فى الحلقة السابقة من هذه السلسلة، طرحنا السؤال الخاص بأين ذهب الإرهاب وسط تلك الموجة العاتية من العدوى والإصابات ووفيات الضحايا، جراء الموجة العاتية لفيروس «كورونا» المستجد التى يتعرض لها العالم أجمع، والأزمة الصحية الخانقة التى تقبض على جل الاهتمام العالمى. وقد كان هناك بعض من الإجابات التى تناولت أوضاعاً استثنائية مر بها تنظيم «داعش» فى أفغانستان، فيما يسمى هناك «ولاية خراسان» حيث قام بتنفيذ عمل إرهابى كبير ضد أحد المعابد، جرى على أثره الإيقاع بقائد التنظيم ومجموعة قياداته العسكرية والتنظيمية، خلال فترة وجيزة أثارت وما زالت تفتح التساؤلات حول من أوقع بهم بتلك السرعة.
اليوم نطالع بعضاً من مؤشرات ما جرى فى شهر مارس الماضى، حيث يعد هو شهر «المداهمة» لمرض (كوفيد 19) الذى يسببه الفيروس الغامض، ذلك فيما يتعلق بالتنظيمات الكبرى، وبعض من فروعها المنتشرة فى أكثر من موقع بقارات العالم المختلفة. إذا كنا لا نزال مع تنظيم «داعش»، فهناك العديد من الوقائع الهامة التى يلزم الوقوف عليها فى شهر مارس تحديداً، باعتباره يمثل شهراً استثنائياً افتراضاً بالنظر إلى ما تعرضت له دول العالم. لكن المسجل بحق التنظيم؛ أنه نفذ فى العراق وحدها خلال هذا الشهر (67 عملية إرهابية)، احتلت مدينة «ديالى» صدارة المدن التى أصابها هذا العدد، ثم «الأنبار» وبعدها «نينوى» و«بغداد» و«صلاح الدين». جاء ذلك على ذات الترتيب، و«ديالى» هنا تحل فى المرتبة الأولى للشهر الثالث على التوالى من العام 2020. وجاء اسـتخدام العبـوات الناسـفة فـى مقدمـة الأسـاليب المسـتخدمة فـى هـذه العمليـات، يليه أسلوب الهجمات المسلحة المباشرة، ثم أسلوب القنص عن بعد. وعد الجيش العراقى هو المستهدف الأول لتلك العمليات، تليه الأهداف المدنية ومن بعدها تأتى الميليشيات المسلحة غير النظامية، مثل الحشد الشعبى والحشد العشائرى.
عمليـات تنظيـم «داعش» التى اسـتهدفت الجيش العراقى، جاءت خسائرها البشرية جسيمة حيث راح ضحيتها (54 قتيلاً) من عناصر الجيش، فيما بلغ عدد المصابين من العسكريين نحو (36 جريحاً). اشتملت تلك الحصيلة على عملية نوعية لافتة، وهى وقـوع مجموعة مشتركة مـن الجيش العراقى والأجهـزة الأمنية والقــوات الأمريكية، فى كمين نفذته عناصر من التنظيم فى منطقة «الخانوكة» بسلاسل جبال حمرين فى محافظة «نينوى». هذه العملية فضلاً عن الضحايا العراقيين، أوقعت جنديين أمريكيين أيضاً، فى الوقت الذى تمكنت فيه العناصر المنفذة من الخروج من المنطقة بسلام. على جانب آخر ظهر التنظيم قادراً فى محافظات كـ«ديالى» و«صلاح الدين»، على تنفيذ عمليات نوعية من نوع آخر طائفى أوقع (12 قتيلاً) و(10 مصابين)، فى صفوف ميليشيا «الحشد الشعبى» ومثلهم تقريباً من المدنيين من الطائفة الشيعية. وكما أسلفنا فى الرصد الإجمالى؛ لم يسلم «الحشد العشائرى»، وهو من السنة من سقوط العديد من الضحايا بين صفوفه، حيث بلغت الأرقام (7 قتلى) و(5 جرحى).
بدا تنظيم «داعش» فى ذات شهر مارس، قادراً على إحداث اختراق غير متوقع، يشير إلى قدراته الاستخباراتية وإمكانيات تحركه بأمان نسبى لعناصره، فى مناطق خصومه وخلال أماكن غير متوقعة لتنفيذ اغتيالات نوعية لها رمزية هامة. الأولى تمثلت فى تنفيذ عملية «إحراق» لمنزل أحد ضباط الأمن العراقى فى شمال بغداد، وأخرى بعدد من قيادات «الحشد العشائرى» فى عمليات منفصلة، وقعت بمحافظة «بابل». وصار التنظيم يبدل من تكثيف عملياته على المحافظات، بشكل متتابع وبالتناوب بين محافظات وأخرى، مما أرهق قوات الأمن ومعاونيهم من الشعبى والعشائرى على السواء. وهو فى هذا التكتيك كان يضع تركيزه على النقاط العسكرية والأمنية محدودة العدد من الجنود والضباط، حتى يضمن نجاحه فى التنفيذ ولضمانة خروج عناصره من دون خسائر فى الأرواح. ويحقق بالمقابل غنيمة من الأسلحة والذخائر، فضلاً عن تحطيمه للروح المعنوية للقوات وأهالى المنطقة جراء تكرار تلك العمليات، ونجاحها فى الوصول بأعداد ضحاياها من القتلى والمصابين للرقم الإجمالى المذكور بعاليه.
فى أفريقيا لم يقل النشاط المكثف والمركز لتنظيم «داعش» عن العراق، فقد جاء حصاد شهر مارس ليحمل رقم (49 عملية) إرهابية تمكن التنظيم من تنفيذها فى العديد من الدول، لتأتى نيجيريا فى صدارة تلك الدول رغم محاولات الجيش النيجيرى المستمرة، من قبل بداية مارس، لاستعادة عدة مناطق تمكن التنظيم من السيطرة عليها قبلاً. أسفر هذا الانخراط المتبادل عن تكبد نيجيريا العدد الأكبر من الضحايا أيضاً، حيث وقع نحو (174 قتيلاً) و(120 مصاباً) على الأقل بينما هناك أعداد بالعشرات فى الأسر، جراء مجموعة من الهجمات النوعية التى نفذها التنظيم على نقاط عسكرية منعزلة، ومناطق مدنيين تتسم بقدر من الهشاشة الأمنية ساهمت كثيراً فى نجاح التنظيم. وفى هذه المنطقة على وجه الخصوص لا يقتصر التصعيد على شهر مارس وحده، بل هو يأتى ضمن استراتيجية يعمل عليها التنظيم ربما منذ أواخر العام الماضى، تتمثل فى محاولته لترسيخ وجوده وسيطرته على الجهة المقابلة لـ«بحيرة تشاد» فى القسم التشادى منها، وتأمين الدوائر المحيطة بتلك المنطقة فى نيجيريا وغيرها من دول الجوار، التى كثف فيها من استقطابه لمجموعات وخلايا تابعة لـ«القاعدة» مثل الموجودة بالأخص فى كل من مالى والنيجر.
يظل استهداف تنظيم «داعش» الأبرز فى دول الساحل والصحراء بأفريقيا، منصباً بصورة كبيرة على القوات العسكرية لتلك البلدان، طمعاً فى الاستحواذ على الأسلحة والذخائر بل وأيضاً الآليات العسكرية، حيث ظهرت تلك الأخيرة فى الهجمات التى نفذها التنظيم فى نيجيريا، ومكنت عناصره من إيقاع هذا القدر من الضحايا فى صفوف الجيش النيجيرى. قبلها كان التنظيم قد قام بعمليات إغارة متتالية على (5 ثكنات عسكرية) فى موزمبيق، تمكن خلالها من إحداث نقلة نوعية فى قدراته التسليحية ومن ثم مساحات تمدده، التى يسير فيها وفق خطة إزاحة الوجود التاريخى لـ«القاعدة»، وترسيخ وجوده كبديل فى «حزام النار» الأفريقى بالكامل.
نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ٢٥ أبريل ٢٠٢٠
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية