تختلف الرؤى حول ما سيئول له مصير داعش في المستقبل القريب والبعيد، ولكنها جميعًا تتفق في توصيف الوضع الراهن، وهو أن “التنظيم قد هُزم” وفقد مناطق نفوذه على الأرض في العراق وسوريا، وتراجعت قدراته بشكل عام في باقي الفروع. ومنذ إعلان الولايات المتحدة هزيمة التنظيم في سوريا في مارس ٢٠١٩، ومقتل رأس التنظيم أبي بكر البغدادي في ٢٧ أكتوبر ٢٠١٩؛ لم تظهر مؤشرات حاسمة يمكن الارتكان إليها في التدليل على أن التنظيم سيعود كما كان بوجود ملموس وسيطرة على الأرض. وعلى الرغم من كثافة الأطروحات التي قُدمت عقب هزيمة التنظيم؛ إلا أنها لم تُبدِ اهتمامًا كافيًا بتأثير هذه الهزائم والانتكاسات على “جاذبية التنظيم” وقدرته على التجنيد. لقد كان سقوط تنظيم داعش مدويًا، خاصة وأنه قد سقط من أعلى، عقب إثارة أحلام بدت بوادرها تتحقق على أرض الواقع، والتساؤل المطروح الآن: هل سقطت مع هزيمة التنظيم آمال مريديه وثقتهم؟ هل انتهت صلاحية مشروع إقامة الدولة الإسلامية المزعوم، والذي وضعه التنظيم شعارًا واسمًا؟ هل هناك شعار جديد قادم، ومفهوم جاذب آخر يتمكن من خلاله التنظيم من العودة مجددًا؟.
جدل البقاء في مقابل التمدد
لا شك في أن صعود تنظيم داعش جاء محصلة العديد من العوامل، منها: استغلال حالة الاضطراب والفوضى التي سمحت له بالتمركز والسيطرة على الأرض في بعض المناطق واستغلالها كعامل جذب، بالإضافة إلى توظيف التكنولوجيا وامتلاكه آلة إعلامية متطورة، مع توافر الأموال، ووجود استراتيجية عسكرية مركزية، وفي النهاية وجود أيديولوجيا توظف كل ما سبق في خدمة أهداف التنظيم. وعلى الرغم من انهيار معظم عوامل الصعود تلك؛ إلا أن العامل الأهم والرئيسي فيها لا يزال باقيًا، وهو الأيديولوجيا، ويظل صمودها رهنًا بتعامل التنظيم مع تبعات الهزيمة وقدرته على إعادة بناء رسائله وأدواته، فقد تحدثت العديد من الرؤى عن فكرة “الخلافة الافتراضية” كبديل مؤقت للخلافة على الأرض، خاصة في ظل قدرة التنظيم على استغلال الفضاء الإلكتروني والتطبيقات المشفرة؛ إلا أن الأهمّ يتحدث عن مدى صلاحية فكرة البقاء والتمدد وإمكانية إعادة النظر فيها في الوقت الراهن. ودللت معظم تلك الرؤى على أن التمدد في الوقت الراهن غير وارد، وأقصى ما يمكن أن يقوم به التنظيم هو الاحتفاظ بما تبقى له من مكتسبات، ومحاولة البقاء في ظل تغير الواقع العالمي والإقليمي الذي سمح له بالتمدد، وهو ما يعني أن التنظيم باقٍ ولكن لن يتمدد في الوقت الراهن، ولكن عند النظر إلى سبب وجذور شعار “باقية وتتمدد” يتضح أنه شعار يطلق في وقت الهزيمة وليس في وقت النصر، ووجود التنظيم وسيطرته على الأرض في مناطق في العراق وسوريا لم يكن هو الهدف، ولكنه كان البداية، فشعار البقاء والتمدد لا يعني مجرد التوسع الجغرافي للحدود المادية للدولة المزعومة، ولكن يعني بقاء وتمدد مشروع الدولة. إذن، فمهوم الدولة لا يعني المفهوم المادي الملموس المحدود بحدود جغرافية، وبالتالي لن يسقط المفهوم ببساطة بفقدان النفوذ على مراكز ومناطق جغرافية بعينها.
بعد الهزيمة.. هل فقد داعش جاذبيته؟
لا شك في أن التنظيم قد هزم، ولكن الشك القائم الآن يتمثل في الطرق التي قد يتغلب بها التنظيم على تلك الهزيمة، وإمكانية وحدود البحث عن مصادر جديدة لإلهام مريديه وجذب موجة جديدة من الجهاديين للانضمام لصفوفه، والأهم الاحتفاظ بأنصاره. تتحدث العديد من التحليلات عن خطورة تكوين العائدين لخلايا متفرقة جديدة في بلدانهم الأصلية، والاعتماد على الدعاية الرقمية والتطبيقات المشفرة إلى أن يتمكن التنظيم من الوصول إلى مركز مادي وجغرافي محدد لنشاطه، فالحديث عن هزيمة داعش على الأرض لا يعني هزيمة الإرث الأيديولوجي له، ولا يعني انتهاء وجوده بوصفه تنظيمًا عابرًا للحدود، ويبقى هذا الإرث رهنًا بصورة التنظيم بعد الهزيمة، واستمراره كنموذج ملهم لمريديه، ومن هنا تأتي أهمية إيلاء الاهتمام بكيفية معالجة أنصار التنظيم لهزيمة داعش وتأثير هذه المعالجة على مستقبل التنظيم.
يستدعي هذا المدخل الحديث عن “سيكولوجيا التعامل مع الهزيمة” لدى التنظيمات الدينية المتطرفة بشكل عام، والتي بدت مؤشراتها بوضوح في رسائل التنظيم عقب الهزيمة، وردود فعل مريديه. في البداية لجأ التنظيم، وبالتبعية مريدوه، لتبني “خطاب الإنكار” الذي يتناول الحديث حول انهيار التنظيم وهزيمته بوصفه دعاية إعلامية مضللة. وبعد أن فرض الأمر الواقع نفسه عقب مقتل زعيم التنظيم أبي بكر البغدادي، خفتت العديد من شعارات التنظيم البارزة، وحلت محلها شعارات جديدة ولغة خطاب مختلفة، ليتم التقليل من أهمية السيطرة الملموسة على الأرض، ويتصاعد الحديث عن الهزائم بوصفها اختبارات لكشف المنافقين، بل إن هناك من يصف الهزيمة بكونها “عملية تطهير” لصفوف التنظيم تمهيدًا للنصر الكبير القادم، وخطاب التنظيم بأنه كلما اشتدت الهزيمة اقترب النصر، وتعود صعوبة التعامل مع هذه الرؤى ومحاربتها إلى لجوء معتنقيها لإعادة تفسير كل ما يدور بصورة تخدم أو تعزز شعورهم باليقين، حتى وإن كان في جوهرها تدلل على العكس.
وكما سبقت الإشارة، فإن داعش قد بنى صعوده على عدد من الركائز التي تروج لحلم الدولة الإسلامية، والحقيقة هي أن جاذبية تنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية تقوم بصورة رئيسية على لغته في الحديث الذي يقدم بدائل مباشرة ويقسم العالم بين أخيار وأشرار، قديسين وخطاة، حيث تقدم التنظيمات الإرهابية شعورًا باليقين لدى المهتزين والضائعين، وهذا المنظور يحمل جاذبية للشباب الذين يمرون بمراحل عمرية انتقالية، ويعانون من اضطراب في الشعور بالهوية. والحقيقة هي أن هذه الرسائل لا تتأثر بالهزيمة، بل ربما تتخذ صيغة أكثر تطرفًا، وتجعل معظم مؤيدي التنظيم يتجهون نحو إعادة صياغة وهيكلة لنظم أفكارهم ومعتقداتهم، وإعادة تفسير ما يدور في الواقع ليتوافق معها، ولكن في النهاية لا يمكن القول إن تنظيم داعش لا يزال جاذبًا كما كان من قبل، فلا شك في أن جاذبيته قد تراجعت بصورة كبيرة، ولكنها لم تنتهِ، ويظل صعودها وصمودها رهنًا بقدرة التنظيم على التكيف مع الهزيمة واستغلالها في صناعة أهداف جديدة لمريديه، تدفعهم نحو مواصلة التشبث بأحلام التنظيم وأفكاره، والحفاظ على ولائهم حياله، وهو ما يعني أنه على الرغم من الانتصار الذي تحقق في الحرب التكتيكية والعسكرية، إلا أن الحرب النفسية والأيديولوجيا لا تزال قائمة، ويظل الانتصار فيها رهنًا بإعادة النظر في خطط المواجهة الأيديولوجية، خاصة وأن التنظيم يعتمد اليوم على الولاء أكثر من اعتماده على الهيكل التنظيمي.