مؤخرًا ومنذ يومين فقط؛ قام السيد رئيس الوزراء السوداني “عبدالله حمدوك” باتخاذ خطوة جديدة على مسار أزمة “سد النهضة”، عبر إرساله خطابًا لرئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد”، ردًّا على رسالة الأخير المتعلقة بالمقترح الإثيوبي لتوقيع اتفاق جزئي للملء الأول لسد النهضة. أعرب السودان في هذا الخطاب عن موقفه الجديد، بشأن أهمية التوصل لاتفاق ثلاثي بين الخرطوم وأديس أبابا والقاهرة، قبل بدء الملء الأول لسد النهضة، والمتوقع أن يكون في يوليو المقبل، حيث اعتبرت الخرطوم أن توقيع أي اتفاق جزئي للمرحلة الأولى لا يمكن الموافقة عليه في الوقت الراهن نظرًا لوجود جوانب فنية وقانونية يجب أن يجري تضمينها في الاتفاق، من ضمنها آلية التنسيق وتبادل البيانات الفنية، فضلًا عن سلامة السد والآثار المحتملة من التشغيل، وبخاصة البيئية والاجتماعية منها.
يُشير السيد “حمدوك” في خطابه المهم إلى التشديد على وصول المعنى واضحًا لأديس أبابا، بأن طريق الوصول إلى اتفاقية شاملة هو الاستئناف الفوري للمفاوضات، التي أحرزت تقدمًا كبيرًا خلال جولات الأشهر الأربعة الأخيرة. وهو في هذا السياق يؤكد على مرجعية “وثيقة واشنطن”، التي يؤكد أطرافها -فيما عدا إثيوبيا بالطبع- أنها أنجزت توافقًا على ما يقارب 90% من نقاط الخلاف، على اعتبار أنها لم تقف عند حد الملء الأول فقط، وإنما تناولت كافة مراحل الملء والتشغيل طويل المدى حتى في سنوات الجفاف والجفاف الممتد. وإدراكًا من السيد “عبدالله حمدوك” للظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم، ونزعًا لأية ذرائع قد يجنح إليها الجانب الإثيوبي كعادته، لم يفت رئيس الوزراء الإشارة بوضوح إلى أن الظروف الحالية التي قد لا تتيح فرصة المفاوضات عن طريق القنوات الدبلوماسية العادية، يمكن استئنافها عن طريق المؤتمرات الرقمية والوسائل التكنولوجية الأخرى التي استُخدمت في أكثر من اجتماع إقليمي ودولي، من أجل استكمال عملية التفاوض تحت الرعاية الأمريكية، لإنجاز الاتفاق الثلاثي حول النقاط المتبقية، قبل حلول فترة الفيضان المقبل هذا العام بعد شهور.
حظيت تلك الخطوة السودانية الجديدة بترحيب كبير من كافة المراقبين باعتبارها تعيد المسار إلى طريقه الرصين، الذي يغلب منطق التعاون والتفاوض بديلًا لآلية “فرض الأمر الواقع” والمراوغة التي تنتهجها إثيوبيا والتي تمثلت في انسحابها المفاجئ من مسار واشنطن في اللحظات الأخيرة، ورفضها التوقيع على ما جرى الاتفاق عليه من كافة الأطراف، رغم أنه يحقق قدرًا معقولًا ومتوازنًا من مصالحهم مجتمعة. أحد أبرز تلك الصور للمراوغة واستعادة الدوران للعودة بالأزمة للنقطة صفر. فبعد أسابيع من هذا “الانسحاب”؛ اندلعت جائحة “كورونا” التي تسببت في إشغال كبير لكافة دول العالم عن المضيّ في إنجاز الخطوات التي افتُرض أنها كانت جاهزة للتعامل مع التعنت الإثيوبي. في الوقت الذي استغلت أديس أبابا هذا الأمر لتكريس نقض كافة الاتفاقات، ووفق النقطة صفر أعلنت عبر آلياتها “الشعبوية” التي تنتهجها منذ البداية، على لسان “رومان جبريسيلاسي” مديرة مكتب المجلس الوطني لتنسيق المشاركة العامة في بناء “سد النهضة” الإثيوبي، عن جمع أكثر من (530 مليون بر إثيوبي) ما يعادل 10 ملايين دولار أمريكي، خلال الأشهر الماضية. على اعتبار أن ما أسمته “الموقف الخاطئ” لبعض البلدان، أعاد للإثيوبيين الرغبة والإرادة لتنشيط دعم السد، وهي في حديثها الذي نقلته وكالة الأنباء الإثيوبية على نحو واسع، كانت تشير إلى الولايات المتحدة ومصر والسودان، متهمة إياهم بأنهم يتجاهلون “سيادة إثيوبيا”!
بالعودة إلى خطوة رئيس الوزراء السوداني؛ نجد أنها بالفعل تمثل تحولًا فارقًا يتجاوب مع الكثير من هواجس الداخل السوداني والمصري، الذي يرى في غالبيته أن النهج الإثيوبي الأحادي في المضي قدمًا نحو الملء الأول، دون اتفاق مع الشركاء في الخرطوم والقاهرة، يمثل تهديدًا كبيرًا لمصالح كل منهما، فضلًا عن الأخطار المحتملة المتعلقة باشتراطات أمان السد التي ظل الجانب الإثيوبي يتجاهلها، ويداور في متطلبات استيفائها قبل عملية الملء التي تعلن عنها أديس أبابا يوميًّا على ألسنة مسئوليها وكل من له ارتباط بمشروع السد، في ضغط وحشد إعلامي ممنهج يستهدف الداخل الإثيوبي في الأساس، بغرض ترميم الشروخ العميقة التي تضرب العملية السياسية في أديس أبابا منذ سنوات، والدفع بتلك الخلافات والصراعات الإثنية المستحكمة خلف حوائط “سد النهضة”. وفي جانب آخر تصدير المشكلات إلى كل من القاهرة والخرطوم، وفق نظريات إثيوبية معيبة وبالية تعتبر أن مصر والسودان مختلفان ومأزومان سويًّا أو كل منهما على حدة، بما يحقق مصالح مؤكدة لأديس أبابا التي تظل أسيرة التوجس والخوف من محيطها الجغرافي، بالقدر الذي يجعلها قد تضحي بأمن وسلامة الإقليم برمته تحت وطأة هذه القناعات المختلة التي لم تقف عند حد السودان ومصر، ولا حول أمن المياه الوجودي، فجوارها الجغرافي على حدودها المختلفة معبأ بخلافات ونزاعات واحتقانات تاريخية بأكثر مما تسمح المساحة بتناولها، لكن مطالعتها فقط تؤكد القناعات الإثيوبية الراسخة لديها حتى الآن.
السودان الجديد يصحح الآن الكثير من مثالب النظام السابق، الذي ظل يغرد على نحو متناقض مع المصالح القومية السودانية قبل المصرية ودوائر جواره الأهم، وينظر اليوم إلى المستقبل بعيون مفتوحة على مصالح السودانيين وعلى أمن إقليمي مستقر، يعيش ويتشارك فيه السودان مع دول شقيقة يجمعه بها مصير مشترك بحقائق التاريخ والجغرافيا. لعل أحد تلك النماذج المشرقة، والتي جاءت خطوة السيد “عبدالله حمدوك” الأخيرة متجاوبة معها على نحو كبير، هي “المجموعة المدنية المناهضة لمخاطر سد النهضة”، والتي جددت دعوتها للحكومة السودانية بمكاشفة الشعب السوداني بحقيقة مخاطر السد على السودان، مطالبة الحكومة بعرض (دراسات أمان السد) التي التزمت أديس أبابا بتنفيذها، حسب ما ورد في اتفاقية إعلان مبادئ سد النهضة 2015، ونشر التقارير التي تؤكد تنفيذ ما التزمت به، فضلًا عن تقرير “لجنة الخبراء الدولية” النهائي حول تنفيذ إثيوبيا الكامل لما تعهدت به. هذا السودان الجديد الذي يقف بقدميه على أرض صلبة، ويسير على خطى تأمين والحفاظ على مصالح السودانيين الوطنية، هو ما تجده القاهرة بالتبعية يصب في مسار المصالح المصرية. كما أن تلك الأخيرة تعضد هي الأخرى مصالح السودان القوي الذي سيشكل قريبًا دون شك، رقمًا إيجابيًّا في استقرار الإقليم الذي تسعى بعض الأطراف للعبث به، دون إدراك لأهمية ودقة مكونات هذا الاستقرار، الذي يحقق وحده دون غيره الأمان والرخاء لتلك الشعوب مجتمعة، فليس هناك وفق تلك المعادلات الأزلية منتصر أوحد، تمامًا كما لا يوجد مهدد في مصالحه الوجودية سيصمت أو يمرر العبث بها.