يُشكّل إدراج السودان على اللائحة الأمريكية السوداء للدول الراعية للإرهاب، أحد أهم المعوقات التي تواجه الدولة منذ تسعينيات القرن الماضي بما يفرضه من عبء ثقيل على الحكومة السودانية الراهنة، كونه تحديًا رئيسيًا لمسار التحول السياسي والعودة إلى التفاعل السياسي والاقتصادي مع البيئة الإقليمية والدولية. فقد أدرجت إدارة الرئيس الأمريكي “بيل كلينتون” اسم السودان على تلك القائمة منذ عام 1993، وذلك على خلفية استضافة السودان مؤسس تنظيم القاعدة “أسامة بن لادن” في الفترة من عام 1992 وحتى عام 1996، وهو ما دفع واشنطن إلى فرض عقوبات متعددة أدت إلى عزل السودان سياسيًّا واقتصاديًّا عن المجتمع الدولي. وفي أعقاب الحراك الشعبي والإطاحة بنظام “البشير”، وضعت حكومة “عبدالله حمدوك” ملف رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب في مقدمة اهتماماتها، وبذل كافة الجهود لتحقيق هذا الهدف، وهو ما يُرجى أن يأتي ثماره الإيجابية قريبًا.
قائمة الشروط الأمريكية الصعبة
قد تضمنت قائمة الاشتراطات الأمريكية مجموعة من البنود للتفاوض حول شطب السودان من اللائحة السوداء، تمثلت في الآتي:
- التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، سواء على الصعيد المحلي أو على المستوى الإقليمي والدولي، فيما يخص أنشطة التنظيمات الإرهابية.
- إنهاء العلاقات التجارية بين الخرطوم وكوريا الشمالية، وقطع العلاقات مع بيونغ يانغ، استجابةً لقرارات مجلس الأمن الدولي ضد كوريا الشمالية.
- دفع التعويضات المادية لضحايا الهجومين على سفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا، حيث قامت عناصر تنظيم “القاعدة” في عام 1998 بتلك العمليات أثناء اتخاذها من الأراضي السودانية ملاذًا، وهو ما دفع القضاء الأمريكي لتحميل السودان مسئولية تلك التفجيرات.
- إصلاح النظام السياسي ودعم مسار التحول الديمقراطي والعمل على تعزيز ملف حقوق الإنسان والحريات العامة والدينية.
- وقف العنف والعمليات العدائية داخليًا وتحقيق الاستقرار والسلام الداخلي، خاصة في إقليم دارفور والأقاليم التي تشهد حالة من العنف والصراع المسلح بين الحركات المسلحة وبين الجيش السوداني.
- العمل على إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة من الحرب، خاصة في دارفور.
- التعاطي الإيجابي مع الخطط الأمريكية لإقرار السلام في الشرق الأوسط، بما تضمنه ذلك من التطبيع التدريجي للعلاقات مع إسرائيل.
المساعي السودانية
إن رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية كان رهنًا لإجراءات وممارسات مختلفة لنظام حكومة الإنقاذ طوال فترة حكم الرئيس السابق “عمر البشير”، محلية وإقليمية، ويرتبط بإجراءات وقرارات تتوقعها الإدارة الأمريكية من الحكومة السودانية كما برز فيما قاله مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون الإفريقية “تيبور ناجي”، بأن عملية رفع السودان من قوائم الإرهاب “ليست قرارًا بل عملية”.
وتماشيًا مع التغيرات الجذرية التي شهدتها الساحة السودانية، وسعيًا لفك العزلة الدولية التي كانت مفروضة على السودان على مدار نحو ثلاثين عامًا، اتخذت الحكومة السودانية العديد من الإجراءات المتتابعة التي من شأنها محاولة العودة للبيئة الدولية، وتحسين الصورة الذهنية حولها، خاصة على مستوى الاشتراطات الأمريكية فيما يتعلق بملف الإرهاب، وقد تمثلت تلك الخطوات في الآتي:
- إصدار قانون تفكيك نظام الإنقاذ الذي كان سببًا جوهريًّا في وضع السودان في تلك القائمة، حيث نصت المادة الخامسة من القانون على إنشاء لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989، كإحدى العقبات الرئيسية في خضم الملف السوداني الأمريكي.
- إلغاء قانون النظام العام الصادر في 28 مارس 1996، الذي كان يفرض قيودًا متعددة على حرية النساء في المجال الاجتماعي العام في السودان، وكان هذا القرار محل انتقاد الكثير من المنظمات والمؤسسات الدولية، وكذلك كان محل رفض من جانب واشنطن، وتعزيزًا لمبادئ حقوق الإنسان وترسيخًا للحقوق والحريات العامة. كما وقع السودان في الخامس والعشرين من سبتمبر 2019 اتفاقية تقضي بتأسيس مكتب للمفوضية السامية لحقوق الإنسان بالخرطوم.
- التوصل إلى تسوية مع أسر ضحايا هجوم المدمرة الأمريكية “كول”، حيث بادرت الحكومة السودانية بإعلان تقبلها المسئولية عن الأخطاء السابقة لحكومة الانقاذ، وتعمل على إبرام اتفاقيات مع عائلات ضحايا تفجير السفارة الأمريكية التي تمت عام 1998 وتفجير المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول” خلال عام 2000. كما أبدت الحكومة تعاونًا مع المحاكم الأمريكية في هذا الشأن، والتي قُدرت بنحو 335 مليون دولار لتعويض ضحايا الإرهاب الأمريكيين.
- واستكمالًا لما سبق، فقد عملت الحكومة منذ قدومها على إطلاق عملية سلام شامل وعادل، وتجلى ذلك بشكل كبير في التحركات الأخيرة التي قام بها السودان مع الحركات المسلحة في مناطق النزاع المختلفة داخل السودان والتي توجت في نهاية المطاف بتوقيع اتفاقية سلام بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة بالعاصمة “جوبا” في 31 أغسطس 2020.
- وفي ضوء التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، فقد اتخذت دولة السودان خطوات مختلفة من بينها إيقاف الكثير من أنشطة نحو 25 منظمة وكيانًا تتبع النظام السابق، بالتنسيق مع واشنطن على نحو ما تجلى في اللقاءات التي جمعت رئيس الوزراء السوداني “حمدوك”، ومساعد وزير الدفاع الأمريكي المكلف بالشئون الأمنية الدولية “روبيرت كارم”، وكذلك مديرة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “جينا هاسبل”، وذلك إبان مشاركته في الدورة الـ74 لأعمال الجمعية العامة للأمم، وكذلك اللقاء الذي جمع مدير جهاز المخابرات السوداني السابق الفريق “أبو بكر دمبلاب” بعدد من المسئولين في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في ديسمبر 2019 وذلك لبحث سبل التعاون في هذا المجال.
- قامت الحكومة الجديدة بفتح مسارات وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق النزاع والتوتر، حيث سمحت بدخول المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي من دخول منطقة كاودا بولاية جنوب كردفان بعد انقطاع دام أكثر من ثمانية أعوام، ونتج عن ذلك عودة المساعدات الأمريكية عبر برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، والمتمثل بنحو 102 مليون دولار.
- اتخذ مجلس السيادة العسكري خطوات متسارعة لتطوير العلاقات مع إسرائيل انطلاقًا من لقاء رئيس المجلس السيادي السوداني “عبدالفتاح البرهان” مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في عنتيبي بأوغندا في الرابع من فبراير للعام الجاري، وصولًا إلى المشاورات التمهيدية التي جمعت بين “البرهان” ووفد أمريكي في 21 سبتمبر الجاري في الإمارات.
مردودات إيجابية
هناك عدد من النتائج والمؤشرات الإيجابية الأولية بشأن رفع السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية ناجمة عن تجاوب الخرطوم الإيجابي مع الخطوط العريضة حول متطلبات الإدارة الأمريكية لرفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية.
تجلت أولى تلك الانعكاسات في رفع اسم السودان من قائمة الدول “غير المتعاونة” في مكافحة الإرهاب، حيث خلت القائمة المُحدثة الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية في الثالث عشر من شهر مايو (2020) من اسم السودان، في حين أبقت على دول أخرى، وهو ما يُجسد مكسبًا هامًا من مكتسبات التعاطي الجديد للسودان مع الاشتراطات الأمريكية، ويعكس حجم تحرك الخرطوم لغلق هذا الملف، خاصة وأنها تعتبر خطوة إجرائية مهمة نحو الرفع الكامل لها من اللائحة السوداء.
أما المردود الإيجابي الثاني فقد تمثل في إنهاء كافة أشكال العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان، حيث بدأ الرفع التدريجي لتلك العقوبات منذ نهاية عام 2017، حتى تم رفعه بشكل نهائي في الرابع من مارس 2020، واتصالًا بذلك، فقد حصلت الخرطوم على دعم مادي تمثل في منحة مالية قدرها 23 مليون دولار لمساعدة الخرطوم في مواجهة جائحة كورونا، وذلك في شهر مايو للعام الجاري.
أما أهم المردودات الإيجابية فقد تمثل في عودة تبادل التمثيل الدبلوماسي بين واشنطن والخرطوم على مستوى السفراء، حيث تم تعيين “نور الدين ساتي” سفيرًا فوق العادة للسودان في واشنطن، وذلك بعدما وافقت واشنطن على ترشيحه في الرابع من مايو 2020، فضلًا عن إعلان الخارجية الأمريكية اعتزامها تعيين سفير لها في السودان، بما يُعزز تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين والارتقاء بها إلى مستوى السفراء بعدما كانت قاصرة على مستوى القائمين بالأعمال لنحو ثلاثة وعشرين عامًا، وهو الأمر الذي يؤسس لبداية جديدة تُمكن السودان من عبور المرحلة الانتقالية، والحصول على الدعم الدولي، وتمكنها من مواصلة دورها كفاعل هام في إفريقيا.
ختامًا؛ لقد وضعت الحكومة السودانية الراهنة قضية رفع السودان من قائمة الإرهاب على قمة اهتماماتها، نظرًا لما أنتجته العقوبات من تأثيرات سلبية في ظل التفاعلات السياسية والاقتصادية الدولية، وعلى الرغم من التحرك الإيجابي للسودان في سبيل تنفيذ الاشتراطات الأمريكية، يبدو أن رفع السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية مرتبط باستكمال الشروط الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بإغلاق ملف تعويضات الضحايا الأمريكيين لعمليات الإرهاب، واستكمال مسار التفاعل بين السودان وإسرائيل، وصولًا لحالة من التطبيع بين الجانبين. ومن شأن تجاوز هذه القضايا العالقة تحقيق هدف رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، في وقت تعد فيه مؤسسات الحكم الانتقالي في السودان في أمسّ الحاجة لهذا التقدم في ظل وضع تعاني فيه البلاد من أوضاع سياسية واقتصادية بالغة الصعوبة.