم للطالب (الصور، الفيديوهات، الأدلة المادية…) كما يشمل عدد المحاولات التي تم بها اجتياز الاختبارات، والتنسيق العام لملف الإنجاز. ويتم تقييم ملفات الإنجاز من خلال لجنة ثلاثية خارجية للتقييم، حيث يتم انتداب عضوين من وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني من خارج المحافظة وعضو من خبراء الصناعة وأصحاب الأعمال.
تمكين طلاب التعليم الفني واكتسابهم الجدارات اللازمة لسوق العمل هو الهدف الأساسي لنظام الجدارات؛ لذلك تم وضع نظام لضمان جدارة خريج التعليم الفني وإتاحة أكثر من فرصة للطلاب لتحقيق ذلك، حيث يكلف الطالب بتأدية تكليف معين في التقييم المهاري للجدارات في حال فشل الطالب للمرة الأولى في تأدية التكليف العملي المطلوب منه تكون له فرصة أخرى خلال أسبوع، وفي حال فشله للمرة الثانية في تأدية التكليف يخضع الطالب لحضور برنامج علاجي لمدة أسبوعين برسوم مقررة يتم دفعها إلكترونيًا، وفي حالة فشلة للمرة الثالثة يحق له دخول دور الانعقاد الثاني للجدارات التي لم يحققها، ووفقًا لمستويات تصنيف الجدارة ينقسم الطلاب إلى:
- طالب جدير (أتم دراسة الجدارات والاختبارات بنجاح).
- غير متقن للجدارة (ويحق له دخول الدور الثاني بعد البرنامج العلاجي).
- غير جدير (عند عدم اجتيازه لأكثر من وحدتين من الجدارات المقررة – أو تغيب عن الحضور لأكثر من وحدتين من الوحدات المقررة).
ويحصل طلاب التعليم الفني وفقًا لنظام الجدارات على شهادتين، الأولى هي شهادة الدبلوم في التعليم الفني، والشهادة الأخرى هي شهادة تخصصية تشتمل جميع الجدارات التي أتمها الطالب وفقًا لتخصصه الفني، وتوضح تلك الشهادة لأصحاب العمل المهارات والجدارات التي يمتلكها الخريج عند التقدم للعمل.
ولنظام الجدارات العديد من المزايا، منها: التنوع في البرامج والجدارات التي تتضمنها الوحدات في مختلف مدراس التعليم الفني، وتتسم تلك البرامج بارتباطها الشديد بواقع المجتمع المصري واحتياجاته في الأنشطة الاقتصادية الزراعية والعمليات المرتبطة بها، وكذلك الصناعة وتكنولوجيا التصنيع المختلفة والتجارة وغيرها من الأنشطة، ويتسم نظام الجدارات بفصل التدريس عن التقويم كعمليات وليس كمضمون، حيث أن لجان التقييم تكون منتدبه من الخارج في اختبار الجدارات الفنية، وبذلك يتم التحقق من امتلاك الطلاب للجدارات بشكل حيادي وبما يعكس جودة تطبيق برامج ووحدات الجدارات داخل مدارس التعليم الفني، كما أنه نظام عصري يتابع عن كثب مستحدثات الأنشطة الاقتصادية بميادين العمل لأنه يشتمل على أنشطة تدريبية خارجية وزيارات ميدانية للطلاب بالمصانع والورش والمعامل وغيرها، ويقضى هذا النظام على مفهوم التعلم التنافسي لأن نتيجة الطالب تحدد وفقًا لمستوى إنجازه الشخصي، كما أن الاختبارات تتم على مستوى المدرسة وليس على مستوى مدارس الدولة كما كان يتم في النظام القديم، ويوفر أيضا نظام الجدارات الفرصة الكاملة لخريجيه للالتحاق بالعمل من خلال شهادة جداراته المختلفة ويوفر لهم الفرصة لمواصلة التعلم والالتحاق بالجامعات.
نظام الجدارات ومتطلبات سوق العمل
لعل متطلبات المجتمع تعد هي المحرك الأول لوضع النظم التي يرتضيها المجتمع لتحقيق أهدافه، وتعد الجدارات كنظام للتعليم الفني استجابة طبيعية لحاجة المجتمع، فلقد كان المجتمع بحاجة إلى برامج التعليم الزراعي مثل برنامج (فني هندسة زراعية، فني ثروة سمكية وأحياء مائية، فني زراعة نخيل التمر وتصنيع المنتجات، فني الزراعة الصحراوية، فني استخلاص الزيوت النباتية، فني إنتاج الألبان وتصنيعها، فني تسمين حيوانات اللحوم والدجاج) وكذلك برامج التعليم الصناعي الذي يشتمل (فني ديزل ومعدات ثقيلة، فني محركات بحرية، فني تشغيل محطات مياه الشرب والصرف الصحي ومعالجتها، فني الحاسبات IT، فني اتصالات… وغيره) والتعليم التجاري (فني تسويق وتجارة إلكترونية، فني كاتب حسابات، فني تأمينات، سكرتارية، مدخل بيانات، مساعد إداري… وغيره) والتعليم الفني الفندقي ويشمل برامج (طاهي – مشرف غرف – مضيف) وغيرها من البرامج في مدارس التعليم الفني الأخرى.
وفي الأخير، وتتويجًا لنظام الجدارات الذي أقرته الدولة كنظام جديد للتعليم الفني، ينبغي أن تعمل الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني على استغلال الموارد البشرية المتميزة التي ستتخرج من هذا النظام؛ وينبغي أن تعمل الدولة بشكل جاد على تحديد الاحتياجات من الموارد البشرية والتخصصات المختلفة في كافة المجالات بشكل دقيق، وإعلان ذلك بصورة واضحة لما له من فعالية في توجه الطلاب بالتعليم الفني نحو التخصص في برامج وجدارات لها مستقبل مهني، ففي ظل النمو الاقتصادي الذي تشهده الدولة بما تقوم به من أنشطة اقتصادية في مختلف المجالات يجب الاستعانة بخريجي التعليم الفني الزراعي والصناعي في مشروعات الصوب الزراعية والمشاريع المتعلقة بها والمزارع السمكية وكذلك باقي المشروعات القومية العملاقة التي تتطلب نمطًا جديدًا من الأيدي العاملة له من الجدارات مما يحقق آمال الدولة في البناء والتعمير والتقدم. وينبغي على الدولة أيضًا ألا تترك هذا المورد البشري الجدير لأن يتخلى عما اكتسبه وحققه من جدارات ويتجه للأعمال التقليدية البسيطة، حيث يمكن للدولة أن تدعم الراغبين من خريجي الجدارات بالتعليم الفني في تنفيذ مشروعات تخصصية مشتركة مع الدولة أو صناديق دعم الاستثمار، أو توفير قروض ميسرة لتنفيذ مشروعات خاصة في ضوء الجدارات، كما ينبغي على القطاع الخاص أن يستغل طاقات خريجي نظام الجدارات بتوفير فرص عمل بظروف جيدة، والتوسع في الاستثمار في ضوء ما سيجنيه من جودة في الإنتاج والتزام بالقواعد المهنية، كما ينبغي على المجتمع المدني أن يُعلي من شأن خريجي الجدارات ويغير النظرة المجتمعية لخريجي التعليم الفني، ففي جميع الدول المتقدمة فإن أرباب الياقات الزرقاء هم عماد التنمية والتقدم والازدهار.