باتت المعادن الحرجة محور صناعات تكنولوجيا المستقبل والمحرك الرئيسي لتكنولوجيا أشباه المواصلات والمعدات العسكرية والطاقة المتجددة. وعليه، أضحى لتلك المعادن أهمية بالغة، وبات استدعاؤها على ساحة التنافس الدولي أمرًا لا مفرَّ منه. وعلى ذلك، دخلت المعادن الحرجة مرحلة جديدة من الأهمية، وأصبحت محط اهتمام العديد من دول العالم، لا سيما المتقدمة، لدرجة بات معها السيطرة على تلك المعادن الحرجة وتأمين إمداداتها واحتياجاتها منها يتصدر أجندة أولوياتها، ويهدد بوقوع صدام جيوسياسي بين تلك الدول المتنافسة.
مدخل:
تعتبر قارة أفريقيا من أغنى قارات العالم بالموارد الطبيعية، التي تشمل الأراضي الزراعية الخصبة، المياه، النفط، الغاز الطبيعي، المعادن، الغابات، والحياة البرية. تحتفظ القارة بنسب كبيرة من هذه الموارد على مستوى العالم، سواء كانت من مصادر الطاقة المتجددة أو غير المتجددة. حيث تُعد أفريقيا مصدرًا رئيسيًا للعديد من المعادن، إذ تمتلك حوالي 30% من احتياطيات العالم من المعادن، و8% من الغاز الطبيعي، و12% من احتياطيات النفط العالمية. بالإضافة إلى ذلك، تحتوي القارة على 40% من الذهب في العالم، وحوالي 90% من احتياطيات الكروم والبلاتين. كما أن أفريقيا تُعتبر المخزن الأكبر للاحتياطيات العالمية من الكوبالت، الماس، البلاتين، واليورانيوم. كما تملك القارة 65% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم.
خريطة المعادن الحرجة في القارة الأفريقية:
تتوزع احتياطيات المعادن في قارة أفريقيا عبر عدة دول؛ حيث تمتلك كل دولة موارد طبيعية متنوعة. على سبيل المثال، توجد احتياطيات كبيرة من النحاس والكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا وجنوب أفريقيا وزيمبابوي، بينما تتوفر احتياطيات من الماس في بوتسوانا وأنجولا، والبلاتين في جنوب أفريقيا وزيمبابوي. كما توجد احتياطيات من اليورانيوم في ناميبيا والنيجر وجنوب أفريقيا، ومن الذهب في غانا وجنوب أفريقيا والسودان، وبالنسبة للحديد، فتتوافر في جنوب أفريقيا، والمنجنيز في جنوب أفريقيا والجابون وغانا. أما البوكسيت فيوجد في غينيا، والليثيوم في زيمبابوي، والفحم في جنوب أفريقيا وموزمبيق. وفيما يتعلق بالغاز الطبيعي، توجد احتياطيات كبيرة في الجزائر ومصر ونيجيريا، بينما يُستخرج النفط من نيجيريا وأنجولا والجزائر وليبيا.
على الرغم من هذا التنوع الكبير في الموارد المعدنية، تواجه قارة أفريقيا تحديات كبيرة في عمليات الاستكشاف والاستخراج؛ بسبب ضعف الهياكل الإدارية المحلية ووجود معوقات سياسية. كما أن المخاطر المرتفعة للاستثمار في القارة بين عامي 2016 و2020 أدت إلى انخفاض كبير في نشاط الاستكشاف في قطاع التعدين.
استكمالًا لما سبق، تظل الإمكانات الكبيرة لأفريقيا في قطاع المعادن النادرة غير مستغلة إلى حد كبير بسبب انخفاض مستويات الاستكشاف، ففي عام 2021، كانت ميزانية استكشاف التعدين في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا ثاني أدنى ميزانية على مستوى العالم؛ حيث كانت تُشكل نحو نصف ميزانية الاستكشاف في أمريكا اللاتينية وأستراليا وكندا، رغم أن مساحتها تزيد ثلاث مرات عن مساحة كندا وأستراليا. وعلى الرغم من ذلك، شهدت ميزانية الاستكشاف في بعض الدول زيادة كبيرة، حيث ارتفعت في كندا بنسبة 62% على أساس سنوي، تليها أستراليا بنسبة 39%، والولايات المتحدة بنسبة 37%، وأمريكا اللاتينية بنسبة 29%. في المقابل، نمت ميزانية استكشاف التعدين في أفريقيا بنسبة 12% فقط، ولا تزال الغالبية العظمى من عمليات الاستكشاف تركز على الذهب، بدلًا من المعادن النادرة أو المعادن الخضراء التي تعتبر حيوية للتحول إلى الطاقة النظيفة.
أهمية النحاس والكوبالت والمنجنيز: شهد عام 2022 هيمنة النحاس على قائمة المعادن الأكثر استخراجًا في القارة الأفريقية؛ حيث تصدرت جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا قائمة أكبر المنتجين. احتلت جمهورية الكونغو الديمقراطية المركز الأول بإنتاج بلغ حوالي 1.8 مليون طن من النحاس، تلتها زامبيا بإنتاج بلغ حوالي 830 ألف طن. أما الكوبالت، وهو معدن أساسي في صناعة البطاريات وتوليد الطاقة المتجددة، فحاز على المركز الثاني في الإنتاج الأفريقي، مع تركيز كبير على جمهورية الكونغو الديمقراطية، مدغشقر، المغرب، وزامبيا. وفي المركز الثالث جاء المنجنيز، الذي يشترك مع الكوبالت في أهميته لصناعة البطاريات وطاقة الرياح؛ حيث تتصدر زامبيا قائمة المنتجين. علاوة على ذلك، تظهر جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا كمرشحين قويين لتطوير صناعات لتكرير المعادن؛ مما يعزز مكانتهما كمركزين رئيسيين لإنتاج المعادن في القارة الأفريقية.
علاوة على ذلك، يمثل التحول العالمي نحو الصناعات النظيفة فرصة ذهبية للقارة الأفريقية الغنية بالمعادن الحيوية، فمع تزايد الطلب على المعادن المستخدمة في صناعة البطاريات، مثل الليثيوم والكوبالت والمنجنيز، فإن أفريقيا، بفضل ثرواتها المعدنية الهائلة، تستطيع أن تلعب دورًا محوريًا في هذا التحول. معادن مثل الليثيوم، الذي يدخل في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، تشهد طلبًا متزايدًا؛ مما يفتح آفاقًا واسعة أمام الاقتصادات الأفريقية.
ولذلك، تتشابك مصالح القوى العالمية في القارة الأفريقية الغنية بالمعادن الحرجة، فبينما تعتمد التكنولوجيا الحديثة والحياة المعاصرة على هذه المعادن، تدور معركة شرسة بين الولايات المتحدة والصين للسيطرة على هذه الثروات الطبيعية. الصين التي استبقت الجميع، تمتلك حصة الأسد في سوق المعادن الأفريقية، مدعومة باستثمارات ضخمة وبنية تحتية متطورة. ومع ذلك، تسعى الولايات المتحدة جاهدة لاستعادة مكانتها، معتمدة على مشاريع ضخمة مثل سكة حديد الأطلسي، في مواجهة الطموحات الصينية التي تتجسد في مشروع سكة حديد تزارا.
دور قطاع التعدين في تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على القطاعات التقليدية:
لقد أدت الصدمات الاقتصادية العالمية المتتالية، بما في ذلك جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، إلى تباطؤ حاد في النمو الاقتصادي في أفريقيا، فارتفاع معدلات التضخم، وتفاقم أزمة الديون، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، كلها عوامل أسهمت في تراجع النشاط الاقتصادي في القارة. وعلى الرغم من توقعات ببعض التعافي في المستقبل القريب، فإن وتيرة النمو لا تزال بطيئة، مما يعيق جهود القضاء على الفقر وتحقيق التنمية المستدامة.
إجمالًا لما سبق، بالرغم من أن التحديات الاقتصادية العالمية المتتالية، أظهرت بعض الدول الأفريقية مرونة اقتصادية ملحوظة. فبينما واجهت القارة بشكل عام تباطؤًا في النمو، حققت دول مثل كينيا وكوت ديفوار وجمهورية الكونغو الديمقراطية معدلات نمو مرتفعة في عام 2022. ومن المتوقع أن يزيد معدل النمو الاقتصادي للقارة الأفريقية إلى 5.1% في عام 2024 و5.2% في عام 2025. في حين تحقق البلدان غير الغنية بالموارد الطبيعية نموًّا بنسبة 4.2% في عام 2023، ويمكن أن تصل إلى 5.1% في عام 2024 و5.3% في عام 2025. ويمكن أن يُعزى الأداء الأقوى لهذه البلدان إلى التحسن الذي حققته بسبب انخفاض فواتير الواردات والتوسع في الخدمات.
تعتمد اقتصادات العديد من الدول الأفريقية بشكل كبير على صادرات المواد الخام؛ مما يجعلها عرضة لتقلبات الأسواق العالمية. ومع ذلك، فإن هذه الموارد الطبيعية تمثل أيضًا فرصة كبيرة لتحقيق النمو الاقتصادي. تسعى رؤيتا أفريقيا 2063 والتعدين الأفريقية 2050 إلى الاستفادة من هذه الموارد بطريقة مستدامة، من خلال تطوير الصناعات التحويلية محليًا وزيادة القيمة المضافة للصادرات. هذا النهج سيساعد على تقليل الاعتماد على صادرات المواد الخام الخام، وتعزيز مرونة الاقتصاديات الأفريقية.
يمكن أن يكون الاستغلال الرشيد للموارد الطبيعية في أفريقيا حافزًا قويًا لتحقيق الاستدامة المالية والاقتصادية. فمن خلال إدارة هذه الموارد بفاعلية، يمكن للدول الأفريقية زيادة إيراداتها الحكومية، وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية، وتوفير التمويل اللازم للاستثمار في البنية التحتية والخدمات الاجتماعية. كما يمكن لهذه الموارد أن تسهم في تنويع الاقتصادات الأفريقية، وتقليل تعرضها لصدمات الأسواق العالمية.
التحديات التي تواجه تنمية قطاع التعدين في أفريقيا:
رغم امتلاك القارة الأفريقية ثروات طبيعية هائلة ومساحات شاسعة، فإن مشاركتها في التجارة العالمية لا تزال محدودة؛ حيث تعتمد بشكل كبير على تصدير المواد الخام، خاصةً المعادن، بدلًا من المنتجات المصنعة ذات القيمة المضافة الأعلى. ويعود ذلك إلى مجموعة من العوامل؛ منها ضعف البنية التحتية، ونقص الاستثمارات في الصناعة، واعتماد العديد من الدول على الإيرادات السريعة من تصدير المواد الخام دون الاهتمام بتطوير سلاسل الإنتاج المحلية.
تأثير التضخم على أسعار المعادن: شهد عام 2022 ارتفاعًا حادًا في معدلات التضخم عالميًا؛ مما أثر بشكل مباشر في أسواق المعادن. ففي البداية، استفادت أسعار المعادن من التضخم المتزايد، ولكن سرعان ما انقلبت الأوضاع مع قيام البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم. أدى ذلك إلى تراجع النشاط الاقتصادي العالمي، وزيادة المخاوف من الركود؛ مما انعكس سلبًا على الطلب على المعادن، وبالتالي على أسعارها. وبالنسبة لأفريقيا، فإن التضخم المتصاعد قد قلل من جاذبية الاستثمار في قطاع التعدين؛ مما أثر سلبًا في نمو هذا القطاع الحيوي.
تحديات التمويل والسياسات الضريبية: تعاني الدول الأفريقية من تحديات كبيرة في تمويل أنشطة التعدين، وذلك بسبب ضعف السياسات الضريبية وانخفاض الإيرادات الحكومية. فالحوافز الضريبية التي تمنح لشركات التعدين، رغم أهميتها لجذب الاستثمارات، قد تؤدي إلى فقدان إيرادات ضريبية كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، تواجه الدول الأفريقية صعوبات في الحصول على التمويل الدولي اللازم لتمويل مشاريع التعدين، خاصة تلك التي تتطلب تكنولوجيات متقدمة، مثل مشاريع استخراج المعادن النادرة. هذا الوضع يضع الدول الأفريقية في موقف صعب؛ حيث تحتاج إلى إيجاد توازن بين جذب الاستثمارات وتأمين الإيرادات اللازمة للتنمية.
الدين العام وقطاع التعدين: يُشكل الدين العام المتزايد في أفريقيا عائقًا كبيرًا أمام نمو قطاع التعدين، فمع تزايد أعباء خدمة الدين، تقلص حيز المناورة المالية للحكومات؛ مما يحد من قدرتها على الاستثمار في البنية التحتية اللازمة لتطوير قطاع التعدين. بالإضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع الدين العام يزيد من أخطار الاقتراض؛ مما يجعل من الصعب على شركات التعدين الحصول على التمويل اللازم لمشاريعها. وبالتالي، فإن الدين العام المتزايد يؤثر سلبًا في جاذبية الاستثمار في قطاع التعدين في القارة.
تأثير الصراعات في الاستثمار: يُشكل عدم الاستقرار السياسي في أفريقيا عائقًا كبيرًا أمام جذب الاستثمارات في قطاع التعدين. فالصراعات المسلحة، والانقلابات، وهجمات المليشيات، تخلق بيئة غير مواتية للاستثمار، وتزيد من المخاطر التي يتحملها المستثمرون. هذا الوضع يؤدي إلى تراجع الثقة في الاستقرار السياسي والاقتصادي في العديد من البلدان الأفريقية؛ مما يقلل من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر اللازمة لتطوير قطاع التعدين.
فرص وإمكانات النمو المستقبلي لقطاع المعادن الأفريقية:
يمكن القول الآن إن قارة أفريقيا تمتلك ميزة تنافسية بفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي، بالإضافة إلى احتياطياتها الغنية من المعادن الضرورية للصناعات النظيفة التي تشهد إقبالًا كبيرًا عالميًا. كما أن لديها قوة عاملة شابة وقابلة للتكيف مع الصناعات المتطورة تقنيًا؛ مما يعزز من قدرتها على المنافسة في سوق تجارة المعادن. ومع ذلك، يتعين على القارة التغلب على التحديات التي تحول دون تطويرها لتصبح منتجة أو مصنعة في هذا المجال.
وعليه يمكن القول، يُمثل تعزيز سلاسل التوريد في أفريقيا المحرك الرئيسي لتنمية القارة، فمن خلال توفير بيئة جاذبة للصناعات المتقدمة، تسهم سلاسل التوريد في خلق فرص عمل وتحسين الأجور، وتنويع الاقتصادات الأفريقية، وزيادة قدرتها على الصمود أمام الصدمات الخارجية.
جانب آخر مشرق يبعث على التفاؤل بمستقبل استكشاف المعادن الأفريقية وتجارتها وهو الوفاء بالأهداف المناخية، حيث يتطلب الاهتمام بخارطة الطريق التي وضعتها وكالة الطاقة الدولية لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050. من الضروري تسريع وتيرة التغيير لتحقيق هذا الهدف؛ مما يعني زيادة كبيرة في الطلب على المعادن خلال العقد القادم. وفقًا للسيناريو الطموح الذي تسعى إليه وكالة الطاقة الدولية، من المتوقع أن يرتفع استهلاك الليثيوم والكوبالت أكثر من ستة أضعاف لتلبية احتياجات البطاريات واستخدامات الطاقة النظيفة الأخرى، وهو ما توفره بكثرة دول القارة الأفريقية. كما سيؤدي ذلك إلى زيادة استخدام النحاس بمقدار الضعف واستهلاك النيكل بمقدار أربعة أضعاف.
لتحقيق نمو مستدام لقطاع المعادن في أفريقيا، يتطلب الأمر نهجًا متكاملًا يشمل تعزيز الحوكمة الرشيدة، وتطوير البنية التحتية، وتعميق التعاون الدولي. فمن خلال هذه الجهود المشتركة، يمكن للقارة أن تستفيد بشكل أفضل من ثرواتها المعدنية وتحقق تنمية اقتصادية شاملة.
الصراع في لوبيتو:
في ظل التوسع المتزايد للنفوذ الصيني في القارة الأفريقية، والذي تجلى في استثمارات ضخمة في مشاريع البنية التحتية، تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز مكانتها في القارة، لا سيما في مجال المعادن الاستراتيجية، وذلك في إطار التنافس الاستراتيجي المتزايد بين القوتين العظميين. وتجسيدًا لطموحاتها في أفريقيا، أطلقت الولايات المتحدة مشروع ممر لوبيتو، والذي يُعد أحد أضخم مشاريع البنية التحتية التي تدعمها في القارة حتى الآن. وقد أكد الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن خلال قمة العشرين دعمه لهذا المشروع الاستراتيجي الذي يهدف إلى ربط ثروات الكونغو الديمقراطية وزامبيا من المعادن النفيسة بالأسواق العالمية؛ مما يعزز النفوذ الأمريكي في المنطقة. روجت حكومة بايدن لهذا المشروع كبديل جديد للتعاون بين الولايات المتحدة والدول الأفريقية، بهدف الاستفادة من قدرة واشنطن على تعبئة رأس المال الخاص للاستثمار في البنية التحتية في أفريقيا، كما يركز المشروع على مجالات رئيسية أخرى مثل التكنولوجيا الرقمية، التخفيف من آثار تغيُّر المناخ، وأمن الطاقة.
الأهمية الاستراتيجية لممر لوبيتو:
ترجع أهمية مشروع ممر لوبيتو لعدة أسباب؛ من أهمها ما يلي:
يعتبر الكوبالت والليثيوم: حجر الزاوية في الصناعة الأمريكية المستقبلية
في ظل التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية، باتت المعادن النادرة، مثل النحاس، عنصرًا حيويًا في الاقتصاد العالمي، ويُشكل مشروع ممر لوبيتو تعبيرًا واضحًا عن التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى، حيث تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون إلى تقليل اعتمادهم على الصين، المصدر الرئيسي لهذه المعادن، وتعزيز نفوذهم في القارة الأفريقية الغنية بالموارد. يشهد العالم ارتفاعًا هائلًا في الطلب على المعادن الاستراتيجية مثل النيكل والكوبالت والليثيوم، مدفوعًا بالتحول نحو الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية. هذا الارتفاع الحاد في الطلب قد جعل من ممر لوبيتو، الذي يربط بين ثروات الكونغو الديمقراطية وزامبيا وأنجولا بالأسواق العالمية، هدفًا استراتيجيًا لكبرى الدول الصناعية؛ مما أدى إلى تنافس شديد على الاستثمار في هذه المنطقة الغنية بالموارد.
يمثل ممر لوبيتو نقلة نوعية في التجارة الإقليمية؛ حيث سيوفر طريقًا أسرع وأقل تكلفة لتصدير المعادن والسلع الأساسية من دول وسط وجنوب أفريقيا إلى الأسواق العالمية. وبذلك، سيسهم الممر في تعزيز التنافسية الاقتصادية لهذه الدول، وتقليل الاعتماد على الموانئ الشرقية البعيدة.
حرب المعادن: السباق الأمريكي الصيني على السيطرة على الكوبالت
يمثل مشروع ممر لوبيتو استجابة مباشرة لمبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث تسعى الولايات المتحدة من خلاله إلى تحدي النفوذ الصيني المتزايد في القارة الأفريقية، لا سيما في مجال البنية التحتية والتجارة. وتعتبر السيطرة على سلاسل توريد المعادن الحيوية، والتي تعد حجر الزاوية في الاقتصاد العالمي الحديث، محورًا أساسيًا لهذا التنافس.
علاوة على ذلك، تتجاوز أهداف مبادرة الحزام والطريق في أفريقيا البنية التحتية والاتصال، لتشمل أبعادًا اقتصادية وجيوسياسية أعمق. فمن خلال الاستثمار المكثف في قطاع التعدين، تسعى الصين إلى تأمين إمدادات مستقرة من المعادن النادرة التي تعتبر حجر الزاوية في صناعاتها المتقدمة، وتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي في القارة، كما يتضح ذلك من سيطرتها على قطاع التعدين في دول مثل الكونغو الديمقراطية وزامبيا.
استثمرت الصين مبالغ طائلة، تجاوزت التريليون دولار، في مشاريع عالمية لضمان توفير المعادن النادرة التي تدعم التحول نحو الطاقة النظيفة؛ مما جعلها رائدة في بناء سلاسل توريد هذه الموارد الحيوية التي تشهد حاليًا منافسة جيوسياسية شديدة. على الرغم من الانطلاقة القوية، واجهت مبادرة الحزام والطريق تحديات متزايدة في السنوات الأخيرة، نتيجة للتباطؤ الاقتصادي العالمي، وتزايد أعباء الديون في العديد من الدول المشاركة، والتحديات الداخلية التي تواجه الصين. وقد انعكس هذا التراجع في انخفاض الاستثمارات المرتبطة بالمبادرة بشكل ملحوظ. نتيجة لذلك، بدأت بعض الدول الأفريقية، مثل أنجولا وزامبيا، في إعادة تقييم علاقاتها مع الشركاء التقليديين، وتوسيع نطاق تعاونها مع الغرب، كما يتضح من الزيارة الأخيرة للرئيس الأنجولي إلى الولايات المتحدة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن العالم يستهدف إنتاج حوالي ثلثي الطاقة الكهربائية في العالم من الطاقة المتجددة بحلول عام 2050.
يتضح أنه بالرغم من سيطرة الصين على مجال المعادن الحرجة، وحاجة الشركات الأمريكية إلى قطع شوط طويل للحاق بنظيراتها الصينية ومنافستها، فإن التنافس العالمي على تلك المعادن يبدو أنه يسير بوتيرة متصاعدة نحو الصدام، كونها أضحت جزءًا من صراع أكبر على الهيمنة التكنولوجية، بما يضمن التفوق العسكري والاقتصادي لتلك الدول، ويدعم استقلال وأمن طاقتها، تجنبًا للانعكاسات السلبية لأي توترات جيوسياسي.
رغم التحديات التي واجهتها مبادرة الحزام والطريق، فإن الصين لا تزال تتمتع بنفوذ قوي في القارة الأفريقية، فقد نجحت في ترسيخ مكانتها كشريك تجاري واستثماري رئيسي، وربطت نفسها بشبكة واسعة من العلاقات الدبلوماسية. هذا النفوذ العميق يشكل عائقًا كبيرًا أمام جهود الولايات المتحدة لبناء شراكات جديدة في القارة؛ حيث تأتي هذه الجهود متأخرة نوعًا ما.
تواجه مبادرة تطوير “ممر لوبيتو” مجموعة متشابكة من التحديات والصعوبات التي تتطلب من واشنطن بذل جهود مضاعفة للتغلب عليها:
- تواجه جهود تطوير قطاع المعادن في أفريقيا تحديات كبيرة، من بينها الحاجة إلى إثبات الجدوى الاقتصادية للمشاريع، وتوفير البنية التحتية اللازمة، وتطوير القدرات المحلية. بالإضافة إلى ذلك، فإن قرارات بعض الحكومات الأفريقية بحظر صادرات السلع الخام قد يؤدي إلى نقص في المعروض من الخامات اللازمة للصناعات التحويلية المحلية؛ مما يعقد عملية تطوير القطاع.
- يواجه مشروع ممر لوبيتو منافسة شديدة من مشاريع نقل أخرى، بالإضافة إلى تحديات داخلية تتعلق بتنشيط الاقتصاد المحلي وضمان الأمن والسلام في المنطقة. وعليه، يجب على المشروع أن يربط بين تطوير البنية التحتية وزيادة الإنتاج الزراعي، مع ضمان أمن السكك الحديدية في ظل التوترات الأمنية في شرق الكونغو.
- تزيد تعقيدات سلاسل إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية من اعتماد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على التكنولوجيا الآسيوية. وهذا يضع الدول الغربية في موقف صعب، ويحد من قدرتها على التحكم في هذه الصناعة الاستراتيجية.
خلاصة القول، من المتوقع أن تتبنى الدول الأفريقية نهجًا دبلوماسيًا حذرًا في التعامل مع المنافسة المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة على ثروات القارة. فالدول الأفريقية تسعى إلى حماية سيادتها ومصالحها الوطنية، وتعمل على استغلال هذه المنافسة لزيادة مكاسبها الاقتصادية. انطلاقًا من الأهمية الشديدة لهذه المواد، تشكلت خريطة عالمية لمكامن ومناطق إنتاجها واستهلاكها وتصديرها، وأصبحت الاحتياطات الاستراتيجية منها أهم من الوقود الأحفوري في حد ذاته، فالعالم يتجه -ولو بخطى بطيئة- نحو ما يسمى الاقتصاد الأخضر والرقمي، وخفض الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية، وتُمثل هذه المعادن الحرجة عاملًا مهمًا في أسباب هذا التحول الطاقي.
وفي الأخير، في الوقت الذي تخوض فيه القوى العالمية الكبرى صراعًا على مصادر الطاقة الأساسية ممثلة في الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم) ذات الأهمية الشديدة في الصناعات الثقيلة وإنتاج الكهرباء والطاقة، يبرز صدام آخر أكثر شراسة على معادن الأرض النادرة التي باتت عنصرًا أساسيًا واستراتيجيًا لا غنى عنه في الصناعات التكنولوجية الدقيقة الراهنة والمستقبلية والانتقال إلى ما يعرف بالاقتصاد الأخضر.
دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة