على الرغم من التقارير التي تحاول استشراف التحديات المستقبلية والتي تصدرها مجموعة من أجهزة الأمم المتحدة ومؤسسات التمويل الدولية وعدد من منظمات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث وبعض الأجهزة والمنظمات الاقتصادية الإقليمية والدولية؛ جاءت أزمة كورونا لتثبت مجددًا أن العالم لا يزال يفتقد إلى الأجهزة اللازمة للإنذار المبكر، وإلى الآليات القادرة على توقع مختلف التحديات العالمية، وعلى التعامل معها بالسرعة والكفاءة المطلوبة، خاصة وأن الإخفاق في توقع صدمة كورونا يتشابه مع صدمات مماثلة سبق أن تعرض لها العالم لم يكن يتوقعها أحد، ويدخل في إطار الأمثلة على ذلك:
١- أن البنك الدولي كان قد أصدر عام ١٩٩٣ تقريرًا تحت عنوان “المعجزة الاقتصادية في دول شرق آسيا” أكد على سلامة أوضاعها الاقتصادية، وتقديره لأن تشهد تلك الدول تطورًا متواصلًا في الأداء الاقتصادي وفِي المكانة العلمية والتكنولوجية، وتوقعه استمرارها لعقود دون توقف. وبعد أن حظي هذا التقرير باهتمام كبير من قبل العديد من الدوائر السياسية والاقتصادية العالمية، تفجرت الأزمة المالية الآسيوية عام ١٩٩٧، والتي ظهرت خلالها كوريا الجنوبية على شفا الإفلاس حيث تقدمت هي وغيرها من الدول الآسيوية الأخرى بطلبات للحصول على صفقات إنقاذ مالية من صندوق النقد الدولي. وهي الأزمة التي انتقلت تداعياتها بدرجات متفاوتة إلى مختلف دول العالم، وبدأ البنك الدولي وغيره من المؤسسات والأجهزة الاقتصاديه الدولية، بعد تفجر الأزمه، في إصدار تقارير وتقديرات تختلف تمامًا عما ورد في تقرير البنك الدولي لعام ١٩٩٣، بعد أن ثبت أن الأوضاع المالية الحقيقية السائدة في تلك الدول كانت بعيدة تمامًا عن فهم إحدى أهم مؤسسات التمويل الدولية وعن تقديرات وكالات التصنيف الائتماني.
٢- وعلى الرغم من التحرك الذي قام به صندوق النقد الدولي عقب تفجر الأزمة المالية الآسيوية من أجل إقامة نظام للإنذار المبكر يكون عمله الأساسي توقع الأزمات قبل تفجرها بما يضمن استقرار النظام المالي الدولي، واحتواء الأزمات قبل انتقال تداعياتها إلى الاقتصاد العالمي؛ تفجرت الأزمة المالية العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية عام ٢٠٠٨ والتي بدأت بإفلاس Lehman Brothers، حيث وقف العالم بأسره مصدومًا من الانهيارات المتواصلة لمؤسسات مالية ولشركات أمريكية سرعان ما انتقلت إلى أوروبا وإلى مختلف دول العالم في أزمة مالية هي الأكبر التي يشهدها العالم منذ “الكساد الكبير” في الثلاثينيات والتي فشلت كافة الأجهزة الدولية في توقع حدوثها أو تقدير تداعيات سرعة انتقالها لمختلف دول العالم لتؤثر لسنوات طويلة في معدلات نمو الاقتصاد العالمي الذي بدأت دوله الرئيسية تعاني من الكساد ومن تبخر رؤوس أموال بتريليونات الدولارات.
٣- ولَم يقتصر الأمر على ذلك، بل انتقل إلى تبني مؤسسات التمويل الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي، سياسات دون التحسب من تبعاتها، إذ طبق الصندوق ما يُعرف “باستراتيجية توافق واشنطن للتنمية” التي ابتدعها الاقتصادي الأمريكي “جون ويلهامسون” والتي تعتمد على المغالاة في التحرير مع التركيز على ضرورة الإسراع بالخصخصة وعلى إزالة كافة القيود على التدفقات المالية والاستثمارية وعلى توقع الانسياب التدريجي لعوائد التنمية للطبقات المتوسطة والفقيرة، حيث كان لتسرع الصندوق في تبني تطبيقها مجموعة من الآثار الكارثية في العديد من دول أمريكا اللاتينية بعضها لا يزال يعاني من تبعاتها حتى الآن، إلى أن قام “الصندوق” خاصة بعد عام ٢٠١١ بتعديل بعض سياساته لتأخذ في الاعتبار مقتضيات تحقيق التوازن الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والسياسي.
٤- وكان برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP قد أصدر يوم ١٥ ديسمبر الجاري تقريره الأشهر عن التنمية البشرية Human Development Report والذي لم يخلُ من المفارقات غير المنطقية، حيث جاء ترتيب مصر ١١٦ على مستوى العالم في التنمية البشرية، في حين جاء ترتيب ليبيا في مرتبة أفضل من مصر حيث منحها المكانة ١٠٥ عالميًّا، كما جاء ترتيب الجزائر الـ٩١، ولبنان ٩٢! والأخطر من ذلك جاء ترتيب بنما في المركز الـ٥٧ متقدمة على الهند التي جاءت -وفقًا لهذا التقرير- في المرتبة ١٣١ عالميًّا. كما جاء ترتيب كوستاريكا ٦٢ عالميًّا أفضل من ترتيب الصين التي جاء ترتيبها الـ٨٥ على مستوى العالم. كما جاءت بعض الاستنتاجات الواردة في تقرير التنمية البشرية متناقضة مع الاستنتاجات الواردة في تقرير UNDP ذاته عن مؤشر المعرفة العالمي Global Knowledge Index GKI الذي تم إعداده بالتعاون مع مؤسسة محمد بن راشد المكتوم والصادر يوم ١٠ ديسمبر، أي قبل خمسة أيام من تقرير التنمية البشرية، إذ جاء ترتيب مصر في تقرير الـGKI في المرتبة ٧٢ عالميًّا، وهو التقرير الذي يقيس التطور في عدد من المجالات المحددة، وهي: التعليم ما قبل الجامعي، والتعليم الفني والتأهيل المهني والتدريب، والتعليم العالي، والبحث العلمي والتنمية والابتكار، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والاقتصاد، والبيئة الداعمة للتطور. كما جاء ترتيب قطر الـ٣٢، والسعودية الـ٤٢، والبحرين ٤٣، والكويت ٦٥، أفضل من ترتيب البرازيل ٦٨، والهند ٧٥، كما جاء ترتيب مالطا ٢٧ أفضل من ترتيب الصين الـ٣١ عالميًّا في مؤشر الـGKI. وتؤكد تلك التناقضات الواردة بين التقريرين -رغم اختلاف المعايير التي تقوم عليها عملية احتساب مكانة الدول في مؤشر التنمية البشرية عن تلك التي تقوم عليها لاحتساب مكانتها في المؤشر العالمي للمعرفة- أنه لا يجب الأخذ بمثل تلك التقارير بما فيها تلك الصادرة عن الـUNDP وما يرد بها من استنتاجات كمسلّمات لا تقبل النقد أو التشكيك في سلامتها، ودون القيام بتقييم موضوعي لمحتواها.
ونظرًا لتزايد وتيرة الانتقادات الموضوعية التي وُجهت إلى العديد من تلك التقارير، وفي إطار الحرص على عدم تكرارها، قام البنك الدولي في ٢٧ أغسطس الماضي بتعليق إصدار تقريره السنوي Doing Business بعد أن ثبت وجود عدد من المخالفات في البيانات التي قامت عليها عملية تصنيف وترتيب الدول، وكانت مجموعة من تقارير البنك الدولي قد تعرضت لانتقادات حادة طوال الأعوام الثلاثة الماضية، خاصة بعد قيام Paul Romer كبير الاقتصاديين بالبنك بتقديم استقالته وتصريحه بأن عددًا من التقارير والتقديرات التي يصدرها البنك تنقصها الدقة والموضوعية، كما أصدر المنتدى الاقتصادي العالمي يوم ١٦ ديسمبر الجاري تقريره السنوي عن التنافسية العالمية دون أن يحتوي لأول مرة على ما يُعرف مؤشر التنافسية Global Competitiveness Index GCI الذي على أساسه يتم ترتيب الدول وفقًا لدرجة تنافسيتها، كما تجنب التقرير تكرار الإشارة إلى “دعائم” احتساب التنافسية التي تشمل اثني عشر مدخلًا تتمثل في: المؤسسات والبنية الأساسية، والبيئة الاقتصادية، والصحة، والتعليم الأساسي، والتعليم العالي والتدريب، وكفاءة أسواق السلع، وكفاءة سوق العمل، وتنمية سوق المال، والاستعدادات التكنولوجية، وحجم السوق، وبيئة الأعمال، وثقل مراكز البحث العلمي، الأمر الذي يعد مؤشرًا على التوجه نحو تطوير تلك الدعائم عن طريق إدخال عناصر جديدة عليها تتعلق بمحاولة تقييم “إنتاجية المجتمعات”، وسرعة تحرك الحكومات ومجتمع الأعمال للتعامل مع التغيرات والتحديات التي تواجه البيئة السياسية والاقتصادية العالمية. ويُعد تجنب ترتيب الدول وفقًا لتنافسية أداء اقتصادياتها الوطنية تطورًا إيجابيًا في حد ذاته، بعد أن ثبت أنه لا يمكن لإحدى منظمات المجتمع المدني القيام بهذا العمل دون أن يتوافر لديها المعلومات والبيانات الإحصائية ذات المصداقية، ودون إجراء تقييم موضوعي للقضايا المتصلة بالانقسام الاجتماعي، وبعدم المساواة، وبتركز الثروة في نسبة محدودة من المجتمعات، وبتآكل الطبقة المتوسطة، وبتزايد ثقل التيارات اليمينية والشعبوية، وبتصاعد التوجهات العنصرية، وبعدم المساواة بين الجنسين، والتي ظلت غائبة عن تقارير التنافسية لسنوات طويلة رغم كونها تعد ضمن أخطر التحديات التي تواجه أكثر الدول تقدمًا.
ومع النجاح العلمي الكبير في التوصل إلى عدد من اللقاحات ضد (Covid-19) برزت مجموعة من المشكلات، بعضها يتصل بعدم الثقة في سلامتها أو في قدرتها على توفير مناعة لفترات زمنية ممتدة دون آثار جانبية، في حين يتركز أخطرها في كيفية ضمان وصول تلك اللقاحات إلى كافة الدول وإلى مختلف أطياف مجتمعاتها بالسرعة المطلوبة ودون تمييز أو تفرقة. ومهما يُقل عن مصداقية التقارير الدولية عن الأداء الاقتصادي للدول، والتي تقوم بإعدادها مجموعة من الأجهزة الدولية على تنوعها، وأخذًا في الاعتبار أن عالم ما بعد كورونا سيكون مختلفًا تمامًا عن ذي قبل؛ فإن مقتضيات التعامل مع الواقع العالمي الجديد لا يجب أن تقتصر على مجرد توقع التغير الذي سيتم إدخاله على مسارات العولمة وعلى التقديرات التي تتكهن بإمكانية تراجعها، بل قد يمتد أيضًا إلى إعادة النظر في القواعد التي تقوم عليها النظم الرأسمالية أو ما يُعرف بـRethinking Capitalism التي كما يبدو أصبحت غير قابلة للوفاء بالاحتياجات الإنسانية الأساسية للمجتمعات، خاصة وأننا قد نكون على مشارف ظهور نظم سياسية واقتصادية جديدة تأخذ في الاعتبار تحقيق العدالة الاجتماعية بأكثر من حرصها على تحقيق النمو والربح، وخلق الثروة دون سياسات تضمن وصولها إلى كافه أطياف المجتمعات، وهو ما يتزامن مع تراجع ملحوظ في الممارسات الديمقراطية في أكثر دول العالم تقدمًا وفي غيرها أيضًا.