طبّق البنك المركزي المصري منذ بداية عام 2023 آلية مرنة في تسعير سعر صرف العملة المصرية، وتطرح تلك الآلية ضبابية شديدة في تحديد سعر الصرف وهو ما يؤثر بشكل كبير على العمليات التجارية في مصر، ويدفع الشركات إلى إضافة هوامش ربح مرتفعة للغاية على منتجاتها للتحوط من تغير سعر الصرف، إذ عادةً ما يتم تسعير المنتجات من خلال إضافة هامش سعر على تكاليف الحصول على المنتج بهدف تغطية تكاليف عملية الإنتاج والحصول على هامش ربح، وحيث إن جزءًا من التكاليف هو مكون دولاري فإن الشركات العاملة في مصر تواجه خطرًا دائمًا نتيجة لتغير سعر الصرف، وهو ما يضع احتمال تسعير الشركة لمنتجاتها وفقًا للأسعار الحالية وتكبد خسائر في حال تغير سعر صرف الجنيه المصري بالانخفاض، أو محاولة التحوط وحماية رؤوس أموالها من خلال إضافة هوامش ربح كبيرة للغاية لتغطي أثر أي احتمال لانخفاض سعر العملة.
فعلى سبيل المثال، في حال تقدم شركة بمناقصة لتنفيذ مجموعة من الأعمال التي تحتوي على مكون دولاري بسعر معين، فإنه وفقًا لوضع سعر الصرف المرن يمكن أن تتكبد الشركة خسائر كبيرة في حال تم تسعير بعض مستلزمات المشروع التي يتم استيرادها من الخارج، وتقديم سعر نهائي للمشروع وترسية العطاء عليها، وحدث تغير في سعر صرف الدولار الأمريكي بشكل يفوق توقعات الشركة، وهو ما يترتب عليه ضياع كل أرباح الشركة، بل وتحقيقها خسائر على المشروع المتعاقد عليه، وعادة ما تكون هناك غرامات مالية تجاه عدم الالتزام بتنفيذ المشروع في الوقت المحدد، وهو ما يترتب عليه عدم قدرة الشركة على إلغاء تعهدها بالتنفيذ، هذا فضلًا عن أنه في حال إلغاء الشركة لتعهدها بتنفيذ المشروع تخسر الشركة سمعتها بالسوق، بالإضافة إلى عدد من المشاكل القانونية التي يمكن أن تتعرض لها، وينطبق ذلك الأمر على الشركات المصرية التي تبيع منتجاتها بالسوق المصري وتحصل على بعض أو كل مستلزمات الإنتاج من الخارج، إذ إن تلك التكاليف أصبحت متغيرة في ظل سعر الصرف المرن في ظل وجود إيرادات ثابته وفقًا لعملية التسعير التي تبيع بها، وهو ما تطلب طرح البنك المركزي آلية جديدة تساعد الشركات العاملة بالسوق المصري على التحوط من تلك المخاطر يمكن تسميتها بعقود الصرف الآجلة، فما هي تلك العقود!
عقود سعر الصرف الآجلة
في الربع الأخير من عام 2022، ومع التحريك الثاني لسعر صرف الجنيه المصري، أعلن البنك المركزي المصري عن تفعيل آلية تعاقدات سعر الصرف الآجل. وللتبسيط فإن تلك الآلية تمثل عقدًا يتم إبرامه بين المستورد أو الشركة وبين البنك الذي يصدر ذلك العقد، ويتم تحديد سعر صرف العملة في الوقت الحالي، وإبرام التعاقد في الوقت الحالي، مع تنفيذ العقد بعد فترة زمنية يتم الاتفاق عليها بالعقد وليكن على سبيل المثال 4 أشهر. فعلى سبيل المثال، إذا اتفقت شركة على تنفيذ مشروع ما يحتاج إلى استيراد منتجات بحوالي 10 ملايين دولار أمريكي، وسيتم استيراد تلك السلع بعد أربعة أشهر، فبدلًا من الانتظار لمدة أربعة أشهر لحين وقت الدفع وطلب تدبير الدولار الأمريكي من البنك وفقًا لسعر السوق، فيمكن لتلك الشركات الآن إبرام عقد سعر صرف آجل مع البنك والاتفاق على سعر صرف للدولار مقابل الجنيه بعد أربعة أشهر نظير دفع رسوم مالية يتم الاتفاق عليها مع البنك المصدر للعقد، وهو ما يوفر تحوطًا للشركة تجاه مخاطر تقلب سعر الصرف، ويمكنها من وضع تسعير مناسب على منتجاتها دون مغالاة.
تدخل العديد من العوامل الرئيسية في عملية تسعير سعر الصرف الآجل، ولكن يمكن الإشارة إلى ثلاثة عوامل منها، وهي: سعر الصرف الحالي، سعر الفائدة الحالي بالسوق، وسعر الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية (في حال أن عملة التعامل هي الدولار الأمريكي)، ويتم احتساب سعر الصرف الآجل وفقًا لمعادلة دون الدخول في تفاصيلها، ولكن في حال كان سعر الفائدة (التضخم) على الجنيه المصري (بمصر) أعلى من نظيره في أمريكا فيكون من المحتمل أن ينخفض سعر صرف الجنيه المصري خلال تلك الفترة، وعليه ففي حال كان سعر صرف الدولار في الوقت الحالي 30 جنيهًا للدولار، فيمكن للشركة الاتفاق على شراء احتياجاتها بالدولار من البنك بسعر 31 جنيهًا للدولار بعد 4 أشهر، وتختلف شروط التعاقد وفقًا لرؤية الطرفين البائع والمشتري للدولار والتي تعتمد بشكل أساسي على تنبؤات وتقديرات، وبذلك يكون المشتري قد ثبت من تكاليف الإنتاج وأصبحت لديه رؤية حول إمكانية تسعير منتجه أو تقديم عرض سعري بمناقصة دون أن يتكبد مخاطر التقلب في سعر الصرف، لكن في حال أنه تم الاتفاق على سعر صرف عند 31 بعد 4 أشهر وانخفضت قيمة الجنيه إلى 35 جم للدولار، فمن يتحمل فارق السعر؟
كما سبقت الإشارة فإن المستورد سيحصل على الدولار الأمريكي بالسعر الذي تم الاتفاق عليه بصرف النظر عن سعر العملة بالسوق، ومن ثم فإن الفارق في السعر 4 جنيهات (الفرق بين 35 جم السعر السوقي للدولار بعد 4 أشهر وبين 31 جم للدولار سعر التعاقد) يتحمله طرف آخر وهو بالطبع ليس البنك، حيث إن البنك ما هو إلا وسيط لذلك التعاقد. هنا تجدر الإشارة إلى أن هناك مُصدرًا حصل على عوائده بالدولار الأمريكي ورغب في تحويلها إلى جنيه مصري لكن للتحوط من سعر الصرف يرغب في الاتفاق مع البنك في الوقت الحالي على أن يتم تنفيذ التعاقد بعد مضي 4 أشهر، وهنا يكون الطرف البائع هو المُصدر والذي لديه توقعات بأن قيمة الجنيه المصري بعد أربعة أشهر ستصبح 27 جم للدولار، ويرغب في تأمين عوائد تصديره التي سيتحصل عليها بعد مضي أربعة أشهر من خلال إبرام تعاقد لبيع الدولار بعد أربعة أشهر بسعر 31 جم للدولار، وهنا يلعب البنك دور الوسيط بين المُصدر الذي يعتقد أن قيمة العملة ستنخفض، وبين المستورد الذي يريد تأمين تكاليفه والتحوط من مخاطر التقلب في سعر صرف العملة، وبذلك يكون البنك قد وفر لكلا الطرفين تأمينًا ضد مخاطر التذبذب في سعر العملة واستطاع كلا الطرفين تحقيق العوائد المطلوبة على استثماراتهما. لكن كيف يمكن أن يكون لذلك أثر على استقرار أسعار السلع بمصر؟
استقرار الأسعار
كما سبقت الإشارة فإن هدف كلا الطرفين (البائع للدولار والمشتري للدولار) هو التحوط من مخاطر التقلب في سعر الصرف، ويمثل هدف هؤلاء الأطراف تحقيق العائد المطلوب على الاستثمار وليس تحقيق أعلى عائد ممكن، من ثم فإن ضمان تثبيت سعر صرف العملة من خلال التعاقد يتيح للمستورد أو المنتج المحلي تحديد تكاليفه بشكل دقيق وتسعير منتجه بإضافة هوامش ربح منطقية تغطي التكاليف وتغطي هامش الربح المطلوب، وهو ما سيكون له أثر مباشر على عودة استقرار الأسعار بالسوق مرة أخرى من خلال تجنب إضافة هوامش ربح كبيرة وغير منطقية على سعر بيع المنتجات للتحوط من تقلب سعر الصرف، من جانب آخر فإن تلك الآلية تؤمن للمُصدر تحقيق هامش الربح المطلوب على صادراته، وعدم ضياع تلك الأرباح الناتجة عن عوائد التصدير في تقلب سعر صرف العملة، ومن الجدير بالذكر أن ذلك المُصدر يمكن أن يكون مستوردًا لبعض مستلزمات الإنتاج أيضًا، وعليه فقد حيد ذلك المُصدر أثر التقلب في سعر الصرف على العملية الإنتاجية تمامًا، وضمن تحقيق معدل العائد المطلوب على استثماره، وبذلك فإنه بتطبيق تلك الآلية يربح جميع الأطراف (المُصدر، والمستورد، والدولة، والمواطنون).