موقف شديد الحرج واجهته حكومة الوفاق الليبية منذ أسابيع، أثناء إدارتها معركة طرابلس فى مواجهة الجيش الوطنى الليبى، الذى يستهدف دخول العاصمة، وانتزاعها من قبضة الميليشيات الإرهابية التى تختطف مقدرات وقرارات الحكومة و«الرئاسى»، منذ تشكيلهما عقب مؤتمر «الصخيرات». هذا الموقف الحرج؛ تمثل فى خروج صفحات إعلامية عدة تابعة للجماعات الإرهابية المتطرّفة، لتحتفى وتعلن مقتل أحد قيادييها، وهو الإرهابى «عبدالسلام بورزيزة» فى محور طريق المطار، أثناء قتاله مع قوات «حكومة الوفاق».
الحرج البالغ تجرعته ما تتسمى بالحكومة؛ للشهرة الكبيرة التى يحظى بها «بورزيزة»، حيث يعلم عنه معظم الليبيين الكثير من محطات انخراطه فى خدمة النشاط الإرهابى المسلح. فهو فى الأصل من عناصر «كتيبة راف الله السحاتى» المتطرفة، شارك معهم فى القتال ضد القوات المسلحة فى معارك معسكرات الصاعقة ومعارك بنينا، قبل أن يهرب من مدينة بنغازى عام 2016، لتنقطع أخباره منذ تلك الفترة. ما يعلمه عنه الليبيون، أن الإرهابى انتقل للسكن فى «النواقية» ومن هناك بايع تنظيم «داعش»، وعين قيادياً من قبل قيادات التنظيم الأم منذ عام 2015، لتوكل إليه مهمة المشاركة فى معارك محاور الليثى والقوارشة والهوارى وعمارات الصينية. ليظهر بعدها «بورزيزة» فى إصدار تنظيم داعش (معانى الثبات 2)، الذى خرج فيه ملثم من منطقة الليثى، يتوعد أهالى بنغازى والقوات المسلحة بالقتل والتنكيل، كما أرسل وعداً لمناصريهم حينها بأن قوات الجيش الليبى، لن تدخل الليثى وبنغازى إلا على جثثهم، حسب قوله.
لكن على الأرض كانت توجيهات التنظيم الأم للقياديين بداخل ليبيا، ومنهم «عبدالسلام بورزيزة» بأن ينسحبوا هم والعناصر المنتمية إلى «داعش»، من مناطق هزيمتهم التى دخلها الجيش الوطنى وحسم معاركها، فى مدن بنغازى ودرنة وإجدابيا. ليتوجهوا خفية، حيث يستقبلهم هناك فى طرابلس ومصراتة وصبراتة والزاوية، من هو قادر على تأمين إقامات آمنة لهم، وليظهروا لاحقاً صحبة آخرين فور اندلاع معركة طرابلس. حاولت «حكومة الوفاق» فى البداية نفى وإنكار هذا الأمر، إلا أن أعداد القتلى من عناصر هذه الجماعات ما لبثت أن توالت فى ازدياد لافت، مما جعلها غير قادرة على الاستمرار فى هذا الإنكار، وصارت تتجاوزه، خاصة بعد بدء وصول شحنات السلاح القادمة من تركيا لهذه المجموعة على وجه التحديد. وأيضاً بعد استلاب قرار تحريك وإدارة معارك تلك المجموعات والكتائب المسلحة، من يد وزير داخلية الوفاق «فتحى باشاغا» ابن مدينة «مصراتة»، الذى كان قبيل اندلاع معركة طرابلس هو الآمر الناهى فى إيواء وترتيب أمور وتحريك تلك الميليشيات الداعشية، وغيرها ذات الانتماءات الأخرى، ليجد المعادلات تتغير وسط معارك طرابلس، وتتحول دفة الإمساك بمقود الإدارة وتعليمات القتال، إلى القيادة الأم من خارج ليبيا، التى ظنها «باشاغا» تعانى من أزمتها الخاصة بانحسارها من الأرض الثابتة التى كانت تقف عليها.
لكن ما كان يجرى هناك، على الجانب الآخر من المشهد فى معقل وجود القيادة العليا لـ«داعش»، عبّرت عنه دراسة أمريكية مهمة بعنوان «هناك حاجة إلى قواعد جديدة للاشتباك؛ مع بقاء داعش وتكيفه»، نشرت بالمجلس الأطلسى (Atlantic Council) قبل أيام قليلة «11 يونيو الحالى». وهى تتحدث عن استطاعة تنظيم «داعش» سابقاً فى السيطرة، على مساحات واسعة من الأراضى فى العراق وسوريا، لدرجة استدعت تشكيل تحالف دولى مكون من ثمانين دولة واتحاداً، لشل حركتها. فى النهاية، فقدت «داعش» تلك المناطق التى سيطرت عليها، وهُزمت فى المدى المنظور. ربما بعد خمس سنوات أصبحت «داعش» شيئاً مختلفاً، لكن لم تهزم، ففى 28 أبريل 2019، عاود «البغدادى» الظهور فى شريط فيديو من مكان مجهول، يسعى فيه للانتقام لأرضه المفقودة. بدا أن «داعش» أصيبت بالعطب العام الماضى فى عدة معارك شرسة مع التحالف الدولى، لكنها تعيد الآن تجميع صفوفها، مما يفرض على المجتمع الدولى إدراك ذلك، وإعادة تطوير استراتيجيته.
تناولت الدراسة بشكل تفصيلى تحليل خطة وأداء «داعش» فى «معركة الباغوز»، وربما الأهم فيما قامت به «داعش» حينها، أن هذه الخطة لم تكن لحماية جزء من أرض الخلافة، ولا للسيطرة على الأرض، كما فعل «التنظيم» فى بداية ظهوره. فى الواقع كان الهدف تحقيق نصر لاحق؛ من خلال منشورات تحفيزية لجيل قادم من أعضائها. حينها اعتمدت «داعش» على المقاتلين الأجانب، الذين رفضت بلدانهم الأصلية السماح لهم بالعودة، فقد افترضت أن هؤلاء المقاتلين لن يستسلموا أبداً، كونهم أمام خيارين قاسيين: إما السجن فى العراق، أو أن تقوم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بتسليمهم إلى النظام السورى، فى حال انسحاب الولايات المتحدة. كما اختارت «داعش» منطقة «الباغوز»، لأنها تحتوى على الكثير من الكهوف الطبيعية، كما حفرت خندقاً مغطى نحو الحدود العراقية بطول (700 متر)، وأعدّت عدداً من مخازن الذخيرة وورش إنتاج مركبات محملة بالمتفجرات.
المؤكد فى الأمر؛ أن «داعش» اشترت الوقت من معارك هجين والباغوز، كجزء من خطة أكبر. ولمنح مقاتليها الفرصة لإعادة تجميع صفوفهم، حيث يُفترض أن عدد هؤلاء المقاتلين بالآلاف وينتشرون فى الصحراء السورية، وتحديداً فى مثلث يقع بين «السخنة» فى محافظة حمص، و«الميادين» فى محافظة دير الزور، و«معدان» فى محافظة الرقة. ليستطيع من هناك أن ينقل مقاتليه إلى صحراء السويداء الشرقية، وصحراء البوكمال، فى الوقت الذى تفيد فيه معظم التقارير الاستخباراتية، بأن القادة الكبار لـ«داعش» فرّوا نحو العراق، حيث تتوافر هناك الحواضن الشعبية، التى يمكنها حمايتهم فى منطقة القائم، بالقرب من صحراء الأنبار. وأثناء ما جرى من تلك الأحداث، كان «التنظيم» يتشكل فى نسخته الجديدة، التى استطاع البعض منها الانخراط مجدداً فى الحركة بليبيا، وآخرون تمكنوا من الوصول إلى سيناء، مستهدفين البدء فى صناعة فصل جديد من التهديد، ولكليهما قد نكون أمام احتياج عاجل، إلى مقاربة جديدة، نتناولها فى المقال القادم بإذن الله.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ١٩ يونيو ٢٠١٩.