أثارت التصريحات الإسرائيلية حيال أن العملية البرية التي يتم تنفيذها في غضون هذه الساعات في جنوب لبنان –ستكون محدودة- حالة من المقارنة والإحالة الضرورية لحرب يوليو 2006 بين إسرائيل وحزب الله؛ في محاولة لقراءة أبعاد العملية الحالية وهل إذا ما كانت فعلًا لا تستهدف احتلال جنوب لبنان كما أفادت المصادر الإسرائيلية قياسًا على ما حدث في يوليو 2006 بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله. وفي هذا الإطار سوف يركز هذا المقال على ثلاثة محاور في محاولة لقراءة الصورة الحالية، وهي الأهداف الاستراتيجية للحرب، والاستراتيجيات المستخدمة، والظروف الإقليمية والدولية المحيطة بالحرب.
أولَا: الأهداف الاستراتيجية للحرب
- الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل:
نزع سلاح حزب الله: تشير المعلومات إلى أن الأهداف التي أرادت إسرائيل تحقيقها في حربها مع حزب الله خلال يوليو 2006 لا تختلف عما تحاول تل أبيب الوصول له الآن بإطلاقها عملية برية في الجنوب اللبناني؛ فالتهديد المباشر الذي يمثله وجود حزب الله على الحدود اللبنانية كان على الدوام عاملًا مؤرقًا لتل أبيب أرادت التخلص منه، وبالتالي يمثل الهدف الخاص بتفكيك القوة العسكرية لحزب الله ونزع سلاحه الهدف الأهم سواء لحرب يوليو أو للعملية الحالية؛ حتى تضمن إسرائيل ألا يشكل حزب الله تهديدًا لها مرة أخرى.
تحرير الجنود الإسرائيليين: مثل هذا هدفًا مهمًا لإسرائيل لاستعادة جزء من صورتها بعد إقدام حزب الله على اختطاف جنديين من القوات الإسرائيلية في 2006. وفي ذلك التوقيت رفضت تل أبيب أن تقوم بمبادلتهم بأسرى لبنانيين لديها وأصرت على تحريرهم بعملية عسكرية.
إبعاد حزب الله عن الحدود مع إسرائيل: يمثل ذلك الهدف هدفًا استراتيجيًا لإسرائيل، ففي حرب 2006 كان الهدف وقتها هو تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1559، حيث كانت هناك حالة من الإدراك في ذلك الوقت أنه لا توجد أي جهة داخل لبنان قادرة على تطبيق القرار الذي نص على انسحاب جميع القوات الأجنبية المتبقية في لبنان، وحل جميع الميلشيات اللبنانية ونزع سلاحها، وبسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانية. وهو تقريبًا نفس الهدف الذي تريد إسرائيل الوصول إليه من خلال العملية البرية التي تنفذها الآن في الجنوب اللبناني، ولكن من بوابة تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي صدر عام 2006 ودعا إلى انتشار الجيش اللبناني في الجنوب بالتعاون مع قوات اليونيفيل تزامنًا مع الانسحاب الإسرائيلي إلى ما وراء الخط الأزرق وإيجاد منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني تكون خالية من أيّ مسلّحين ومعدات حربية وأسلحة عدا تلك التابعة للقوات المسلحة اللبنانية وقوات اليونيفيل، فضلًا عن تطبيق بنود اتفاق الطائف والقرارين 1559 و1680 بما في ذلك تجريد كل الجماعات المسلحة اللبنانية من سلاحها وعدم وجود قوات أجنبية إلا بموافقة الحكومة اللبنانية.
- الأهداف الاستراتيجية لحزب الله:
على الرغم من أن حرب يوليو 2006 كانت قد بدأت فعليًا في الحادي العشر من نفس الشهر بعد اختطاف جنديين إسرائيليين إلا أنه يمكن اعتبار هذه العملية مسندة إلى أهداف أكثر عمومية:
مثلت العملية محاولة ضمن خطة أوسع تابعة لما عرف وقتها بمحور الممانعة والذي ركز بشكل أساسي على مناوءة الولايات المتحدة والقوى الدولية التي تريد فرض واقعًا يخدم مصالحها في الشرق الأوسط من وجهة نظر الدول الأعضاء في هذا المحور وعلى رأسهم سوريا وإيران. وبطبيعة الحال كان السلام مع إسرائيل بندًا مستبعدًا لدى هذا المحور بأي شكل من الأشكال وبالتبعية كل ما يمكن أن يؤدي إليه من تنفيذ قرارات أممية قد تدعم هذا الاتجاه. وبالتالي لم يكن أمام حزب الله هدف استراتيجي مهم من عملية اختطاف الجنود الإسرائيليين التي أشعلت الحرب خلال عام 2006 وهو ما دعا حسن نصر الله كأمين عام للحزب للاعتذار عنها لأنه لم يكن يعلم أن اختطاف الجنديين قد يؤدي إلى حرب مع إسرائيل تتجاوز مدتها شهر كامل وبطبيعة الحال فإنه من الصعب على أي زعيم سياسي أو ديني أن يعتذر عن حرب خصوصًا إذا ما كان المتسبب في اشتعالها وقد أدت إلى مقتل 1200 لبناني مقابل 165 إسرائيلي إلا إذا كانت هذه الحرب بدون هدف خاصة أن إسرائيل كانت قد انسحبت بالفعل من الجنوب اللبناني خلال عام 2000.
وهو ما ينقلنا للحديث عن الهدف الاستراتيجي من انخراط حزب الله في إسناد الفصائل الفلسطينية في غزة في مواجهة العدوان الإسرائيلي بقرار من حسن نصر الله خلال الثامن من أكتوبر الماضي، والذي تمثل في تشكيل جبهة إسناد لحركة حماس في غزة ومساعدتها في حربها ضد إسرائيل ولذلك فقد تم الربط المباشر بين مشاركة قوات حزب الله في هذه الحرب وبين وقف إسرائيل لإطلاق النار في غزة تطبيقًا لما يعرف بوحدة الساحات.
وبناء على ما تقدم فإن إسرائيل امتلكت أهدافًا أكثر وضوحًا خلال حرب 2006 ولا تزال تصر على تطبيق نفس الأهداف من خلال العملية البرية الحالية، في الوقت الذي لم يمتلك فيه حزب الله مبررًا منطقيًا لتسببه في إشعال حرب 2006 إلا كونه يشكل جزءًا مما أطلق عليه في وقتها محور الممانعة. وقد كان هدفه في الحرب الجارية مستمدًا كذلك من نفس المبدأ بتشكيل جبهة إسناد لحركة حماس في حرب غزة. ولكنه كان أكثر وضوحًا عندما ربط توقف الحزب عن إطلاق الصواريخ على مستوطنات الشمال بوقف إسرائيل لإطلاق النار في غزة، وهو ما ينقلنا إلى قراءة في طبيعة الاستراتيجيات التي استخدمها كل طرف لتحقيق أهدافه سواء من حرب 2006 أو من خلال العمليات العسكرية الحالية.
ثانيًا: الاستراتيجيات التي وظفتها الأطراف في الحرب:
- الاستراتيجيات الموظفة من قبل إسرائيل:
- حرب 2006
تشير المعلومات إلى أن إسرائيل تفاجأت بعملية اختطاف جنودها في عام 2006 وقد وجدت نفسها مجبرة على الرد في إطار استعادة قدرتها على الردع، وبالتالي فهي لم تمتلك بالفعل الوقت الكافي للاستعداد لهذه الحرب على النحو المطلوب. وحسب المصادر، فإن عدد الألوية التي كانت متوفرة للانخراط الفوري لم يتجاوز الخمسة ألوية، ولكنها على الرغم من ذلك كانت معتادة على القيام بأعمال اعتيادية منها مكافحة التمرد في أراضي الضفة الغربية المحتلة؛ بمعنى أنها لم تكن معتادة على الحروب.
ومن هنا فقد اعتمدت إسرائيل خلال حرب 2006 على قواتها البحرية بشكل كبير، وذلك عن طريق قصف الساحل اللبناني وفرض حصار يقطع التواصل بين لبنان والعالم. ولكن تعرضت إحدى السفن الإسرائيلية لإصابة مباشرة من صاروخ أرض- بحر إيراني الصنع وتم إلحاق الضرر بالسفينة وبالجنود على متنها وهي الحادثة التي صبت مباشرة في خانة الدعاية لحزب الله.
ومثل سلاح الجو الإسرائيلي الأساس الذي اعتمدت عليه إسرائيل خلال حربها على حزب الله في عام 2006 وكان سلاح الجو متميزًا في ذلك الوقت بعد أن أمضى سنوات في التدريب حتى في الأجواء اللبنانية قبل الانسحاب في عام 2000 كما أنه كان مزودًا بأفضل الذخائر الموجهة بدقة فضلًا عن تجهيزات القيادة والسيطرة والاتصالات. وقد اعتمدت إسرائيل على سلاح الجو في بدء الحملة عن طريق البدء في ضربات موجهة لتدمير أغلب منصات الصواريخ متوسطة المدى التابعة لحزب الله وذلك في خلال 48 ساعة كما تم استهداف المقر المركزي لحزب الله ومنظومة اتصالاته وتدمير جزء كبير من الضاحية الجنوبية في بيروت.
وتدريجيًا، تراجعت حالة التميز لسلاح الجو الإسرائيلي في حرب 2006، ولم تنجح الغارات التي تم تنفيذها عن طريق طائرات هيلوكوبتر في تحقيق أهدافها المتوقعة والمرصودة من اغتيال كبار القادة في صفوف حزب الله، ولكنها نجحت في استهداف البنية التحتية في لبنان وتدمير الطرق والجسور. ولكن أمام كل هذا لم تنجح إسرائيل في إيقاف وابل الصواريخ قصيرة المدى التي أطلقها حزب الله على مستوطنات الشمال، مما تسبب في نزوح مئات الآلاف من المستوطنين وشل ثلث البلاد بالكامل.
- العمليات الجارية
تبدو الاستراتيجيات التي تنفذها إسرائيل خلال التوقيت الحالي أكثر تنسيقًا وجاهزية من تلك التي استُخدمت في حرب 2006؛ نظرًا لغياب عنصر المفاجأة، حيث قامت تل أبيب بالتخطيط لما يحدث على الأراضي اللبنانية الآن على أقل تقدير منذ عام عندما انخرط حزب الله في حرب غزة، كما أن التقارير تشير إلى أن عملية تفجير أجهزة “البيجر” واللاسلكي التي وقعت في 17 و18 سبتمبر 2024 كان مخططًا لها منذ سنوات.
وقبل شروع إسرائيل في العملية البرية في الجنوب اللبناني تفرغت بعض الشيء من جبهة غزة من خلال تفكيك أكثر القدرات العسكرية لحركة حماس. وعن طريق عدد من علميات الاغتيال المبنية على تخطيط استخباراتي ناجح، استطاعت إسرائيل اختبار رد الفعل على مستوى حزب الله أكثر من مرة، بدءًا من اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية، وحتى اغتيال القائدين بحزب الله فؤاد شكر وإبراهيم عقيل. ومن خلال هذه العمليات إضافة لعملية تفجير القنصلية الإيرانية في دمشق في 1 أبريل 2024 تأكدت تل أبيب من حدود انخراط حزب الله في الدفاع عن المصالح الإيرانية وكذلك حدود التدخل الإيراني في الدفاع عن ذراعها الأطول حزب الله وهو ما طمأنها للمزيد من التصعيد.
تبنت إسرائيل قبل تنفيذ عمليتها البرية في لبنان في الساعات الأولى من صباح اليوم استراتيجية مشابهة لما فعلته في 2006 وإن كانت بطرق أكثر اتقانًا، فسلاح الجو الإسرائيلي وعلى مدى أيام وأسابيع استهدف منصات الصواريخ التابعة لحزب الله، والأكثر من ذلك أنه قام باستهداف المستودعات مباشرة مما قلل من قدرات الحزب العسكرية وإن كان ليس بالحجم الذي يسمح بتفكيك هذه القوة.
ومن ناحية أخرى فقد حيدت إسرائيل عددًا من عناصر الحزب خلال التفجيرات التي استهدفت أجهزة “البيجر” صحيح أنه رقم لا يقلل من قوة الحزب البشرية ولكنه يؤثر على العامل النفسي بشكل كبير لأنه يشير إلى حجم الاختراق وغياب الثقة ليس بين عناصر الحزب فقط ولكن حتى على مستوى القيادات. وعلاوة على ذلك قامت تل أبيب باستهداف معامل أسلحة إيرانية في سوريا تورد إنتاجها لحزب الله واستهداف شحنات الأسلحة القادمة من إيران أيضًا وبذلك ضمنت إسرائيل أن القوة العسكرية التي سوف تدمرها لحزب الله لن يكون قادرًا على إعادة تشكليها في المستقبل القريب.
الاختلاف الأكبر في الاستراتيجية الإسرائيلية كذلك بين حرب 2006 والعملية البرية في عام 2024 أن تل أبيب اعتقدت في 2006 أنها قادرة على تنفيذ أهدافها وتلقين درس لحزب الله من خلال الاعتماد على سلاح الجو فقط، وهو ما فسر في ذلك التوقيت ورغم ضخامة الأهداف الإسرائيلية إرسال ثلاثة ألوية فقط فيما تم ترك لواءين في غزة والضفة الغربية. ومع الوقت أدركوا أن هذه الأعداد ربما لا تكون كافية فضلًا عن سوء الأداء اللوجستي داخل الجيش الإسرائيلي الأمر الذي أدى للتأثير على أداء أفراده. ورغم أن عدد الدبابات الإسرائيلية المحتشدة تراوح بين 500 إلى 600 دبابة إلا أنها لم تحاول مهاجمة حزب الله من اتجاهات غير متوقعة بل أنها مثلت هدفًا لقوات الرضوان. ويضاف إلى ذلك حالة التضارب في الأوامر التي تلقاها الجنود وصعوبة البيئة التضاريسية المحيطة بهم.
ما يبدو حتى الآن أن الاستراتيجيات متطابقة إلى حد كبير مع إضافة الخبرات التي تراكمت لدى الإسرائيليين إضافة للدروس التي تعلموها من حرب 2006، وفي العملية البرية الحالية فقد أعلن الجيش الإسرائيلي أن قوات من المظليين والكوماندوز والاحتياط تشارك في العملية البرية بقيادة الفرقة العسكرية 98 والتي بدأت تنفيذ عمليات “موجهة ومحددة” في جنوبي لبنان والتي تحتوي على عدد كبير من ألوية الكوماندوز والمظليين إلا أن هذه القوات أقل من القوات التي شاركت في معارك مخيم جباليا في غزة مطلع العام ومعركة خانيونس في العام الماضي، والتي وصل عدد الألوية العسكرية الإسرائيلية المشاركة فيها إلى 11 لواء . فعدد الألوية المشاركة في العملية البرية في لبنان حتى الآن هي لواء واحد ولكن هذا لا يمنع أن الجيش الإسرائيلي سيقوم بإرسال المزيد من الأولية مع تطور العمليات، ولذلك من الصعب إصدار حكم في التوقيت الحالي عما إذا كانت العملية الإسرائيلية البرية محدودة أو لا تستهدف احتلال جنوب لبنان.
- الاستراتيجيات الموظفة من قبل حزب الله:
- حرب 2006
اعتمد حزب الله في استراتيجيته القتالية خلال عام 2006 على الجاهزية المسبقة وعند قيام جيش الاحتلال بالتوغل بالفعل عبر عملية إنزال جوي في بلدة الغندورية بقضاء بنت جبيل جنوبي لبنان، كان حزب الله جاهزًا بشكل مسبق، وزرع المنطقة بالكامل بالألغام والعبوات الناسفة، إضافة إلى تحصن مقاتليه بين أشجار الزيتون في البلدة.
وعندما عمدت قوات الاحتلال إلى العبور من “الطريق العام” لم يكن هذا مجرد نزهة، فقد كان كمين النار الذي أعده حزب الله حول وادي الحجير مكتملًا. وحينما كان اللواء النخبوي 401 يشق طريقه باتجاه وادي الحجير، كانت المدرعات تتهاوى، وعلى رأسها ميركافا 4. وإجمالًا استطاعت قوات الحزب تدمير 50 دبابة إسرائيلية خلال نحو 5 أسابيع من الحرب، واستهداف بارجة حربية، وطالت صواريخه مواقع جديدة في إسرائيل.
- العمليات الجارية
أما ما اعتمد عليه حزب الله في التصعيد منذ أكتوبر الماضي استند بشكل كبير إلى السياق الذي أفرزته حرب يوليو 2006؛ حيث اعتمد على ضرب أهداف في المستوطنات الشمالية من طول الحدود التي يبلغ مداها حوالي 120 كلم مع وصولها في بعض التوقيتات إلى حالة من حالات التصعيد المحسوب التي بلغ أقصى حد لها استهداف مبنى الموساد الإسرائيلي في تل أبيب.
ويبدو أن حزب الله قد حافظ على ذلك؛ للإبقاء على حالة التوازنات السياسية في الداخل اللبناني، وعدم إثارة اللغط حول أدواره التي تنتهك سيادة الدولة اللبنانية، فضلًا عن القلق من جر لبنان إلى حرب شاملة. ولكن الغريب في هذه الاستراتيجية أن حزب الله قد ظل ملتزمًا بها حتى بعد اغتيال قياداته العليا وصولًا إلى الأمين العام للحزب حسن نصر الله، ولم تظهر الصواريخ الدقيقة والعمليات النوعية المختلفة التي قيل إن حزب الله قادر على تنفيذها في قلب إسرائيل.
في الخلاصة، فإنه لا يزال من المبكر الحكم على استراتيجية حزب الله في مواجهة العملية البرية المحدودة التي أطلقتها إسرائيل اليوم؛ أولًا لأنها لا تزال محدودة من حيث عدد الألوية والآليات المشاركة؛ وثانيًا لأنه لم يحدث اشتباك حتى التوقيت الحالي. ولكن بتقييم عام فإن إسرائيل طبقت نفس الاستراتيجيات التي طبقتها في 2006 مع إدخال تعديلات مؤثرة عليها نتيجة للخبرات التي اكتسبتها من حرب 2006. وعلى الناحية الأخرى، لا يوجد تطور في الاستراتيجيات التي استند إليها حزب الله؛ حيث بقيت نفس المناطق المستهدفة في إسرائيل وهي مستوطنات الشمال حتى ولو توسعت لتصل إلى تل أبيب وحيفا ولكنها لم تتسبب في أضرار جسيمة لإسرائيل. ولم يتمكن الحزب كذلك على سبيل المثال من تنفيذ عمليات مؤثرة داخل إسرائيل واغتيال شخصيات مهمة، وهو ما يوحي بأن حزب الله أخطأ في تقدير رد الفعل الإسرائيلي واعتقد أن التأخر في الذهاب لخيار التصعيد يعني أنه لن يحدث، وحتى عندما هددت إسرائيل سواء عن طريق المبعوث الأمريكي أو مباشرة بأنه إذا لم يتم تطبيق القرار 1701 والتراجع على الحدود فإنها سوف تصعد على جبهة الشمال، لم تؤخذ هذه التحذيرات بجدية وهو ما أفضى في النهاية إلى عدم جاهزية وعدم استعداد.
ثالثًا) الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بالحرب:
تشير الأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة بحزب الله وإسرائيل إلى تغير جذري في السياقات التي اندلعت خلالها حرب 2006 عن السياقات المصاحبة للعمليات الجارية؛ فقد استطاعت إسرائيل في التوقيت الحالي الحصول على الدعم الدولي المطلوب لتنفيذ عملية برية ضد حزب الله في لبنان، وحصلت على الدعم الأهم من الولايات المتحدة التي ترى أن تل أبيب من حقها الدفاع عن نفسها، كما أنها عرضت بالفعل الخيار التفاوضي بعد مرور عام من استهداف حزب الله لمستوطنات الشمال كجبهة الإسناد الأهم لحركة حماس وبالتالي فقد تم استنفاد الحلول الدبلوماسية.
من ناحية أخرى، لا تعارض الولايات المتحدة القضاء على حسن نصر الله أو تفكيك البنية العسكرية لحزب الله ونزع سلاحه والكثير من الدول تصنف حزب الله كمنظمة إرهابية ومنها الولايات المتحدة وهو ما يمثل نفس الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة خلال حرب يوليو 2006 من نزع سلاح الحزب والقضاء على دوره كمنظمة عسكرية فضلًا عن القضاء على دوره السياسي.
على المستوى الإقليمي، تقف كل الدول مؤيدة لسيادة لبنان والحفاظ على سلامة المدنيين مع الأخذ بالاعتبار خروج بعض القوى الإقليمية من معادلة الممانعة ضد إسرائيل والولايات المتحدة وعلى رأسها سوريا التي لا تزال مستهدفة على الرغم من ذلك على خلفية وجود ميليشيات إيرانية فيها واحتمال نقل مقاتلين تابعين لحزب الله من أراضيها إلى الأراضي اللبنانية عن طريق الأنفاق التي أقامها حزب الله على الحدود بين البلدين خلال فترة الحرب الأهلية في سوريا.
ونبقى في المستوى الإقليمي حيث تبدو إيران في أضعف حالاتها على الصعيدين الداخلي والخارجي بعد مقتل رئيسها إبراهيم رئيسي حادث طائرة وإجرائها لانتخابات شهدت أقل نسبة مشاركة وتعرض قنصليتها في دمشق للتفجير واغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على أراضيها، وكل ذلك مر دون رد يذكر من قبل إيران؛ إما لعدم القدرة أو لعدم الرغبة.
بالمثل فإن جميع جبهات الإسناد يتم استهدافها في العراق وسوريا واليمن دون أن تحدث ضرباتها ضد إسرائيل حتى الآن تأثيرًا موجعًا -رغم كثافة الاستهداف وتجاوز بعض الصواريخ والطائرات المسيرة الدفاعات الجوية الإسرائيلية ووصولها إلى قلب تل أبيب- وهو ما وضع تساؤلات كبيرة حول قوة إيران ووكلائها ومدى نجاح المشروع الإيراني.
وخلال عام 2006 لم تكن هذه هي البيئة المحيطة بما يعرف بمحور المقاومة أو الممانعة. وعلى العكس من وضع حماس خلال عام 2006 بعد نجاحها في الانتخابات التشريعية، أصبحت حركة حماس اليوم في مواجهة تحديات هائلة بعد ما يقرب من العام من الحرب، أثرت بشكل حاد على قدراتها العسكرية والسياسية.
وعلى صعيد حزب الله نفسه، فإن أكبر تغير في السياق هو أنه سيدخل إلى العملية البرية إذا ما قرر الاشتباك فاقدًا لأمينه العام المستمر على مدى ما يزيد عن 32 عامًا ولقياداته واتصالاته والكثير من أسلحته بل وحتى للثقة بين عناصره؛ نتيجة لحجم الاختراق الاستخباراتي غير المسبوق الذي تعرض له وحالة من الاضطراب السياسي في لبنان الذي لم يستطع حتى الآن انتخاب رئيس جمهورية أو تعيين رئيس حكومة، فضلًا عن حالة التراجع الاقتصادي التي قد تزعزع استقراره وسيادته أمام أية حرب حتى وإن كانت محدودة.