يُشكّل قرار المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية “أفيخاي ماندلبليت” بإحالة “نتنياهو” للمحاكمة بتهم الفساد والرشوة واستغلال النفوذ في أربع قضايا مختلفة، أعمق أزمة تواجهها الدولة العبرية على مدى تاريخها، كونها أزمة متعددة المستويات تنال من صورة الدولة في الداخل والخارج، وتلقي بظلال قاتمة على الوضع السياسي المتفجر نتيجة العجز عن تشكيل حكومة جديدة بعد عمليتين انتخابيتين في أقل من ستة أشهر. كما تطرح تساؤلات عن مستقبل حزب الليكود وجبهة أحزاب اليمين بعد “نتنياهو” (في حال إدانته). ويبدو السؤال الأكثر أهمية: كيف ستمر إسرائيل من هذه الأزمات في بيئة إقليمية ودولية غير مواتية، سواء لجهة مراقبة التحركات الإيرانية والتركية في سوريا، أو لجهة المخاطر المستمرة جراء الوضع الأمني على الحدود مع قطاع غزة، وأيضًا لجهة التهديد الذي تتعرّض له العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية في ظلّ ما يتعرض له الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” -أحد أكثر الرؤساء الأمريكيين عبر التاريخ دعمًا لإسرائيل- من محاولات لعزله ومحاكمته؟
“نتنياهو” علّق على قرار محاكمته بأنه “انقلاب سياسي” تقوده الجهات القضائية في إسرائيل لصالح خصومه! في دولة تحاول الترويج لنفسها على أنها واحة للديمقراطية ودولة القانون في منطقة تعج بنظم استبدادية.
ويبدو تصريح “نتنياهو” الذي يهاجم القضاء في بلاده مفارقًا للصورة المرغوب في ترويجها، ولكنّ عمر هذه المفارقة أقدم كثيرًا من تصريح “نتنياهو” المهين للسلطة القضائية الإسرائيلية؛ فالمعهد الإسرائيلي للديمقراطية يبين منذ نحو عشر سنوات حالة التدهور المستمر في احترام الجمهور الإسرائيلي للنظام السياسي القائم على الديمقراطية. وخلال هذه السنوات كان أكثر من نصف الجمهور يعبر عن رغبته في أن يرى زعيمًا قويًّا يقود البلاد أكثر من رغبته في تحسين أداء الكنيست والحكومة أو تعزيز الديمقراطية. كما أفرد موقع the times of Israel في أبريل عام 2016 نقاشًا موسّعًا تحت عنوان له دلالته: “هل هذه بداية نهاية الديمقراطية الإسرائيلية؟”. ودار النقاش حول مستقبل الديمقراطية الإسرائيلية في ظل تمرير الكنيست قرارات تتسم بالتمييز والتعصب ضد المواطنين العرب-الإسرائيليين، وفي ظل انتشار الفساد والمحسوبية في الحكومة وأجهزة الدولة، وغياب منطق الشفافية والمسائلة القانونية.
إن إحالة “نتنياهو” للمحاكمة -وإن بدت في ظاهرها أنها تدعم الديمقراطية ومبدأ أنه لا أحد فوق القانون- إلا أن هجوم “نتنياهو” السافر على القضاء، واستعداد مؤيديه للتظاهر ضد المستشار القضائي للحكومة احتجاجًا على إحالته للمحاكمة، يبين مدى ما تتعرض له صورة إسرائيل في الداخل والخارج من تهديد مستقبلي كدولة تدعي أنها ديمقراطية.
ويزيد الوضع سوءًا أن قرار إحالة “نتنياهو” للمحاكمة، فاقم من الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد منذ شهر أبريل الماضي، فقد فشل “نتنياهو” في تشكيل ائتلاف حاكم بعد الانتخابات التي أُجريت في ذلك الشهر لتذهب إسرائيل إلى انتخابات ثانية بعدها بستة أشهر، انتهت بدورها إلى نتيجة لم تمكن الليكود أو منافسه حزب “كاحول لافان” من تشكيل حكومة جديدة. وفي حين منح رئيس الدولة “رؤفين ريبيلين” الفرصة حتى 11 ديسمبر المقبل لأي عضو كنيست لإجراء محاولة لتشكيل ائتلاف يحظى بتأييد من الكنيست، فإن “نتنياهو” الذي رفض تقديم استقالته كرئيس حكومة انتقالي، يسعى بكل قوته لإفشال أي محاولة لتشكيل مثل هذه الحكومة، ويأمل في انتهاء المهلة والدعوة إلى انتخابات جديدة لن يتم إجراؤها إلا في بداية العام القادم أو في شهر مارس، وبذلك يمكنه البقاء في منصبه لفترة أطول، مما يتيح له ممارسة ضغوطه لإفساد محاكمته المنتظرة. وحسب القانون الإسرائيلي ينبغي أولًا إجراء اقتراع في الكنيست لرفع الحصانة عن “نتنياهو” لكي يمثل أمام المحكمة، وثانيًا يجب أن تفحص المحكمة العليا في حالة حل الكنيست قبل التصويت على رفع الحصانة عن “نتنياهو” مدى قانونية محاكمة رئيس وزراء في السلطة، حيث لا يوجد نص قانوني صريح يبيح مثل هذا الإجراء إلا للوزراء فقط. وقد يعمد “نتنياهو” إلى التخلي عن بعض الحقائب الوزارية التي يشغلها إلى جانب رئاسته للحكومة تحسبًا لاحتمال لجوء المستشار القضائي تحديد موعد لمحاكمته بصفته وزيرًا في الحكومة بغض النظر عن كونه رئيسها في الوقت نفسه.
وبعيدًا عن أزمة رفع الحصانة ومدى قانونية محاكمة رئيس حكومة وهو يشغل منصبه، يظهر خطر آخر على مستقبل الحياة السياسية في إسرائيل. فمع تدهور مكانة أحزاب اليسار (العمل، وميريتس)، وهشاشة التحالف المنافس “كاحول لافان” وافتقار زعيمه “بيني جانتس” للخبرات السياسية، كان حزب الليكود وجبهة أحزاب اليمين هي القوة الأساسية التي تعطي للنظام السياسي الإسرائيلي القوة والتماسك. ولا يجادل الكثيرون في أن “نتنياهو” كان خلال أكثر من خمسة عشر عامًا “رمانة الميزان” في الحفاظ على الليكود بعد أن غادره “أريئيل شارون” عام 2005، كما ظل الزعيم القادر على قيادة جبهة أحزاب اليمين على مدى عشر سنوات كاملة. وهناك مخاوف من أن يؤدي اختفاؤه من الحياة السياسية -حال محاكمته وإدانته- إلى تعميق أزمة النظام السياسي في إسرائيل. فحتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي قام هذا النظام على توازن مستقر بين كتلة اليمين بقيادة الليكود وكتلة اليسار بقيادة حزب العمل. وكانت الكتلتان تتقاسمان أغلب مقاعد الكنيست، لكن مع حلول التسعينيات خسر الليكود والعمل معًا جزءًا كبيرًا من قوتهما، وظلا يحصلان معًا على عدد أقل من نصف مقاعد الكنيست، وهو ما فتح الطريق أمام تحكم الأحزاب الصغيرة في تشكيل الائتلافات الحاكمة منذ ذلك الوقت. وحتى مع تزايد تدهور أحزاب اليسار، كانت جبهة اليمين التي يقودها “نتنياهو” بنجاح قادرة على إعادة التوازن للنظام السياسي الإسرائيلي بالتمحور حول قطب يميني قوي قادر دومًا على تشكيل الائتلافات الحاكمة في مقابل أحزاب صغيرة لا تجمعها جبهة قوية من أحزاب اليسار والأحزاب العربية وبعض أحزاب الوسط.
اختفاء “نتنياهو” من الحياة السياسية إذا حدث سيؤدي إلى نظام سياسي بلا أحزاب كبيرة ولا جبهات واسعة، ولا يُعرف بدقة كيف ستواجه إسرائيل هذه المشكلة، خاصة أن بوادر الخلافات في الليكود وجبهة أحزاب اليمين قد اندلعت مبكرًا مع قرار إحالة “نتنياهو” للمحاكمة. ففي الليكود يقود المنافس الرئيسي لنتنياهو “جدعون ساعر” محاولات حثيثة لعزل “نتنياهو”، والدعوة إلى تنصيب زعيم جديد لليكود يتولى التفاوض مع الأحزاب الممثلة في الكنيست لتشكيل حكومة تقي البلاد شر الذهاب إلى انتخابات ثالثة في أقل من عام. غير أن أنصار “نتنياهو” داخل الحزب يقفون بشدة في مواجهة هذه المحاولات. أيضًا لا يبدو أي حزب من أحزاب جبهة اليمين (حزب يمينا، حزبي شاس ويهودة هتوراه) مستعدًّا للتخلي عن “نتنياهو” في هذه المرحلة خوفًا من احتمال عدم إدانته في المحكمة وعودته أقوى مما كان سابقًا. كما أن “ساعر” الذي يسعى لخلافة “نتنياهو” قد يميل إلى استبعاد الأحزاب اليمينية، وإعادة التواصل مع حزب إسرائيل بيتينو بزعامة “أفيغدور ليبرمان” لتشكيل حكومة تضمه إلى جوار الليكود و”كاحول لافان”.
يدرك “نتنياهو” مخاوف أنصاره في الليكود من تفكك الحزب من بعده، كما يدرك مخاوف مماثلة من جانب جبهة اليمين، ويلعب على قلق الناخب الإسرائيلي من ترك قيادة البلاد في أيدي أحزاب بلا خبرات سياسية قوية مثل “كاحول لافان” في وقت تحتاج فيه إسرائيل لزعيم قوي له خبرته لقيادتها في مواجهة مخاطر أمنية على أكثر من جبهة. وفي مواجهة حالة عدم اليقين حول مصير “ترامب” ومصير العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية حال بقاء “ترامب” وإصراره على المضي في تقديم خطته المعروفة بصفقة القرن التي تشعر إسرائيل بالقلق حيال تداعياتها (إنشاء دولة فلسطينية، والعلاقات مع واشنطن)، أو في حالة عزله ومواجهة رئيس أمريكي جديد قد لا يحمل نفس القدر من الود والصداقة التي عبر عنها “ترامب” لإسرائيل حتى الآن.
بمعنى آخر سيقاتل “نتنياهو” حتى الرمق الأخير، ويأمل أن تمضي مهلة 11 ديسمبر لتشكيل حكومة جديدة دون أن ينجح الكنيست في تدشينها، كما يأمل في أن تتزايد الضغوط على المستشار القضائي للحكومة والمحكمة العليا للسماح له بالبقاء في منصبه، بل وربما خوض الانتخابات المقبلة، لتبقى إسرائيل في دوامة المنازعات القضائية حول مصير “نتنياهو” لفترة أطول تزيد من عمق أزمة البلاد سياسيًّا. لكن يبقى احتمال ضئيل لأن ينقلب الليكود على “نتنياهو” ويطيح به بشكل مفاجئ، وأن يتمكن خصمه “ساعر” من إقناع الليكود لكاحول لافان وإسرائيل بيتينو بالمشاركة في حكومة يقودها هو وزعيم كاحول لافان بالتناوب، لتبدأ حقبة غامضة في مستقبل الدولة العبرية، لا يعرف إلى أين ستقودها.