في 30 سبتمبر 2022 حدث انقلاب عسكري ثانٍ في بوركينافاسو بعد أقل من تسعة أشهر من الانقلاب الأول، حيث أطاح النقيب “إبراهيم تراوري” بحكومة “بول هنري داميبا” بطريقة مماثلة من الإطاحة بالرئيس المؤقت “روش مارك كريستيان كابوري” في يناير 2022، وتم إطلاق النار في عدة مناطق رئيسية في واجادوجو مثل قاعدة بابي سي العسكرية وبالقرب من القصر الرئاسي؛ إذ أدى انعدام الأمن وتدهور النظام الصحي والوضع الاقتصادي الحرج إلى اضطرابات اجتماعية انعكست في العديد من الاحتجاجات في مدن مختلفة بجميع أنحاء البلاد. وفي الثاني من أكتوبر 2022 قدم الرئيس الانتقالي المخلوع “داميبا” استقالته بعد سبعة شروط حددها من أجل تجنب المواجهات والعواقب الإنسانية والمادية الخطيرة، حيث وافق رئيس المجلس العسكري الجديد على هذه الشروط بعد عدة أيام من المناوشات بين القوات المؤيدة للانقلاب والقوات المناهضة للانقلاب في العاصمة.
ويعتبر الانقلاب الأخير هو سادس انقلاب في أقل من عامين في منطقة غرب إفريقيا بعد فترة من الاستقرار النسبي، وتتشابه الأسباب والدوافع بين الانقلاب الثاني مع الأول، وتتداخل الدوافع بين العوامل الداخلية ونشاط الجماعات المسلحة المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش والعوامل الخارجية تمهيدًا لحدوث الانقلابات، حيث وعد قادة المجلس العسكري السابق بمحاربة الإرهاب ولكن لم يقدم أي منهما مقاربة شاملة لتحقيق هذا الهدف، وتعهد “تراوري” بالالتزام بالجدول الزمني للمرحلة الانتقالية حتى الأول من يوليو 2024 الذي حددته الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “الإيكواس”، ولم تتضح رؤيته بشأن حكم البلاد باعتباره ليس إلا رئيسًا لتصريف الأعمال.
دوافع متداخلة
اعتُبر الهجوم الإرهابي على بلدة جاسكيندي في مقاطعة سوم بشمال البلاد على قافلة تحمل 150 مركبة تنقل مساعدات إنسانية وغذائية إلى مدينة جيبو في الثامن والعشرين من سبتمبر 2022، وأسفر عن مقتل 11 جنديًا وفقدان 50 مدينًا قبل حدوث الانقلاب بيومين فقط، بمثابة حدثًا رئيسيًا واجتيازًا لنقطة اللاعودة التي أدت إلى الانقلاب بعد يومين فقط بسبب عجز المقاربة السياسية التي يتبناها الرئيس الانتقالي تجاه مكافحة الإرهاب، وتصاعد السخط داخل المؤسسة العسكرية وفي الأوساط الجماهيرية، في ظل فشل “داميبا “بجعل الأمن أولوية قصوى في البلاد؛ إذ تجددت الهجمات الإرهابية وأودت بحياة المئات بعد فترة وجيزة، وظهر “تراوري” على رأس فصيل من الضباط الصغار الساخطين، وأطاحوا بداميبا لفشله في استعادة الأراضي ودحر الإرهاب واستمرار تصاعد عدد القتلى، وضد سياساته بشأن إعادة كبار الشخصيات السابقة إلى مناصبهم في ظل النظام السابق “بليز كومباوري” عام 2014، وتنصيب قيادات المجلس العسكري في مناصب قيادية في الدولة، ويمكن توضيح أهم دوافع الانقلاب على النحو التالي:
• تصاعد الانقسامات داخل النخبة العسكرية: توجد خلافات بين الضباط ذو الرتب العليا المقيمون في العاصمة ولا علاقة لهم بجبهات القتال، والضباط ذو الرتب المتوسطة والصغيرة المرابطون على جبهات القتال ضد الجماعات الإرهابية، في ظل الشعور بالغضب من قياداتهم التي لم توفر لهم السلاح والعتاد الضرورية في معركة الإرهاب بالتزامن مع قدوم النقيب “تراوري” من جبهة القتال قبل أسابيع من حدوث الانقلاب لشرح التظلمات، ولكن رفض الرئيس الانتقالي “داميبا” مقابلته. وتحديدًا غضب جنود الوحدة العسكرية الخاصة “كوبرا”، التي شكلها “الجنرال مينونجو” عام 2019 بهدف محاربة الجماعات الإرهابية في مقدمة الضباط الذين أطاحوا بداميبا، في ظل مطالبهم بمكافآت ورواتب غير مدفوعة تُقدر بنحو 6 مليون فرنك إفريقي لكل فرد، والإفراج عن المقدم “إيمانويل زونجرانا”، وبسبب نقص الموارد عانت الوحدة من خسائر كبيرة في صفوفهم.
بالإضافة إلى الخلاف داخل الجيش بشأن القضايا الأمنية في شمال وشرق البلاد المناطق التي تضررت بشدة من التنظيمات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة، حيث تواجه البلاد حالة طوارئ في كافة القطاعات؛ الأمن، والدفاع، والصحة، والبنية التحية. يبدو أن فصائل مختلفة من الجيش منشغلة بشكل متزايد بالتنافس فيما بينها وإلقاء اللوم على الجانب الآخر وكذلك فرنسا للفشل الجيش في إيقاف تقدم الجماعات الإرهابية، وهذا صرف الانتباه ليس فقط عن أولوية استعادة سيطرة الدولة على أراضيها ولكن عن معالجة تحديات الحكم والتنمية، ويزيد الاقتتال الداخلي وصراعات القوة العسكرية داخل الجيش من عدم الاستقرار وانعدام الأمن في البلاد.
• تنامى نفوذ ونشاط الجماعات الإرهابية: ساعد تصاعد نشاط هذه الجماعات في بوركينا فاسو على تهيئة الظروف لحدوث الانقلابات المتكررة، حيث تسبق الهجمات الإرهابية الكبرى حدوث الانقلابات العسكرية، وتوسعت هذه الجماعات بسرعة في جميع أنحاء البلاد منذ عام 2016 مما تسبب في نزوح داخلي كبير، واستغلت الجماعات المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش العنف والمظالم المناهضة للحكومة لترسيخ نفسها في المجتمعات المحلية والتوسع بشكل أكبر، وفشل المجلس العسكري بقيادة “داميبا” في منع حدوث مذابح واسعة النطاق في البلاد، وتنشط جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة في أنحاء مالي وبوركينا فاسو، وتشارك في حملات لعزل المراكز السكانية وتنفيذ نسختها من الشريعة من خلال حكم الظل في المناطق الريفية. فضلاً عن نفوذ تنظيم داعش في الصحراء الكبرى في منطقة الحدود الثلاثية بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وتستفيد هذه الجماعات من المظالم المحلية المتزايدة والفراغ الأمني وتحديدًا على طول حدود بوركينا فاسو للتوسع في الدول الساحلية بخليج غينيا في غرب إفريقيا مثل توجو وبنين، كما حدث في مالي من زعزعة الاستقرار في أعقاب الانقلابات المتتالية التي أضعفت جهود مكافحة الإرهاب الإقليمية.
تداعيات خطرة
تعاني منطقة غرب إفريقيا من الاضطرابات وعدم الاستقرار السياسي مع موجات العدوى الانقلابية باعتبار هذه المنطقة حزام الانقلابات النشطة، وأصبحت الانقلابات المتكررة تحظى بتأييد شعبي مع اختلاف طبيعة الانقلاب من انقلاب النخبة العسكرية على رئيس منتخب إلى انقلاب النخبة العسكرية على نفسها، ويفاقم هذا المشهد من تهديد الإرهاب والتطرف العنيف في المنطقة، ويمكن توضيح أهم تداعيات الانقلاب كما يلي:
• البحث عن سياسة تنويع الحلفاء: من المرجح أن يسعى المجلس العسكري الجديد في بوركينا فاسو إلى إيجاد حلفاء أمنيين جدد، مما قد يكون له تأثيرات على جهود مكافحة الإرهاب مثل ما حدث في مالي؛ إذ أدت حملات التضليل الإعلامية الروسية في منطقة الساحل الإفريقي إلى تفاقم المشاعر المناهضة لفرنسا وتعزيز المشاعر المؤيدة لروسيا، وكانت هذه الاتجاهات واضحة بين مؤيدي الانقلاب في بوركينا فاسو. كما دعم مؤسس قوات فاجنر الروسية “يفغيني بريغوزين”، بشكل علني النقيب “تراوري”، ويمكن أن تقيد هذه السياسة الدعم الفرنسي والقوات الخاصة المتمركزة بالقرب من العاصمة واجادوجو والعمليات المشتركة مع قوات بوركينا فاسو.
وارتباطًا بالسابق، يهدد الانقلاب بتقويض جهود تنسيق مكافحة الإرهاب الثنائية بين النيجر وبوركينا فاسو مع توطيد العلاقات بين بوركينا فاسو وروسيا التي قد تعقد العلاقات مع النيجر، في ظل استضافتها القوات الأمريكية والفرنسية. ومع ذلك، حاول المجلس العسكري في بوركينا فاسو الحفاظ على العلاقات الإقليمية من خلال الموافقة على دعم الالتزام بالعودة إلى النظام الدستوري بحلول يوليو 2024 والاجتماع بوفد جماعة “الإيكواس”. وعلى الجانب الآخر، أصبحت مدركات النخبة العسكرية في بوركينافاسو تؤمن بضرورة تغيير التحالفات الدولية في سيناريو مشابه لما حدث في مالي. وخلال الفترة الأخيرة ظهرت حركة “بوركينا-روسيا” مكونة من مثقفين وسياسيين وحقوقيين وصحافيين مؤيدة للشراكة مع روسيا، واستقبل العديد من سكان بوركينا فاسو نبأ رحيل “داميبا” بالهتاف وإشعال النيران والتلويح بالأعلام الروسية والهجوم على السفارة الفرنسية والمركز الثقافي الفرنسي في العاصمة.
• تحديات المرحلة الانتقالية: في الخامس من أكتوبر 2022، تم الإعلان عن القانون الأساسي للحركة الوطنية للحماية والاستعادة (MPSR) الذي يمنح “تراوري” مجموعة من الصلاحيات ويحل هذا القانون محل السابق في 29 يناير 2022، على عكس القانون الأول الذي تضمن أكثر من ثلاثين مادة، يشمل القانون الجديد 13 مادة فقط ومنها؛ استمرارية إنشاء الهيئات الانتقالية، وسياسة استعادة الأراضي، ويتم تحديد رئيس ونائب أول وثانٍ للرئيس من الحركة. وبمجرد التوقيع على القانون الأساسي، يتم رفع تعليق العمل بالدستور، مع دعوة “تراوري” لعقد اجتماعات مع مختلف القوى الوطنية من السياسيين والنقابات والسلطات العرفية والدينية والجهات الفاعلة في المجتمع المدني خلال يومي 14 و15 أكتوبر 2022 بهدف اعتماد ميثاق الانتقال يليه تعيين رئيس المرحلة الانتقالية. وما قد يشهده التوافق على الرئيس الانتقالي من صعوبات ومدى الالتزام بالجدول الزمني للمرحلة الانتقالية.
• الفوضى السياسية والسيولة الأمنية: تصرف الاضطرابات السياسية الانتباه عن مكافحة الإرهاب الذي أدى أعمال عنف ومقتل الآلاف وأُجبر مليوني شخصًا و59% من النازحين أطفال على الفرار من ديارهم جاء ذلك في أعقاب اضطرابات في واجادوجو منذ أبريل 2022، ويفتح الانقلاب ثغرة أمام الجماعات الإرهابية للتوسع والسيطرة على مناطق شاسعة في البلاد؛ إذ لم يستطع المجلس العسكري السابق الوفاء بتعهداته بشأن تحرير المناطق التي يسطر عليها الجماعات الإرهابية في شمال البلاد واستعادتها من قبل الدولة، ولكن فقدوا أراضي أخري حوالي 40% من مساحة البلاد خارج سيطرة الدولة مع استغلال هذه الجماعات الفراغ السياسي والعسكري لاستهداف المدنيين.
وختامًا، يتضح أن مُعضلة الأمن والديمقراطية في منطقة الساحل الإفريقي بغرب إفريقيا مستمرة، ومن المرجح أن تؤدي تداعيات انقلاب بوركينا فاسو مثل انقلابي 2020 و2021 في مالي إلى تقليل جهود مكافحة الإرهاب وتفاقم السياقات المُحفزّة لتنامى نشاط الجماعات الإرهابية وتعود البلاد مرة أخرى إلى المربع الأول مع إهدار الوقت والطاقة والموارد المالية منذ 24 يناير2022 لتأسيس أجهزة المرحلة الانتقالية والتوفيق بين الدولة وجماعة الإيكواس والمانحين. ومع ذلك، توجد فرصة لمزيج من الحكم الرشيد ومكافحة الإرهاب لإنهاء الاضطرابات السياسية في البلاد.
باحث أول بوحدة الدراسات الأفريقية