طويلة ودقيقة وصعبة؛ هكذا هي المفاوضات الجارية بشأن سد النهضة؛ وهو ما أكده تغيب إثيوبيا عن اجتماع واشنطن الذي كان مقررا له أن يشهد التوقيع على اتفاق يحدد قواعد ملء وتشغيل السد. تغيب إثيوبيا ومطالبتها بتمديد المفاوضات كان مفاجئا، ولكنه أكد مرة جديدة أن المفاوضات لا تكتمل عندما نظن أنه قد تم التوصل لاتفاق، ولكن فقط عندما يتم استكمال كافة الإجراءات البروتوكولية والقانونية اللازمة لدخول الاتفاق حيز التنفيذ، وحتى يحدث ذلك فعلينا التحلي بأقصى درجات الدقة والحذر والحكمة.
تخلف المسؤولون الإثيوبيون عن المشاركة في جولة المفاوضات الأخيرة في واشنطن بدعوى الحاجة لاستكمال مشاورات داخلية. الطرف الإثيوبي يواجه تحد كبير، فكلما اقتربت المفاوضات من نهايتها كلما تعرض لضغوط متزايدة من جانب معارضين يتهمون الحكومة الإثيوبية بالعمل منفردة دون استشارة الخبراء والمعارضة، وبإخفاء الحقائق عن الرأي العام. ضغط الرأي العام هو أصعب أنواع الضغوط التي يمكن أن يتعرض لها المفاوض؛ فعندما تنقسم الجبهة الداخلية، ويكف الرأي العام الداخلي عن تقديم الدعم المطلوب؛ تصبح مهمة المفاوض شديدة الصعوبة.
مفهوم أن تتحول مياه النيل إلى قضية رأي عام في مصر، فهي قضية حياة أو موت، وليست مجرد قضية سياسية أو تنموية عادية؛ ومع هذا فقد نجحت مصر في تحرير هذه القضية من الجدل الإعلامي والسياسي، وعقلنة النقاش العام حولها. أما في إثيوبيا فقد تم تحويل قضية سد النهضة إلى قضية رأي عام بقرار واع اتخذته النخب الإثيوبية، حيث تم تقديم سد النهضة باعتباره الفارق بين فقر المواطنين الإثيوبيين ورفاهيتهم، وأن أي تأخير في بناء وتشغيل السد يساوي إطالة أمد المعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها أغلب الإثيوبيين، وأن التحفظات التي تثيرها مصر بشأن خطط تشغيل السد ليس مصدرها المخاطر الوجودية التي تتعرض لها مصر لو نقصت حصتها من المياه، ولكن بسبب سعيها لتعطيل التقدم والتنمية في إثيوبيا، وحرصها على مواصلة الهيمنة على نهر النيل الموروثة منذ العهد الاستعماري؛ وهكذا جمعت النخبة الإثيوبية في خطابها بين قضايا التنمية والعدالة والاستعمار والاستقلال والسيادة، فحولت القضية إلى كرة نار ألهبت بها حماس المواطنين المتطلعين لمستقبل أفضل.
لقد وظفت النخب الإثيوبية هذا النوع من الدعايات لتعبئة الرأي العام خلفها، ولتحفيز المواطنين لتقديم التبرعات التي مثلت جزءا من مصادر تمويل السد؛ لكن الآن وعندما حانت لحظة الحقيقة، وبات من المستحيل على الحكومة في إثيوبيا مواصلة التقدم في خطط بناء وتشغيل السد بغير اتفاق مع مصر والسودان، فقد بات عليها تخفيف الاحتقان الذي ساهمت في صنعه في أوساط الرأي العام، وإلا تحول إلى قيد يمنعها من اتخاذ القرار السليم، وربما دفعها لاتخاذ قرارات لها تكلفة باهظة، وأظن أننا في هذا الجزء من العالم لدينا ما يكفي من الخبرات المؤسفة التي حدثت نتيجة لقرارات كارثية، اتخذها قادة مدفوعين بالرغبة في إرضاء الجماهير وتعظيم الشعبية.
لقد حولت الانقسامات السياسية في إثيوبيا قضية تنموية ذات طابع فني إلى قضية سياسية وإيديولوجية؛ وبينما يسهل التوصل لحلول تحقق قدرا كافيا من مصالح كل الشركاء في القضايا التنموية والفنية، فإن صراعات السياسة تحول الشريك إلى عدو، فتنفتح شهية الجماهير لإلحاق الهزيمة بالعدو، بدلا من تقاسم المصالح مع الشريك.
يزداد حرج الموقف الإثيوبي بسبب وجود الولايات المتحدة والبنك الدولي كوسطاء في مفاوضات سد النهضة، فوجود هذين الشاهدين جعل من الصعب تبديل الحقائق، والتهرب من الالتزامات، والتراجع عن الاتفاقات. صحيح أن البعض في إثيوبيا حاول استخدام دور الولايات المتحدة والبنك الدولي في المفاوضات للتشويش على الحقائق، مستدعيا دعايات وحجج قديمة تنتمي إلى زمن الحرب الباردة؛ إلا أن هناك حدود لفاعلية هذا النوع من الحجج، فالزمن قد تغير، وإثيوبيا أصبحت معتمدة إلى حد كبير على المساعدات والقروض والأسواق والاستثمارات الغربية، الأمر الذي يضع حدودا للقدرة على مواصلة التحريض ضد الولايات المتحدة والتصادم معها.
هناك سيناريوهات متعددة لإنهاء أزمة سد النهضة، لكن يظل التوصل لاتفاق تفاوضي هو أفضلها، ولن يكون ذلك ممكنا إلا بتعاون القيادة الإثيوبية. المشكلة هي أنه بتغيبهم عن اجتماع واشنطن، وبالتصريحات الصادرة عنهم، تسلق المسئولون الإثيوبيون شجرة عالية، ولن يكون من الممكن التوصل إلى اتفاق بغير مساعدتهم على النزول من فوق الشجرة إلى أرض الواقع، الأمر الذي يحتاج منا إلى التصرف وفقا لسياسة “أقصى ضغط – أقصى تفهم”، عبر خطوات منظمة تحقق الأهداف التالية:
عمل دبلوماسي واسع النطاق يظهر للشركاء الدوليين عدالة الموقف المصري، ويشرح لهم أهمية اتفاق واشنطن.
تفكيك الصبغة السياسية المفتعلة التي تم صبغ قضية سد النهضة بها، وإدارة القضية بطريقة تسمح لنا باستعادة طابعها الفني والتنموي.
تطوير صيغ للحل تحفظ ماء وجه الشريك الإثيوبي، ولا تحرمه من ادعاء الانتصار.
تجنب التورط في التصعيد اللفظي، ولو من قبيل رد الفعل على تصريحات صادرة عن الجانب الآخر.
إيصال رسائل صريحة خالية من الشك للشركاء الإثيوبيين بشأن التبعات المترتبة على العمل المنفرد، وفشل التوصل إلى اتفاق؛ على أن تكون هذه الرسائل واقعية ومدعومة بما يعزز مصداقيتها؛ فلا محل للغموض في هذا الشأن.
تقديم الحوافز التي يمكنها تشجيع الشريك الإثيوبي على التصرف بعقلانية، فلدى الأثيوبيون شعور بأنهم وحدهم من يقدم التنازلات؛ ومن المهم أن نجعل لإثيوبيا مصلحة في الوصول إلى اتفاق؛ وتوجد في مجالات تجارة المواد الغذائية والطاقة فرص لحوافز ذات قيمة يمكنها المساعدة على تعديل المواقف؛ وربما يفيدنا ما قد نحصل عليه من دعم الأشقاء العرب في هذا المجال.
لن تطمئن مصر حتى يتم توقيع اتفاق نهائي يراعي المصالح المصرية في مياه النيل، ومع أن الحكومة في إثيوبيا تشعر في هذه المرحلة بمستوى من الضغوط لم تعهده منذ بدء الأزمة قبل تسع سنوات، فإن الضغوط التي تواجهها الحكومة الإثيوبية لا يمكن أن تكون سببا لشعورنا بالارتياح، فمع الضغوط يزداد الموقف حرجا، ويصبح مفتوحا على كل الاحتمالات، وعلينا أن نكون جاهزين لأفضل السيناريوهات، ولأكثرها سوءا أيضا.
نقلا عن جريدة الأهرام، ٥ مارس ٢٠٢٠