خلقت جائحة فيروس كورونا حالةً من عدم اليقين بين البلدان، فأصبحت مصدرًا جديدًا للتقلبات، وتهديدًا للمرونة والاستقرار الاقتصادي، وعبئًا إضافيًّا على تلك البلدان التي تعاني بالفعل من تدهور الاقتصاد الكلي. وفي حين أنه لا يزال من السابق لأوانه فهم تأثير الجائحة بشكل كامل على القيمة العالمية لسلاسل التوريد، وكيف ستؤثر على العمالة والإنتاجية والدخل؛ لكنه بات من المؤكد أن (كوفيد-19) ينتشر بمعدل متسارع، ويتسبب في اضطرابات كبيرة في سلاسل القيمة العالمية، لا سيما في الاقتصادات الكبرى. وقد استجابت هذه البلدان بإجراءات احترازية صحية واقتصادية عامة غير مسبوقة، وفرضت إغلاق الأعمال وتقديم حزم التحفيز على نطاق كان يُعتقد في السابق أنه مستحيل. وفي سياق تطور هذا الوباء، قامت أكبر 5000 شركة متعددة الجنسيات في العالم بمراجعة أرباحها لعام 2020 بشكل كبير، وأكدت أن العالم يشهد أكبر انخفاض في الإنفاق الرأسمالي للاستثمار الأجنبي المباشر منذ الركود العالمي في عام 2008، وتراجعًا كبيرًا محتملًا من عمليات الاستثمار الأجنبي المباشر. ويتوقع مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية انخفاضًا في الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي بنسبة تتراوح بين 30٪ – 40٪ حتى عام 2021، في حين أنه قبل الوباء كان من المتوقع أن ينمو الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي بنسبة 5٪ خلال الفترة (2020-2021).
تأثير كورونا على الاستثمار الأجنبي المباشر عالميًّا
التأثير الاقتصادي لـ(كوفيد-19) غير متساوٍ بين البلاد، مع الآثار الناجمة عن صدمات الطلب التي تتركز في تلك الاقتصادات الأكثر تضررًا من الوباء، والآثار الناجمة عن توقف الإنتاج وتعطل سلاسل التوريد في الاقتصادات المندمجة بشكل وثيق في سلاسل القيمة العالمية مثل الصين، واقتصادات جنوب شرق آسيا، والولايات المتحدة. سوف يكون الأثر الاستثماري أكثر تركيزًا في تلك البلدان التي اضطرت إلى اتخاذ تدابير أشد لاحتواء انتشار الفيروس (والتي تشمل: حظر التجوال، وحظر السفر، وإغلاق الحدود، وإغلاق العديد من القطاعات الاقتصادية)؛ حيث سيؤدي الفيروس إلى انخفاض النفقات الرأسمالية، وانخفاض أرباح الشركات متعددة الجنسيات. إضافة إلى ذلك، ستؤدي مواقع الإنتاج التي يتم إغلاقها أو التي تعمل بسعة أقل إلى توقف الاستثمار الجديد مؤقتًا وتأخير التوسعات. وهذا سيتسبب في آثار سلبية على جميع أنواع الاستثمار الأجنبي المباشر الثلاثة الرئيسية؛ البحث عن السوق، والبحث عن الكفاءة، والبحث عن الموارد الطبيعية. وبالمثل، أدى انتشار الفيروس في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى تثبيط الطلب في سلاسل التوريد. وكلما طالت فترة إيقاف الفيروس للنشاط الاقتصادي في البلدان الأكثر تضررًا؛ تم الشعور بالآثار المتتالية غير المباشرة في بقية أنحاء العالم، بالإضافة إلى الآثار المباشرة لمزيد من الدول التي وقعت ضحية للفيروس. وكلما طال استمرار عمليات الإغلاق العالمية وظل الطلب مكبوتًا؛ كان من الصعب إعادة الاقتصاد العالمي إلى ما كان عليه واستئناف الأنشطة الاقتصادية بعد الأزمة.
كما سيكون للانخفاض المتوقع في أرباح أكبر 5000 شركة متعددة الجنسيات على الصعيد العالمي تأثير غير مباشر على الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث إن أي انخفاض في أرباحها سيؤدي إلى انخفاض في الأرباح المحتجزة، وبالتالي انخفاض في الأرباح المعاد استثمارها، والتي تمثل 52٪ من الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي. وقد لوحظ ذلك في انسحاب المستثمرين من المشاريع الممولة في البلدان النامية للتقليل من خسائرها. كما أن المشاريع الاستثمارية الجديدة ستتأثر أيضًا بهذا الأمر.
وفي حين أن جميع الصناعات من المحتمل أن تتأثر، فإن بعضها سيتضرر بشكل خاص أكثر من البقية. على سبيل المثال، من المتوقع أن تكون صناعات الطاقة والمواد الأساسية، وشركات الطيران، وصناعة السيارات؛ هي الأكثر معاناة عالميًا، حيث من المتوقع انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 208٪ و116٪ و47٪ في هذه القطاعات على الترتيب، وفقًا لتقديرات منتدى البحوث الاقتصادية. كما أن أرباح الشركات متعددة الجنسيات الموجودة في الاقتصادات الناشئة ستكون أكثر عرضة للخطر عن تلك القائمة في البلدان المتقدمة، ما يعني أن حصة الأرباح المعاد استثمارها في الاستثمار الأجنبي المباشر للبلدان النامية ستتأثر بنسبة أكبر من البلدان المتقدمة. ووفقًا لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، فالتأثير المحتمل على البلدان النامية سيكون أكثر من الضعف مقارنة بالبلدان المتقدمة.
ومن المتوقع أيضًا تأخر إعلانات المشاريع الجديدة، كما يمكن أن تشهد عمليات الاندماج والاستحواذ تباطؤًا خلال هذا العام، فمثل الاستثمارات الأجنبية الجديدة، تعتبر عمليات الاندماج والاستحواذ بشكل عام التزامات طويلة الأجل للأسواق الخارجية. وبناء على ذلك، تُظهر بيانات شهر فبراير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية انخفاضًا كبيرًا في معدل إكمال عمليات الاستحواذ عبر الحدود إلى أقل من 10 مليارات دولار من القيم الشهرية العادية البالغة ما بين 40-50 مليار دولار.
تأثير كورونا على الاستثمار الأجنبي المباشر في العالم العربي
للدول العربية روابط مهمة مع الدول الرئيسية المتأثرة بفيروس كورونا بشكل عام، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين بشكل خاص. تطورت العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية والاقتصادات الرئيسية الثلاثة في العقود الأخيرة، لا سيما من خلال التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر. وتشير بيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية إلى أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة العربية بلغت حوالي 30.8 مليار دولار في عام 2018. واستوعب أكبر خمسة مستفيدين من الاستثمار الأجنبي المباشر الأغلبية الساحقة من إجمالي التدفقات الوافدة إلى المنطقة في عام 2018، إذ استحوذت على 92٪ من إجمالي هذه التدفقات، مقارنة بـحوالي 84٪ في عام 2017. واستحوذت الإمارات العربية المتحدة على النسبة الأكبر، بنسبة 33.7%، تليها مصر بنسبة 22.1%، ثم عمان بنسبة 13.6%، ثم المغرب بنسبة 11.8%، والمملكة العربية السعودية بنسبة 10.4%. ولذا فإن الاستثمار الأجنبي المباشر في هذه البلدان بشكل خاص وفي الوطن العربي بشكل عام يلعب دورًا مهمًّا باعتباره أحد المحركات الثلاثة للنمو الاقتصادي، بالإضافة إلى الطلب المحلي والصادرات. والواقع أن الآثار المحتملة للاقتصاد الكلي للأزمة ستزداد سوءًا إذا انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
وبناءً على التوقعات، هناك سيناريوهان؛ إما أن يتم استثمار جزء من أرباح هذه الشركات فقط أو استثمارها كلها. إذا تم استثمار جزء فقط من الأرباح بناءً على الاتجاهات السابقة، فمن المتوقع أن تنخفض تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة العربية بنسبة تتراوح بين 21٪ – 29٪ في عام 2020 مقارنة بالتوقعات السابقة. بالإضافة إلى ذلك، سيؤدي هذا الانخفاض في تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى خسائر في خلق فرص العمل بنسبة 13٪ – 16٪ مقارنة بالتوقعات السابقة قبل الجائحة. ومن المتوقع أن تكون أكثر الدول تضررًا العراق، تليها مصر والسعودية وموريتانيا وتونس. وبغض النظر عن القطاعات التي تعاني أكثر بسبب الجائحة، فإن انخفاض الاستثمار بهذا الحجم سيكون مكلفًا اقتصاديًا واجتماعيًا من خلال الآثار المباشرة وغير المباشرة. وفي الوقت الراهن، تعد الخسارة في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بين القطاعات في الوطن العربي غير متساوية، حيث من المرجح أن يتأثر قطاع الصناعة والتعدين بشدة، تليه قطاعات البناء والتعليم.