مدينة نيويورك تعد فى مخيلة الكثيرين، عاصمة العالم، وهى أقرب فعلياً لهذا التوصيف، بالنظر إلى ما يجرى فيها من أحداث على مدار العام، من السياسة والاقتصاد والثقافة والموضة، ناهيك عن عدد الجنسيات التى انصهرت داخل تلافيف تلك المدينة الهادرة. ليس المقصود زوارها؛ هنا نحن نتحدث عن قاطنيها والعاملين فيها، فلا توجد مدينة تنافسها فى النسيج العريض من أصحاب الجنسيات الذين يعيشون فيها جنباً إلى جنب، رغم حدة الاختلاف أحياناً. من هنا اكتسبت تلك الصفة الجامعة التى بُنيت عليها سمعتها منذ عقود، اليوم هذه العاصمة فى محنة قاسية لم تكن فى حسبان أكبر المتشائمين، فعلى بُعد أمتار معدودة من مبنى الأمم المتحدة، القابع كمقر لإدارة العالم على أراضى تلك المدينة، ضربت جائحة فيروس «كورونا» هيبة تلك العاصمة فى الصميم!
وقف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب السبت الماضى، ليعلن وسط «ذهول» شعور الصدمة، مدينة نيويورك رسمياً منطقة كوارث، بسبب فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) الذى تحول إلى وباء عالمى. بدا ترامب وهو يحاول صرف أذهان المتابعين، بإعلان اتفاقيات لغلق الحدود مع كل من كندا والمكسيك، لكن أحداً لم ينصرف ذهنه عن رعب إصابة أكثر من (25 ألف شخص) فى الولايات المتحدة، وقت كان يتحدّث الرئيس الأمريكى. لنيويورك وحدها نصيب تجاوز الـ«10 آلاف إصابة»، فيما يتصاعد الرقم الكبير كل ساعة تقريباً، مما يرشّحه للوصول إلى مستويات أخرى حينما يحين توقيت نشر هذا المقال، صباح الثلاثاء. فتلك الإعلانات جرت تقريباً خلال ساعات لم تتجاوز الثلاثة أيام، قبلها كان المشهد لا يزال يتخبّط فى فلك خطط المجابهة ومنع الانتشار، فإذا بالعاصمة غير الرسمية تترنّح لتدخل سريعاً إلى مربع الكوارث، تتبعها التساؤلات على منحى مغاير تماماً، يمس طابع المدينة المعولم بامتياز، فهل عُدّ ذلك نكبة المدينة، الذى دفعها خلال ساعات إلى هذا المصير؟
فى السبت ذاته الذى أعلن فيه عن تلك الكارثة الصحية، كانت صحيفة «واشنطن بوست» على موعد مع كشف آخر مثير، حين ذكرت أن المخابرات الأمريكية سبق أن نبّهت خلال شهرى يناير وفبراير الماضيين، بتقرير صدر فى ساعات «الجائحة» الأولى نسبياً، تحذّر فيه من تحول فيروس كورونا (كوفيد 19) إلى وباء عالمى، لكن إدارة الرئيس ترامب استهانت بذلك التحذير، منطقياً لم تتمكن المخابرات الأمريكية فى تقريرها من الوصول إلى موعد محدد، يمكن للفيروس أن يستشرى فى الولايات المتحدة على نطاق واسع، لكنها وفق الصحيفة الأمريكية كانت ترصد بدقة نقاط انتشار المرض فى الصين وغيرها من الدول التى لحقتها سريعاً. لذلك تسجل على الإدارة الأمريكية التى تعاملت مع الأمر باستعلاء أقرب إلى التراخى، الإخفاق الكامل فى اتخاذ الإجراءات التى من شأنها الحد من انتشار الوباء، ليس على مستوى الولايات المتحدة فقط، بل وفى أوروبا أقرب حلفائها، كما كان منتظراً من قائدة العالم صاحبة الإمكانات الافتراضية. وألحق باتهام الإخفاق فى المجابهة، تقريع ولوم قاسيين جراء تفرّغ الإدارة الأمريكية، فى إلقاء اللائمة على الصين، باعتبار تكتّمها الأولى عن انتشار الفيروس، هو الذى تسبّب فى إضاعة وقت ثمين كان بوسعه أن يُحد من انتقال كورونا، إلى دول أخرى من العالم.
عندما تجاوزت أعداد الإصابات رقم السبعة آلاف؛ اضطر حينها حاكم ولاية نيويورك «أندرو كومو» إلى قرار تعليق العمل فى جميع الوظائف «غير الضرورية»، كما أعلن فرض غرامات «إغلاق إلزامى» لكل الشركات، التى لا تلتزم بالتعليمات، فى إطار إجراءات اتخذتها الولاية لمواجهة انتشار فيروس كورونا المستجد، الذى بدا حينها أنه يتصاعد بشكل كبير فى الولاية. لم تلبث الساعات أن وصلت بالرقم عند مستوى العشرة آلاف، حينها عكس المشهد أن الإجراءات برمتها صارت هى التى تحاول اللحاق بالحدث، وليس العكس. ففى يوم الأربعاء كلف حاكم الولاية الشركات بأن تقوم بتخفيض قوة العمل، إلى مستوى 50% على الأقل من موظفيها غير الأساسيين، واستحداث نظام العمل من المنزل قدر الإمكان، لكن الأرقام بدت غير مكترثة بإجراء على هذا القدر، مما جعله يرتفع مباشرة فى اليوم التالى إلى نسبة 75%، ثم إلى 100% من قوة العمل فى الولاية بحلول يوم الجمعة. كما بدأ حاكم الولاية فى استقبال نصيب الولاية من «قوة الحرس الوطنى»، التى خصصها وزير الدفاع الأمريكى «مارك أسبر»، متمثلة فى إجمالى 4000 عنصر، لدعم إجراءات مواجهة انتشار الفيروس فى 31 ولاية أمريكية. جاء ذلك باعتباره أحد مظاهر تفعيل «قانون الدفاع الوطنى» فى البلاد، لمواجهة «العدو الخفى»، فى إشارة إلى فيروس كورونا الجديد. القانون يعنى أن الولايات المتحدة الأمريكية دخلت رسمياً فى «حالة حرب»، بموجبها ستتحرك السفن الطبية أو ما يُعرف بـ«المستشفيات العائمة» باتجاه المناطق المتضرّرة بالبلاد، فى الوقت الذى يمكن فيه للحكومة الأمريكية استخدام قانون صادر فى خمسينات القرن الماضى، لتوجيه المصانع إلى إنتاج المعدات الطبية.
حتى كتابة هذه السطور؛ أودى الفيروس بحياة نحو 230 شخصاً فى الولايات المتحدة، ولحق الكثير من الولايات بنيويورك فى إجراءات التقييد، من خلال اعتماد نظام «الزم بيتك». لكن يظل ما جرى خلال ساعات فى نيويورك كاشفاً بصورة كبيرة، عن حجم الارتباك وحالة التعالى غير المبرر، التى دفعت المشهد برمته إلى تلك الخسائر، فقبل البشر ظلت الضربات تتوالى خلال الأسبوع الماضى بعنف، لتحطم مؤشرات البورصات وتكنس ما تحقق طوال سنوات حكم «ترامب» الأربع الماضية، لخّصه إعلان رسمى مقتضب من «بنك أوف أمريكا»، عبر مبناه الهائل فى الجادة السادسة بنيويورك، بأننا دخلنا فعلياً فى قلب الركود الكبير. لكن هل يقف الركود عند حد المأزق الاقتصادى، أم أن الركود ضرب التجربة بأكملها؟ الإجابة غير حاضرة، على الأقل الآن، وسط حالة عدم اليقين التى تتسع، بتسارع انتشار الفيروس فى عاصمة العالم.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ٢٤ مارس ٢٠٢٠.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية