أعاد الصراع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان اهتمام العالم والدوائر السياسية والإعلامية بمنطقة بحر قزوين وجبال القوقاز التي تعد إحدى أهم مناطق الصراع المتجدد بين دول الإقليم وتلك التي لها مصالح وتسعى إلى نفوذ وهيمنة دائمة على ثروات المنطقة الغنية بالنفط والغاز؛ حيث دارت عجلة الحرب مجددًا وأعادت لواجهة الأحداث تاريخًا من الخلافات والصدامات العسكرية وتشابك المصالح والأطماع حتى إن العديد من التحليلات والتغطيات العالمية ركزت على دور وتدخلات قوى خارج دائرة الصراع المباشر، وراحت تركز على موسكو وأنقرة كعاصمتين طرفين أصيلين في الصراع الدائر حاليًّا، وعلى مواقف إيرانية وباكستانية وأوروبية وأمريكية وصينية في الكواليس، وهو الأمر الذي يدفع إلى إلقاء نظرة على ما تراكم من ملفات.
صراع يتجدد
يعد بحر قزوين أكبر مسطح مائي مغلق في العالم، وتبلغ مساحته 370 ألف كيلومتر مربع، ومن الدول المشاطئه للبحر (روسيا، إيران، أذربيجان، تركمانستان، كازاخستان)، تحده جبال البرز الإيرانية من الجنوب، والقوقاز من الشمال الغربي ويغذيه نهر الفولغا الروسي من الشمال ليشكل دلتا واسعة قرب أستراخان، وهو من أقدم مناطق إنتاج النفط في العالم، ويعود تاريخ حفر أول بئر لعام 1840. ولبحر قزوين مكانة خاصة في إمدادات الطاقة العالمية بما يقدر بنحو 48 مليار برميل من النفط الخام، وحوالي 4.76 تريليونات قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وتمتلك كازاخستان الحصة الأكبر من النفط بحوالي 31.2 مليار برميل، بينما تمتلك روسيا النسبة الأكبر من الغاز بنحو 3 تريليونات قدم مكعب[1].
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بدأ التنافس والصراع حول ثروات بحر قزوين بين الدول المستقلة، لا سيما في ظل ما يحتويه من ثروات هائلة من النفط والغاز الطبيعي، وكان النظام القانوني للملاحة في بحر قزوين وتنظيم استغلال ثرواته قبل تفكك الاتحاد السوفيتي ينظمه اتفاق 1921 بين الاتحاد السوفيتي وإيران، والذي ألغى القيود المفروضة على حرية الملاحة. واتفاق آخر عام 1940 خاص بتحديد المياه الإقليمية الخاصة بهما والانتفاع بثروات البحر.
وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي واستقلال الدول المطلة على بحر قزوين (أذربيجان، وكازاخستان، وتركمانستان)، طالبت الدول الثلاث بصياغة نظام قانوني جديد تتفق عليه الدول الخمس، ومن ثم أصبح هناك اتجاهان؛ الأول: يضم كلًا من روسيا وإيران وتركمانستان، ويدعو إلى اعتبار بحر قزوين حوضًا مائيًّا وبحيرة تتقاسم الدول المتشاطئة احتياطات النفط بها، وتحصل كل دولة بالتساوي على 20% من مساحتها وهو ما يخدم دولًا ذات إطلالة صغيرة على بحر قزوين مثل إيران، وتلتزم كل منها باتفاقيتي 1921، و1940.
الثاني: تدعمه كل من أذربيجان وكازاخستان، ويدعو إلى سريان قانون البحار على بحر قزوين واقتسام أجزائه المتشاطئة، واعتباره بحيرة حدودية مقسمة إلى خمسة أقسام، كل منها يمثل مياهًا إقليمية تتبع الدول الساحلية المطلة على البحيرة، ولها وحدها الحق في هذا الجزء من البحيرة، وترفض الالتزام بالاتفاقيات السابقة نظرًا لأنها تضمنت الملاحة وصيد الأسماك ولم تركز على استغلال الموارد الطبيعية[2].
ولحل الخلاف بين الدول المتشاطئة وقّعت الدول الخمس، في 12 أغسطس 2018، على اتفاقية الوضع القانوني لبحر قزوين، في محاولة للجمع بين وجهتي النظر الخاصة باعتباره بحرًا أو بحيرة من خلال النظر لسطح البحر كمياه دولية، وتقسيم أعماق البحر إلى مناطق وقطاعات إقليمية، ومنح الدول المطلة عليه حق مد أنابيب بحرية، واقتصار التواجد العسكري في البحر على قوات الدول التي تتقاسمه، وتحديد حصص سنوية لكل دولة من صيد سمك الحفش الذي ينتج الكافيار الفاخر[3].
وترجع دلالات عدم حسم الخلاف القانوني حول منطقة بحر قزوين إلى انشغال كل من إيران وروسيا بملفات أخرى، حيث العقوبات الأمريكية التي تواجه إيران فيما يتعلق ببرنامجها النووي، بالإضافة إلى انخراط روسيا في الملف السوري، إضافة إلى الصراع القائم بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناجورنو كاراباخ.
المصالح الروسية وصراع النفوذ
تُعد منطقة بحر قزوين مجالًا حيويًّا لروسيا فهى إحدى الدول المطلة عليه من الشمال، وفي ظل الخلاف القائم بين دول بحر قزوين حول كيفية تقسيم موارده، دخلت كل من الولايات المتحدة والصين على خط المنافسة على ثروات المنطقة، وأقامت علاقات مع الدول المطلة عليه في إطار عقود استغلال واستكشاف للثروات، بالإضافة إلى إنشاء أنابيب نقل وتطوير منشآت ملحقة مثل الموانئ والطرق البرية وحتى السكك الحديدية، وهو ما مثّل تهديدًا للنفوذ الروسي هناك.
لذا عملت روسيا على احتكار منظومة خطوط الأنابيب لتصدير النفط والغاز إلى الأسواق الخارجية. ولإحكام قبضتها أكثر على الدول المنتجة للنفط والغاز في آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين، اتفق رؤساء روسيا وكازاخستان وتركمانستان، في 12 مايو 2007، على مشروعين لبناء أنبوبي نقل غاز، ينطلق الأول من الحقول الشرقية لتركمانستان، والثاني مواز له ينقل الغاز عبر كازاخستان على طول بحر قزوين نحو روسيا لضمان نقل 20 مليار متر مكعب سنويًا، بدءًا من عام 2012. ويدخل هذان المشروعان في إطار توسيع أنبوب بريكاسبيسكي الذي يربط تركمانستان وكازاخستان بروسيا بهدف إفشال مخطط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لبناء أنبوب الغاز العابر لقزوين من أجل نقل الغاز التركماني والكازاخي عبر بحر قزوين إلى أنبوب نابوكو.
وتمثل منطقة بحر قزوين أهمية كبيرة في الفكر الاستراتيجي الأمريكي، فهي منطقة تضم منافسَيْن إقليميَّيْن للمشروعات الأمريكية هما روسيا وإيران، لذا تعارض واشنطن الجهود الروسية لتحقيق نفوذ في القوقاز وآسيا الوسطى من خلال سعي واشنطن لزيادة إمدادات الطاقة من آسيا الوسطى للمستهلكين في مختلف الأسواق، وحرمان إيران من استغلال وشحن وتطوير وتسويق منتجات الطاقة، ومنع أي دولة من احتكار الإمدادات النفطية في المنطقة، مع العمل على تطوير قدرة دول المنطقة على إنتاج وشحن النفط للخارج.
كما عملت الولايات المتحدة ضمن أهدافها الجيواستراتيجية على ضمان أن يصب معظم إنتاج آسيا الوسطى في الغرب، وحققت نجاحًا مع الانتهاء من خط أنابيب نفط باكو-تبيليسي-جيهان العابر لأذربيجان وجورجيا وتركيا والذي ينقل نفط أذربيجان على مسافة 1760 كلم إلى ميناء جيهان التركي شرقي البحر الأبيض المتوسط، وبدأ في مايو 2005. مع وضع أهداف مستقبلية لتطوير نشاط هذا الأنبوب لينقل غاز كازاخستان من أكتو عبر خط أنابيب تحت البحر والانتهاء من خط أنابيب غاز جنوب القوقاز عبر أذربيجان وأرمينيا، وتطوير ميناء جيهان التركي ليكون منفذًا رئيسيًّا إلى الأسواق العالمية للنفط الخام والغاز المسال[4].
وواجه خط باكو- تبيليسى –جيهان غضبًا روسيًّا لأنه أول خط أنابيب ينقل نفط قزوين دون الاعتماد على منظومة الأنابيب التي تسيطر عليها روسيا.
كما دخلت الصين على خط التنافس وأقامت علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع دول بحر قزوين كبديل للاحتكار الروسي ولمنافسة النفوذ الأمريكي، بالإضافة إلى تأمين إمداداتها النفطية، وتنويع مصادر الطاقة بعيدًا عن الشرق الأوسط، ومن ثم أقامت الصين عدة مشاريع أنابيب لنقل النفط والغاز منها أنبوب نقل النفط من كازاخستان نحو شينجيانغ الصينية وتصل القدرة التصديرية للأنبوب الممتد على مسافة أكثر من 3000 كلم إلى ما بين 800 ألف ومليون برميل من النفط يوميًا، وتم تجسيد المشروع عبر ثلاث مراحل، ووصل إلى طاقته القصوى عام 2011.
ودخلت الصين في محادثات مكثفة لبناء خطوط أنابيب أخرى، فاتفقت في أبريل 2007 مع كازاخستان لاستكمال أشغال بناء أنوب نقل الغاز الموازي لأنبوب نقل النفط في عام 2009، كما تم التوقيع في 14 أكتوبر في بكين على بروتوكول لإنشاء خط أنابيب آخر لنقل الغاز باسم خط أنابيب بينو-شيمكانت، ويضخ 10 مليارات قدم مكعب من الغاز الكازاخي للصين سنويًا.
ونجحت الصين في تجسيد مشروع أنبوب الغاز الرابط بينها وبين تركمانستان في 14 ديسمبر 2009، وينقل للصين ما بين 30 و40 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي، فأصبحت الصين شريكًا تجاريًا هامًا لكل من كازاخستان وتركمانستان، وخلال زيارة الرئيس “شي جين بينغ” إلى منطقة بحر قزوين في سبتمبر 2013 تم توقيع اتفاقيات في مجال الطاقة تقدر بنحو 60 مليار دولار.
مستقبل الصراع
يمكن الإشارة إلى سيناريوهين في إطار الصراع الأرميني الأذربيجاني؛ الأول: احتمالية توقف ضخ النفط الأذري لتركيا أثناء الصراع المتجدد بين أرمينيا وأذربيجان منذ 27 سبتمبر 2020، حيث تمثل الأخيرة بالنسبة لتركيا أهمية كبيرة، فهي ثاني أكبر موردي الغاز لتركيا بعد روسيا، وترتبط تركيا بأذربيجان من خلال ممر لنقل الغاز (تاناب) الذي يربط بين أذربيجان وأوروبا، ويبلغ طوله 3500 كم، ويساهم هذا الخط في تأمين احتياجاتها من الطاقة، بالإضافة إلى المساهمة في تأمين إمدادات الطاقة لأوروبا من خلال نقل 16 مليار متر مكعب من الغاز الأذري سنويًا، وفي حال توقف هذا الخط سوف تتجه تركيا إلى البحث عن مصادر بديلة وإيجاد موطئ قدم لها في منطقة شرق المتوسط للتنقيب عن الغاز.
الثاني: تهديد الصراع الأذربيجاني الأرميني في حال تصاعده لمشاريع نقل الطاقة المارة بالقوقاز ومنها خط باكو- تبليسي- جيهان الذي يبدأ من العاصمة الأذرية باكو على بحر قزوين ويمر بالعاصمة الجورجية تبليسي، وصولًا إلى ميناء جيهان التركي على ساحل البحر المتوسط ومنه إلى كل من إسرائيل وأوروبا[5]، حيث تستطيع أرمينيا تهديد خطوط أنابيب باكو – تبليسي – جيهان وخط باكو – تبليسي – سوسا حيث جزء من مسار هذه الخطوط على بعد أقل من 30 ميلًا من خطوط وقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان[6].
المصادر
[1].Qiuomars Yazdanpanah Dero (et al), “Global warming, environmental security and its geo-economic dimensions case study: Caspian Sea level changes on the balance of transit channels”, Journal of Environmental Health Science and Engineering, 04 June 2020, available at: accessed on 3 October 2020.
[2] هاشم كاظم، التنافس الدولي والإقليمي على ثروات بحر قزوين “، مجلة أبحاث ميثان، العدد الثالث،2006، متاح على الرابط: تاريخ الدخول 30 سبتمبر 2020.
[3] عبد القادر دندن، “حرب الأنابيب في آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين: الصراع الروسي الصيني-الأمريكي “مجلة قضايا آسيوية، العدد الثالث، يناير 2020، متاح على الرابط: تاريخ الدخول 1 أكتوبر 2020.
[4]عبد القادر دندن، “حرب الأنابيب في آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين: الصراع الروسي الصيني-الأمريكي”، مرجع سبق ذكره.
[5] “التصعيد الآذربيجانى-الأرمينى وأثره على قضايا الشرق الأوسط”، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية،1 أكتوبر 2020، متاح على الرابط: تاريخ الدخول 2 أكتوبر 2020.
[6] Agha Bayramov, Conflict, cooperation or competition in the Caspian Sea region: A critical review of the New Great Game paradigm, Taylor&Francis online, 11 June 2020, available at: accessed on 2 October 2020.