مبكراً بدا الارتباط كبيراً وممتداً بين الساحة السورية والليبية، بصورة تابعتها أطراف دولية وإقليمية عديدة، ووقف الليبيون بأنفسهم أمام الكثير من تفاصيل نشأة هذا الارتباط، وقت أن استُغلت حالة السيولة التى أعقبت سقوط نظام الرئيس القذافى 2011 فى استخدام العديد من الأماكن والبلدات الليبية كأماكن للتجميع وتأهيل العناصر التى نُقلت تباعاً إلى الساحة السورية لتشكل القوام الرئيسى للتنظيمات المسلحة، وكان أشهرها فى السنوات الأولى «جبهة النصرة» التى تطورت لاحقاً لتصبح عدداً، لم يستطع المراقبون ولا أبناء الداخل السورى إحصاء عدد الفصائل التى انضوت تحت راياتها المتعددة، ساهمت جميعها لعقد كامل فى صناعة المأساة السورية المعقدة حتى اللحظة.
عشرات الشواهد والدلائل حينها أكدت أن تركيا كانت وراء هذا الترتيب المبكر فى عامى 2011 و1012، لعل أبرزها أن هذه العناصر التى تجمعت على الأراضى الليبية، وتلقى البعض منها التدريب على استخدام الأسلحة ودورات التحويل إلى عناصر مقاتلة محترفة، داخل معسكرات سابقة للجيش الليبى بعد تفككه جرّاء انهيار النظام، قد جرى نقلها بمعرفة عناصر ليبية موالية لتركيا وآخرين، لكن الأكثر ارتباطاً أن تلك المجموعات عدد بالآلاف لم يكن أمامها طريق لدخول سوريا إلا عبر الأراضى التركية المتاخمة. تلك المعلومات والوقائع ليست بالجديدة، فحينها كان الأمر يجرى على عجل وبصورة أشبه بالعلنية، حيث ذهبت الظنون إلى أن النظام السورى جرّاء هذا القصف الإرهابى المتدفق، على شفا الانهيار السريع كمثله من الأنظمة التى جرى استهدفها بطرق مماثلة، ومنها ليبيا ذاتها. ما ظل معلوماً للكافة ومنها شهادات وثقت للأهالى على جانبى الشريط الحدودى، أن دفع ونقل تلك العناصر كان يجرى بمعرفة ضباط «حرس الحدود» التابعين للجيش التركى، وبإشراف ووجود لعناصر الاستخبارات العسكرية التركية، التى كانت تعطى تعليمات المرور من المنافذ الحدودية، وتنسق للأمر مع قادة الميليشيات الذين كانوا يتسلمون هذا الوارد «البشرى» تباعاً لنقلهم إلى جبهات القتال المختلفة داخل الأراضى السورية.
كما ظلت الاستخبارات التركية هى المتحكم والموزع لهذه الأعداد بالآلاف على خريطة التنظيمات بالداخل السورى، حيث تحدد هى النوعيات والجنسيات التى تنضم لكل فصيل، وفق اعتبارات التشغيل التركية وحفاظاً على الأوزان النسبية للتنظيمات، بدأت منذ شهور الرحلة العكسية لذات العناصر وبنفس السيناريو مع اختلافات طفيفة، لعل أبرزها أن المكون التركى داخل سوريا صار يقوم بالأمر، بعد أن أصبح ما يشبه قوة احتلال وإدارة لبعض المناطق، فبعد أن جرت مياه كثيرة فى نهر الأحداث السورية، خرج ما كان يجرى فى جزء من الخفاء إلى العلن على موائد «آستانا» و«سوتشى»، بعد أن جلست تركيا على طاولة التوافق والمساومات باعتبارها تمثل مصالح من سمتهم «المعارضة المسلحة»، كى تنتزع لهم بعد سنوات الخدمة فى ملف مصالحها ومخططاتها، صيغة للوجود الآمن الذى يضمن لهم العيش، ولها القدرة على استثمارهم لاحقاً.
لم يسر الأمر وفق ما ظنت أنقرة أنها قادرة على إنجازه، فالوجود الروسى الذى جاء لاحقاً إلى سوريا أربك حسابات كثيرة، وضيّق الكثير من مساحات الحركة أمام المشروع التركى، بل ومساحات استيعاب العناصر المسلحة التى وضعتها الهزائم المتوالية التى تكبدتها فى أشرطة خانقة للمناطق التى تحتلها وتديرها تركيا حتى الآن، بعد عملياتها العسكرية الثلاث «غصن الزيتون» و«درع الفرات» و«نبع السلام»، التى نفذتها على الأراضى السورية لتثبت بها أوضاع وارتكازات لنقاط عسكرية وأمنية، تمكّنها من تثبيت هذا الانحسار بعد أن فقدت محافظات رئيسية مثل «حلب»، ظلت هى المستقر لهذه التنظيمات والملاذ لسنوات خلت. ما جرى من أزمة كبيرة فى «إدلب» خلال النصف الأخير من عام 2019، ما بين تركيا وروسيا حول إمكانية خروج أو تأمين العناصر المسلحة، كان ملخصه أن تركيا وجدت نفسها أمام أزمة حقيقية على الأرض، سمتها فى أروقة الاستخبارات بأنقرة «معضلة إدلب» والتى كان عليها أن تبحث عن حلول لها، قبل أن تفجر كافة التفاهمات التى نجحت إلى حد ما فى التوصل لها مع الجانب الروسى.
فى إطار سعى تركيا من أجل تثبيت أوضاع «المنطقة الآمنة» بالشمال السورى، باعتبار تلك المنطقة الممتدة من مدينة «جرابلس» وصولاً إلى «إعزاز» تضم بداخلها المدن الأهم لها، مثل «الباب» و«منبج» وغيرها من بلدات الأكراد الرئيسية، مثَّل ذلك جانباً من «المعضلة»، فالإدارة المستقرة لتلك المناطق لا يلزمها هذا الوجود الكثيف لعناصر «هيئة تحرير الشام»، بل على العكس مثَّل وجودهم عامل ضغط وإرباك للوجود التركى، فى ظل مناكفات ومناوشات، ومثَّل فعليا عامل قلق للنقاط التركية الحاكمة. هذا المشهد عُد تطوراً منطقياً للفائض العددى من العناصر المسلحة، حيث ظل يمثل جانباً رئيسياً آخر من «المعضلة»، فالإدارة التركية لهذه المنطقة تفضل عن هذا المكون غيره من العناصر المستأنسة التى نجحت مؤخراً فى تشكيلها داخل معسكرات تأهيل «غازى عنتاب» التركية، واصطحبت البعض منهم فى سياق عملياتها العسكرية بالداخل السورى، وصاروا يُعرفون بـ«الجبهة الوطنية لتحرير سوريا». هؤلاء تشكل قوامهم الرئيسى من النازحين السوريين الذين يقيمون بداخل تركيا، فهم من ناحية يخففون ضغط الوجود فى معسكرات اللاجئين، وبجانب آخر يمثلون قدراً من التوازن مع التنظيمات الأخرى التى انضوت تحت لواء «هيئة تحرير الشام».
بنفس تلك النظرية تعمل تركيا جاهدة على تفكيك «معضلة» إدلب عبر التوسع فى عملية نقل العناصر المسلحة إلى ليبيا، من أجل التخلص من «الفائض العددى» الذى صار يمثل عامل تهديد حقيقياً لكافة مكونات مشروعها بالشمال السورى. وقد توصلت أنقرة إلى يقين بأن المحرقة الليبية التى تقدر لها سنوات قادمة من الاقتتال قادرة على التخلص من هذا الفائض البشرى المسلح، وهى تستهدف بصورة مباشرة ضمان استمرار الاقتتال الداخلى فى ليبيا لأطول فترة ممكنة، حيث تراهن أن ذلك يمكِّنها من الإمساك بالملفين معاً دون أن تختل المعادلات المتوهمة لديها.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ٢٦ ماريو ٢٠٢٠.