أعلنت منظمة الصحة العالمية كورونا جائحة، أي وباء ينتشر في عدد كبير من دول العالم. حتى هذا الأسبوع تم تسجيل إصابات بالفيروس في 186 بلدا وإقليم. لكن هذا الانتشار الكبير لفيروس كورونا لا يخفي ظاهرة ملفتة، حيث تتركز الإصابات بالفيروس المستجد في بلاد متقدمة، تمثل القلب النابض والقاطرة القوية لنظام العولمة الاقتصادية. فالعشر بلاد الأولى على قائمة الإصابة بفيروس كورونا، باستثناء إيران، هي من الدول المتقدمة اقتصاديا، وتضم الصين وإيطاليا والولايات المتحدة وإسبانيا وألمانيا وفرنسا وكوريا الجنوبية وسويسرا والمملكة المتحدة. ويوجد في الدول التسعة المتقدمة، بعد استبعاد إيران، 78% من إجمالي عدد المصابين بالفيروس؛ بما يجعل كورونا جائحة عولمية بامتياز، وبما يرشح نظام العولمة الاقتصادية ليكون أحد الضحايا المحتملين لهذا الوباء.
العولمة الاقتصادية هي الظاهرة الأهم اقتصاديا وسياسيا على المستوى العالمي خلال الأربعين سنة الأخيرة. لقد تحول العالم منذ أربعة عقود إلى سوق رأسمالية واحدة. صحيح أن هناك بلاد لم تلحق بهذه الظاهرة إلا بشكل محدود، إلا أن هذه البلاد الواقفة على هامش العولمة الاقتصادية هي أيضا البلاد الأكثر فقرا، والأقل تأثيرا في المقدرات الاقتصادية للعالم. فطوال العقود الأربعة الأخيرة كان النجاح الاقتصادي مرادفا للعولمة، أي للقدرة على الاندماج في شبكات الإنتاج والتبادل الدولية، والانتقال من عالم الاكتفاء الذاتي، الذي تنتج فيه الدولة كل ما تحتاجه من الإبرة إلى الصاروخ، إلى عالم الاعتماد المتبادل، الذي تكتفي فيه الدولة بإنتاج الأشياء التي تستطيع إنتاجها بكفاءة أكثر من غيرها. لقد تطور هذا المفهوم كثيرا بحيث لم يعد هناك المستثمر أو البلد الذي ينتج سلعة بأكملها، وإنما تم تقسيم المنتج الواحد إلى مئات من المكونات التي يتم إنتاجها بواسطة عدد كبير من المنتجين في بلاد مختلفة، ليتم نقلها بعد ذلك بدقة وسلاسة إلى حيث يتم تجميعها في نهاية سلسلة معقدة شديدة الانضباط لإنتاج وتوريد المكونات، أو ما يطلق عليه سلاسل القيمة.
الكفاءة والربحية هي الدافع الذي حفز انتقال العالم من أساليب الإنتاج والتجارة التقليدية، أي من إنتاج وتجارة السلع المعدة للاستهلاك النهائي؛ إلى سلاسل الإنتاج والتوريد، حيث يتم إنتاج المكونات والتجارة فيها، وهي التجارة التي أصبحت تمثل القسم الأسرع نموا من التجارة الدولية، والتي تتركز في مجالات إنتاج السلع عالية التكنولوجية، مثل السيارات والحواسب والهواتف المحمولة. لقد أدخلت جائحة كورونا هذا النظام في أزمة كبيرة، فقد أدى توقف المصانع في الصين إلى نقص في وصول الإمدادات إلى مصانع في أوربا وأمريكا واليابان وشرق آسيا؛ وبينما بدأت الصين في التعافي وإعادة تشغيل الاقتصاد، كانت الأزمة في أوربا وأمريكا تصل إلى الذروة، بما في ذلك إغلاق المصانع ووقف عمليات التوريد والإنتاج، ومن ثم استمرار العطب في سلاسل الإنتاج والتوريد العالمية.
لقد كشف الوباء عن أن عولمة شبكات الإنتاج والتوريد هو نظام شديد الحساسية له مخاطر عديدة؛ وسوف يكون على المستثمرين في المستقبل القريب التضحية ببعض اعتبارات الكفاءة والربحية، من أجل معالجة نقاط الضعف وتقليل المخاطر التي ينطوي عليها نظام العولمة. والأرجح أن يؤدي ذلك إلى إبطاء معدلات نمو التجارة والاستثمارات عبر الحدود، حتى لو نجح العالم في استعادة المستويات السابقة للنمو الاقتصادي.
لقد ضربت الجائحة نظام العولمة الاقتصادية والاعتماد المتبادل بقوة، بينما كان هذا النظام يترنح بسبب الضربات التي تلقاها نتيجة الحرب التجارية الكبرى بين الولايات المتحدة والصين، وما تفرع عنها من حروب تجارية أضيق نطاقا بين اليابان وكوريا، والولايات المتحدة وأوروبا.
في نفس الوقت، فإن فيروس كورونا ضرب العالم في وقت كان فيه الكثيرون في العالم المتقدم يشككون في جدوى هذا النظام وعدالته، وما كل النجاحات التي حققها اليمين القومي الشعبوي في الولايات المتحدة وبريطانيا وبلاد أوروبية رئيسية والبرازيل سوى مؤشرات على هذا. ففي السنوات الأخيرة تعرضت الثقة في العولمة الاقتصادية لتراجع حاد في الدول المتقدمة، فيما كانت العقيدة القومية في الاقتصاد والسياسة تحقق نجاحات مؤكدة.
مثل صعود اليمين الشعبوي والقومية الاقتصادية في بلاد الغرب خلال العقد الأخير رد فعل الطبقات المتضررة من العولمة الاقتصادية، ورغبتها في استعادة نظام القومية الاقتصادية الذي فازت في إطاره بمكاسب اقتصادية وشبكات أمان اجتماعي؛ بينما استمات أنصار العولمة من الطبقات المستفيدة، بما فيهم المستثمرين وأصحاب الأعمال، في الدفاع عن نظام العولمة والاعتماد المتبادل. الجديد في عالم كورونا هو أن بعضا من أنصار العولمة السابقين راحوا يفقدون ثقتهم فيها، وتطور لديهم تقييم سلبي لقدرتهم على احتمال المخاطر التي تنطوي عليها. ولهذا فإن المرجح هو أنه بعد انقشاع غبار الحرب ضد الوباء، سنجد أن قوى اليمين الشعبوي والقومية الاقتصادية يكسبون أرضا جديدة.
ستمثل هذه التطورات تحديات هامة لكل دول العالم، وبشكل خاص فإنها ستمثل تحد حقيقي لعدد من الدول النامية التي فاتها اللحاق بقطار العولمة الاقتصادية خلال العقود الأخيرة. وبينما كانت دفعة جديدة من الدول النامية تتأهب للحاق بالعولمة، في محاولة منها لتكرار خبرة الصين ودول آسيا، جاء صعود القومية الاقتصادية وجائحة كورونا ليهددا هذه الفرصة.
ستنتهي أزمة كورونا عاجلا أو آجلا، لكن عالم ما بعد كورونا لن يكون مثل العالم قبلها؛ فالأزمة العميقة وغير المسبوقة سوف تترك آثارا عميقة جدا على مستقبل النظام الدولي. مغرور أو كاذب من يدعي القدرة على قراءة المستقبل، فالحياة أغنى من كل تصوراتنا وخيالاتنا، وهي لا تكف عن مفاجئتنا بتطورات وسيناريوهات غير متوقعة، ونحن وإن كنا نزعم إمكانية رصد ظواهر واتجاهات رئيسية ستتترك آثارا عميقة على مستقبل العالم، فإن هناك اتجاهات كثيرة كامنة لم تظهر بعد، وهناك في كل الأحوال قدرة البشر على تحويل التحديات إلى فرص.
نقلا عن جريدة الأهرام، نشر في ٢٦ مارس ٢٠٢٠