في أدبيات تفسير الحراكات الشعبية، والتي توصف أحياناً بالربيع، مجموعتان من الأسباب، الأولى اقتصادية تتعلق بالتضييق الاقتصادي والحرمان واتساع دائرة الفقر وعدم الرضا عن مستوى المعيشة، والثانية سياسية تتعلق بامتداد الاستبداد وخنق الحريات وضعف المشاركة والسيطرة الجامحة على المجتمع المدني. وحين تجتمع المجموعتان معاً يصبح الوضع الشعبي مؤهلاً للانفجار بصورة طبيعية وليست مفتعلة. ربما تستغلها لاحقاً أطراف خارجية لأسباب تتعلق بمصالحها الخاصة، ولكن تظل الدوافع والعوامل البنية الداخلية هي الأساس في أي حراك جماهيري.
النظم التي تتمتع بالكفاءة والفاعلية والقدرة على توقع الأزمات والمرونة في التحرك هي التي تعالج تلك الأسباب أولاً بأول، وتقر الإصلاحات المطلوبة، ومن ثم تقيد عملية الانفجار وتسحب البساط من تحت أقدامها وتحول دون حدوثها. النظم الأخرى التي تفقد الصلة بالواقع وتنكر المسؤوليات الذاتية وراء حالة التراجع في أحوال الناس وتلقي العبء على أسباب خارجية ومؤامرات تستهدف البلد، تكون مؤهلة لمواجهة الخيارات الصعبة، وتصبح أكثر هشاشة وأكثر قابلية لأكثر من ربيع حار وشتاء حالك. الوضع في تركيا لا يختلف عن أوضاع أي بلد آخر. فالشعوب تتعلم من بعضها، والخبرات باتت متاحة أمام الجميع، بدءاً من التحفيز والحشد والتعبئة المعنوية والسياسية والنزول إلى الشوارع ورفع مطالب تلو أخرى وبوادر صدام بين المؤسسات بين الأمنية والناس المتمردين على أوضاع السوء والتردي.
الرئيس إردوغان لا يرى في الأزمات الاقتصادية والسياسية لبلاده التي تتزايد يوماً بعد آخر سوى أنها مؤامرة خارجية على تركيا وعليه شخصياً، وأن الهدف هو إسقاط حكمه وإفشال تجربته، مضيفاً أن وعي الشعب وتأييده لسياساته سوف يُفشل هذه المؤامرات الخارجية. تصريحه الأخير، الجمعة الماضي، هو الأكثر وضوحاً حول وجود من يحلم بربيع تركي، ووصفه لهؤلاء الحالمين المفترضين أنهم واهمون، يعني أن إشارات عدم الاستقرار الداخلي باتت مقلقة له شخصياً. وصفه أيضاً بأن الذين حركوا ربيع بعض الدول وحولوها إلى شتاء حالك يعكس انفصام شخصية على أعلى مستوى، فهو أحد الذين تدخلوا في بلدان كسوريا والعراق وليبيا شهدت توتراً شعبياً في بداياته، وأسهم بتدخلاته السياسية والدعائية والعسكرية في تحويل هذا الربيع إلى شتاء حالك ما زالت شعوب تلك البلدان تعاني منه معاناة كبرى. كما أن انتماءه إلى جماعة الإخوان المسلمين وتبني مواقفهم السلبية تجاه شعوب ودول أخرى، دفعه إلى التورط في مغامرات سياسية فاشلة أفقدته علاقات كانت قوية بين بلاده ودول مهمة في المنطقة، مما أسهم في عزلته وضيق مجال الحركة أمامه. تحولاته السياسية من النقيض إلى النقيض بشأن سوريا والدورين الإيراني والروسي، وضع قيوداً على تحالفاته التاريخية، وأثار مشكلات كبرى تتطلب خيارات مستقيمة وليست معوجة.
لكن إردوغان لا يعترف بالمسؤولية الذاتية عن أخطائه الكبرى في حق الشعب التركي ولا في حق الشعوب الأخرى، ويتحدث عن مسؤولين أو محركين لأحداث وكأنه لا يعرفهم ولم يشاركهم الأفعال الضارة، وموقفه من دعم تنظيم «داعش» والتعامل معه أثناء هيمنته على أراضٍ سورية وعراقية ليس سراً.
رؤية إردوغان تطرح أزمات بلاده مع الولايات المتحدة كأساس للمشكلات التي تعصف بالوضع الداخلي، دون أن يفصح عن ذلك صراحة. معتبراً أن هناك من لا يحترمون احتياجات بلاده الدفاعية ويهددون بفرض عقوبات، من وجهة نظره لن تنجح لأن تركيا ليست الشرق الأوسط ولا البلقان ولا أميركا الجنوبية. تركيا حسب إردوغان حالة تاريخية خاصة لا تنطبق عليها الأطر والقواعد الحاكمة لحركة الشعوب والنظم والدول. وهكذا قال كل من أطاح به ربيع بلاده.
أما الاحتياجات الدفاعية لتركيا فمقصود بها صفقة منظومة الصواريخ المضادة للطائرات والصواريخ والمعروفة باسم «إس 400» الروسية المنشأ، والحصول عليها يناقض التزامات تركيا تجاه حلف الناتو، والمسؤولون الأتراك جميعاً يدركون ذلك جيداً، وفي الآن نفسه يبررون الأمر باعتباره قراراً سيادياً، وأنها صفقة لا يمكن التنازل عنها. في التقارير والدراسات الصادرة عن حلف الناتو تأكيدات بأن امتلاك تركيا هذه المنظومة الروسية وفي الوقت نفسه المشاركة في خطط الحلف الدفاعية والحصول على أحدث الأسلحة الأميركية، لا سيما الطائرة «إف 35». وهي الأحدث في الترسانة الجوية الأميركية والمقدر أن تكون الطائرة المعيارية للحلف لمدة عقدين على الأقل، يمثل خطراً كبيراً على قدرات الحلف الدفاعية، إذ يتصور مخططو الحلف أن روسيا سيكون لديها إمكانية عبر تركيا في الحصول على أسرار تلك الطائرة الأحدث، إذا استقرت في قواعد تركية، ومن ثم التمكن من وضع خطط دفاعية تفسد إمكانياتها القتالية، مما يضعف منظومة الناتو الدفاعية، وهو ما لا يمكن السماح به.
تركيا ترفض مثل هذه التحليلات ولكنها لا تقدم الضمانات الكافية التي تقنع الناتو والولايات المتحدة بإمكانية إمساك العصا من المنتصف، أي الحصول على منظومة «إس 400» وطائرة «إف 35» معاً. وليس على تركيا سوى حسم الأمر إما الانتماء للناتو أو التحالف مع أبرز أعدائه الرسميين. أما البقاء في المعسكرين فمن الصعب قبوله، وفي كل الأحوال لا بد من ثمن تدفعه السياسة التركية. صحيح أن أنقرة أكدت عدم نيتها عدم الخروج من الناتو، لكن النوايا وحدها غير مقنعة بالنسبة لواشنطن.
أما العقوبات فواضح أنها تخص سياسة واشنطن بمنع إيران من بيع نفطها وتصفير العوائد الناتجة عنه، ومن يخالف فعليه أن يتوقع فرض عقوبات عليه. احتياجات تركيا من الطاقة النفط والغاز الإيراني تصل إلى 27 في المائة من إجمالي الاستهلاك. ووقف تلك الإمدادات من شأنه أن يُربك الأداء الاقتصادي التركي بشدة. طوال فترة السماح التي وفرتها الولايات المتحدة للدول التي منحت استثناءات مؤقتة ومنهم تركيا، لم تُستغل في البحث عن بدائل أخرى، وظل الأمر لدى أنقرة على حاله استناداً إلى وهم القدرة بإقناع إدارة ترمب باستثناء دائم. فقدان القدرة على إدراك السياسة الأميركية وإصرارها على تحقيق أهدافها المعلنة بشأن تصعيد الضغوط الاقتصادية على إيران، يعني أن صانعي السياسة التركية يعيشون في واقع خاص بهم لا علاقة له بالواقع الفعلي. هذا الانفصام السياسي من شأنه أن يجلب ضغوطاً معلنة ويتم الحديث عنها صراحة في أروقة الإدارة والكونغرس الأميركي، ولن تمثل مفاجأة بأي حال. وبالتالي لا علاقة لها بالمؤامرات التي يلمح إليها الرئيس إردوغان، بل علاقتها الرئيسية بفقدان البوصلة السياسية وعدم قراءة المعايير الحاكمة لسياسة الرئيس ترمب، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا.
*نقلا عن صحيفة “الشرق الأوسط”، نشر بتاريخ ٧ مايو ٢٠١٩.