أحاديث المياه لن تتوقف في مصر، فالتحدى كبير ومستمر، والأمر لا يتعلق فقط بالسد الإثيوبى، ولكن هناك تغيرات فى مواقف دول نهر النيل الأخرى، بالإضافة إلى الزيادة التصاعدية فى أعداد السكان فى مصر، والتغيرات المناخية التى قد تؤدى إلى المزيد من الجفاف والتصحر، وارتفاع درجة الحرارة الذى سينتج عنه ارتفاع معدلات التبخر لمياه النيل، وزيادة الاحتياجات البشرية والزراعية للمياه، وكل ما سبق يوضح الحاجة لوضع رؤية شاملة ومتكاملة، ذات أبعاد دولية ومحلية، للتعامل مع هذا التحدى المائى.
أحدث حلقات الحديث حول قضية المياه، كانت جلسة مجلس الأمن الأخيرة بشأن السد الإثيوبى، والتى كانت كاشفة لمواقف الدول الأعضاء فى المجلس حول الموضوع. بعض المواقف التى تم التعبير عنها اقترب من الموقف المصرى، وبعضها الآخر اقترب من الموقف الإثيوبى، والبعض الآخر أمسك العصا من المنتصف، وغلبت لغة الدبلوماسية وليس لغة الحسم على خطاب معظم أعضاء المجلس، وهذا أمر معتاد فى العلاقات الدولية، التى تتبنى الدول مواقفها فيها استنادا إلى مصالحها الوطنية أولا، ثم يأتى بعد ذلك أى اعتبارات أخرى، مثل القانون الدولى أو العدالة أو التاريخ.
إذًا انتهت جلسة المجلس، وتستمر المداولات بشأن إمكانية إصدار قرار قد يساهم فى تحديد الخطوات القادمة بشأن هذا الملف، أو تكون خطوة الذهاب إلى مجلس الأمن فى إطار استنفاد الخيارات الدبلوماسية المتاحة.
وأيا كانت نتيجة جلسة مجلس الأمن فإن مصر سيكون عليها الاستمرار فى الجهود الخاصة بشرح وجهة نظرها للدول الأخرى وفى المنظمات الدولية.
ومن المهم أيضا استمرار مشاريع التعاون مع دول حوض النيل، واستخدام أدوات السياسة الخارجية المختلفة، ومنها الأدوات الاقتصادية والقوى الناعمة فى التفاعل مع هذه الدول، والتعاون لتقليل الفاقد فى مياه النيل وزيادة موارده المائية، وإعادة إحياء مشروع قناة جونجلى بالتعاون مع جنوب السودان، وغيره من المشاريع التى تستهدف زيادة موارد النهر، وبما يحقق المنفعة المشتركة لدول حوض النيل.
وبجانب هذا الجهد فى الأطر الرسمية، سوف يكون على المصريين التحرك بشكل أكبر فى المحافل الدولية غير الرسمية، ومنها مراكز الأبحاث والمؤتمرات العلمية، والنشر فى الدوريات الأكاديمية المتخصصة فى المياه. حيث تساهم هذه الآليات فى تشكيل رؤية صناع القرار والرأى العام فى موضوع المياه، وخاصة أنه يتضمن جوانب فنية بالإضافة للأبعاد السياسية والاستراتيجية. والواقع أن إثيوبيا وضعت خطة للتعامل مع هذه الساحة فى إطار خطتها الكبرى الخاصة بالسد. كما أدركت المؤسسات المصرية المعنية، مثل وزارة التعليم العالى وأكاديمية البحث العلمى، أهمية هذه الآليات، وتحركت فى إطارها، ولكننا نحتاج المزيد والمزيد من الجهد فى هذه الساحة، وهو أمر يتطلب المساندة والتنسيق مع العلماء المصريين المختصين فى الداخل والخارج، والتحرك المنظم والمدروس للتفاعل مع النخبة العلمية المتخصصة فى قضايا المياه على مستوى إفريقيا والعالم.
هذا الجهد الدولى، يحتاج بجانبه خطة تحرك داخلى لمواجهة التحديات المائية فى السنوات القادمة، والتى تتزامن مع الزيادة الكبيرة فى عدد السكان، وقد قدم علماء مصر مجموعة من التوصيات للتعامل مع هذا التحديات، ومن المهم أن تكون جزءا من استراتيجية كبرى للتعامل مع التحدى المائى على المستوى الداخلى.
ومن هذه التوصيات تبنى حملة ضخمة للحث على ترشيد الاستخدام الشخصى للمياه، والحد من الهدر فى شبكات المياه واستخداماتها فى القطاعات المختلفة، وتبنى سياسة زراعية تقوم على تعديل التركيب المحصولى، والتركيز على المحاصيل منخفضة الاستهلاك للمياه، واستخدام وسائل الزراعة والرى الحديثة، وربطها بتطبيقات التقدم التكنولوجى فى هذه المجالات، وإعادة تدوير واستخدام مياه الصرف الزراعى والصحى والصناعى، واستكمال المشروع القومى لتأهيل الترع.
والواقع أن الدولة المصرية بدأت بالفعل التحرك فى العديد من هذه المحاور، وهذا التحرك لا يعنى تنازلها عن حقوقها المائية فى نهر النيل، ولكننا نتعامل مع واقع جديد فى دول حوض النيل، وتغيرات سكانية ومناخية، سوف تجعل التحدى المائى واقعا وليس افتراضا بحثيا أو نظريا، وسيصبح من المهم إعطاء أولوية لدول حوض النيل فى سياستنا الخارجية، من حيث الموارد والقدرات البشرية، وسيكون على المصريين التعامل بشكل مختلف فى استهلاكهم للمياه.
باختصار، سوف يكون علينا جميعا، كدولة وشعب، التعامل مع هذا التحدى المائى، والتحرك داخليا وخارجيا لمواجهته، وتبنى السياسات والسلوكيات التى تحد من آثاره السلبية، وإعادة التفكير فى نموذج التنمية المصرية، بحيث يعتمد بشكل أساسى على الصناعة والخدمات لتحقق النمو، وخلق الثروة وفرص العمل.
حفظ الله مصر والمصريين
ــــــــــــــ