كيف نفسر موقف إثيوبيا من سد النهضة؟ ولماذا تتصاعد الحرب الأهلية الدائرة الان في إقليم تيجراى؟ الإجابة على هذين السؤالين وأسئلة أخرى مثل لماذا تتدخل روسيا في أوكرانيا؟ ولماذا لا تتصاعد المناوشات العسكرية الحدودية بين الهند والصين الى حرب؟ ولماذا لا تتوقف حالة الصراع في منطقة الشرق الأوسط؟ تكمن الى حد كبير في الجغرافيا.
وجهة النظر التي تفسر العلاقات الدولية استنادا للمنظور الجغرافي ليست جديدة على العلوم السياسية، وهناك النظرية الشهيرة المرتبطة بالجغرافي الإنجليزي ماكيندر (مؤسس الجغرافيا السياسية / الجيوبولتيك) والذي يربط بين قوة الدولة وسيطرتها على مناطق جغرافية معينة، ومقولته الشهيرة أن من يسيطر على كتلة اليابسة الأوراسيوية يستطيع السيطرة على العالم. ونظرية الفريد ماهان التي تربط بين قوة الدولة والسيطرة على البحار، وغيرها.
النظريات الجغرافية للعلاقات الدولية شهدت تراجعا بعض الشيء نتيجة التقدم التكنولوجي وظهور حاملات الطائرات والصواريخ طويلة المدى والتي حيدت عنصر المسافة الجغرافية. ولكن نشهد في السنوات الأخيرة عودة الاعتبار للمنظور الجغرافي، والذي تمثل في صدور عدد من الكتب الهامة في الموضوع، ربما يكون أحدثها كتاب صدر منذ أسابيع قليلة، ويحمل عنوان “قوة الجغرافيا” ومؤلفه هو تيم مارشال، والذي ألف كتابا أخر عام 2016 بعنوان “سجناء الجغرافيا”.
وجهة نظر مارشال هي أن نقطة البداية بالنسبة لأي دولة هي موقعها بالنسبة للجيران، وطرقها البحرية، ومواردها الطبيعية المرتبطة بجغرافيتها. وأن الخيارات التي تتبناها الدول، الآن وفي المستقبل، لا تنفصل أبدًا عن هذا السياق. ويشير الى أن الجغرافيا لا تملي مسار كل الأحداث، فالأفكار العظيمة والقادة العظماء هم جزء من عملية دفع وجذب التاريخ، لكن يجب أن يعملوا جميعًا ضمن حدود الجغرافيا.
على سبيل المثال يعتبر المؤلف أن موقع الولايات المتحدة الأمريكية ساهم في أن تصبح “قوة عظمى” حيث قدم المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، ميزة إضافية وأثنى الغرباء عن مهاجمتها، وخلال الحربين العالميتين لم يتم إطلاق رصاصة واحدة على البر الرئيسي للولايات المتحدة، وأثناء الحرب العالمية الثانية استنفدت الدول الأوروبية الكبرى ثرواتها، في حين حافظت الولايات المتحدة على ثرواتها وقامت بتطويرها. وبالتالي، ففي سياق جغرافي مختلف، لن تكون الولايات المتحدة هي الولايات المتحدة.
أما بالنسبة لروسيا فكانت أراضيها الممتدة والمنبسطة حافزا للغزاة، ويذكر المؤلف أن فلاديمير بوتين يتمنى لو كان هناك جبالًا في أوكرانيا، بحيث لا يكون الامتداد الكبير للأرض المسطحة شمال أوروبا، بمثابة منطقة مشجعة يمكن من خلالها مهاجمة روسيا مرارًا وتكرارًا، وربما يجد ذلك مبررا لسياسته الحالية القائمة على منع الغرب من السيطرة على أوكرانيا.
وبالرغم من أن الصين والهند تشتركان في حدود طويلة، وحدثت بينهما مناوشات حدودية قصيرة، ولكنها لم تتحول الى حروب طويلة، لأن بينهما أعلى سلسلة جبال في العالم، ومن المستحيل عملياً أن تتقدم قوات عسكرية كبيرة عبر جبال الهيمالايا أو فوقها.
أما منطقة الشرق الأوسط فما تزال أسيرة للخطوط الجغرافية المصطنعة التي وضعها الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس ونظيره الفرنسي فرانسوا بيكو عام 1916، ويرى الكاتب أنه وفقا لها تم إنشاء “دول قومية” بشكل تعسفي من أناس غير معتادين على العيش معًا في منطقة واحدة، وهو وصفة لعدم الاستقرار والصراعات والفوضى التي ما تزال تعيش المنطقة في ظلها، وينتهي الكاتب الى أن أحداث منطقة الشرق الأوسط تشير الى أن سايكس بيكو آخذة في الانهيار؛ وإن إعادة تجميعها معًا، حتى في شكل مختلف، سيكون شأناً طويلاً ودموياً.
كتاب قوة الجغرافيا يتضمن فصلا كاملا عن إثيوبيا، ويرى المؤلف أن المياه تحدد موقع ومكانة إثيوبيا الجيوسياسية. والمياه العذبة هي مصدر قوتها الرئيسية والمياه المالحة واحدة من نقاط ضعفها، فلديها 12 بحيرة كبيرة وتسعة أنهار رئيسية، معظمها يمد جيرانها بالمياه، مما يمنح إثيوبيا نفوذاً عليهم. لكن ما تفتقر إليه هو الساحل والوصول المباشر إلى البحر لأنها دولة حبيسة، وتمر معظم وارداتها وصادراتها عبر أراضي جيرانها. ويرى الكاتب أن أثيوبيا تستهدف من سد النهضة وضع يدها على صنبور مياه النيل الأزرق لتعزير مكانتها الإقليمية. وكذلك استبدال الذهب الأسود أو البترول الذي يمكن أن تحصل عليه من السودان وجنوب السودان، بما يسميه بالذهب الأزرق أي المياه والكهرباء.
ويشير الكاتب الى أن أثيوبيا تواجه عدة مشكلات داخل حدودها تتعلق بتقسيم البلاد إلى مجموعات عرقية، فلديها تسع مجموعات عرقية رئيسية بين سكانها، وهناك تسع مناطق إدارية ومدينتان تتمتعان بالحكم الذاتي، وكلها على أساس العرق. وأدت هذه التقسيمات الى الشعور بالريبة المتبادلة والخوف لدى تلك الجماعات من بعضها البعض، وبالتالي ضعف الدولة القومية. ويشير المؤلف الى أنه على الرغم من كل هذه الاختلافات، هناك قدر من الشعور بإثيوبيا، كما يتضح من التضامن في قضايا مثل مقاومة الغزاة، وسد النهضة وفي الإنجازات الرياضية. ولكن هذه المشاعر تتضاءل قوتها وتتلاشى حسب الزمان والمكان، ودائمًا ما تكون معرضة لخطر الانهيار، كما يتضح من الأحداث العرقية التي تشهدها إثيوبيا في العامين الأخيرين.
باختصار، هناك عودة لفهم العالم والعلاقات الدولية استنادا للجغرافيا، وقد ساهم باحثون مصريون وعلى رأسهم جمال حمدان في اجتهادات فكرية سابقة حول هذا الموضوع، ولكننا نحتاج الان الى تجديد هذا الفكر، وتبنى رؤية جغرافية معاصرة لعملية التنمية داخل مصر، وحركتها الخارجية في إطارها الإقليمي والدولي.
ـــــ
نقلا عن جريدة الأهرام، ٥ مايو ٢٠٢١.