أعلن الرئيس الفلسطيني “محمود عباس” أن السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير أصبحتا في حِلٍّ من جميع الاتفاقات التي تم إبرامها مع الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية وجميع الالتزامات المترتبة عليها. وقد جاء ذلك عقب التمادي الإسرائيلي في فرض السيطرة على مناطق الضفة الغربية، وإعلان الحكومة الإسرائيلية الجديدة عزمها اتخاذ خطوات جادة لضم أجزاء من الضفة وفرض السيادة الإسرائيلية على غور الأردن في مطلع يونيو المقبل، فضلًا عن المساعي الأمريكية الإسرائيلية لتنفيذ “صفقة القرن”. واعتبر “عباس” أن السياسات الإسرائيلية التي تهدف للتوسع في الاستيطان، قد ألغت اتفاق أوسلو لعام 1993. وطالب “عباس” إسرائيل بتحمل جميع المسئوليات والالتزامات كقوة احتلال في أرض دولة فلسطين. كما حمل الرئيس الفلسطيني الإدارة الأمريكية المسئولية الكاملة عن الظلم الواقع على الفلسطينيين، واعتبرها شريكًا لإسرائيل في جميع القرارات العدوانية.
وكان “عباس” قد هدد مرارًا بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وأعلن قطع كل العلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة عقب إعلان خطة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” للسلام؛ إلا أن تلك التهديدات لم يتم تنفيذها على أرض الواقع، ولم تُثنِ أيًّا من الجانبين -الإسرائيلي أو الأمريكي- عن ممارساتهما بحق الشعب الفلسطيني؛ إلا أن الوضع الآن قد بات مختلفًا، حيث بدأت السلطة الفلسطينية في اتخاذ خطوات جادة بشأن القرارات التي تم الإعلان عنها مؤخرًا، حيث تم إبلاغ واشنطن بتعليق الاتصالات مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA. كما أبلغت السلطة الفلسطينية إسرائيل رسميًّا بوقف التنسيق الأمني معها.
أثارت تلك القرارات التي أعلنت عنها السلطة الفلسطينية العديد من التساؤلات في هذا الصدد، فهل السلطة الفلسطينية جادة في قراراتها؟ وما هي تداعيات ذلك على الفلسطينيين والإسرائيليين؟ كما يطرح ذلك أيضًا التساؤلات حول مصير السلطة الفلسطينية والنتائج المترتبة على وقف العمل باتفاق أوسلو.
ما هي الاتفاقيات المقصودة؟
يُعد اتفاق أوسلو هو الأساس الذي وضع أطرًا حاكمة للعلاقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، فبموجب الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في سبتمبر 1993، بعد عامين من التفاوض أو ما سمي “إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي”، تم الاعتراف الفلسطيني بوجود دولة إسرائيل. كما أنها كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم الاتفاق فيها على كيان يتحدث باسم فلسطين وشعبها وهو ”منظمة التحرير الفلسطينية”. ونص الاتفاق على إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي (السلطة الفلسطينية) لفترة انتقالية لا تتجاوز خمس سنوات.
وقد وضع اتفاق أوسلو حدًّا لعقود من الصراع بين الجانبين، وأقر الاعتراف المتبادل بالحقوق السياسية والشرعية، كما نص على تحقيق التعايش السلمي والكرامة والأمن المتبادل، والوصول إلى تسوية سلمية عادلة وشاملة ودائمة، وتحقيق مصالحة تاريخية من خلال العملية السلمية المتفق عليها. كذلك، نص الاتفاق على تشكيل المجلس التشريعي للقوة الشرطية الفلسطينية، من أجل ضمان النظام العام والأمن الداخلي لفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، مع وجود لجنة للتعاون الأمني المشترك، بينما تواصل إسرائيل تحمل مسئولية الدفاع ضد المخاطر الخارجية.
وشكّلت هذه الاتفاقية الرئيسية غطاء لعدة اتفاقيات بين الطرفين، منها اتفاقيات تتعلق بالمياه والكهرباء والتنسيق الأمني بين الجانبين والنواحي الاقتصادية. ويُعتبر التنسيق الأمني من أهم هذه الاتفاقيات، خاصة أن هناك حوالي 450 ألف مستوطن إسرائيلي يعيشون في المستوطنات الإسرائيلية المنتشرة في الضفة الغربية.
وبالإضافة إلى اتفاق أوسلو، هناك العديد من الاتفاقات الأخرى التي تم إبرامها بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، منها اتفاق “غزة أريحا” الموقّع في عام 1994، والذي تضمن الخطوة الأولى لانسحاب إسرائيل من غزة وأريحا وتشكيل السلطة الفلسطينية وأجهزتها، تلته “اتفاقية أوسلو الثانية” في عام 1995، والتي عُرفت باتفاق المرحلة الثانية من انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية.
وفي عام 1998، تم التوقيع على اتفاق “واي ريفر الأول” الذي نصّ على مبدأ الأرض مقابل الأمن، والاتفاق على إعادة الانتشار الإسرائيلي في بعض المناطق الفلسطينية، وعلى قيام السلطة بترتيبات أمنية من بينها إخراج المنظمات الإرهابية عن القانون، وتشكيل لجنتين؛ الأولى ثنائية فلسطينية إسرائيلية للتنسيق الأمني، والأخرى ثلاثية تشمل الولايات المتحدة إضافةً إلى الطرفين السابقين لمنع التحريض المحتمل على الإرهاب. وتلا ذلك اتفاق “واي ريفر الثاني” في عام 1999، ثم “اتفاقية المعابر” في عام 2005، وهي اتفاقية تتعلق بالحركة والعبور للفلسطينيين وتحديدًا في قطاع غزة، وبهدف تحسين الوضع الاقتصادي، حيث كانت بمثابة التزامات على الجانبين تنفيذها.
دلالات التوقيت
لوَّح الرئيس الفلسطيني “عباس أبو مازن” أكثر من مرة بورقة وقف التنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي، كخطوة يمكن اللجوء إليها حال استمرت إسرائيل في خرق الاتفاقيات، وقد كان آخر تلك التهديدات في يوليو 2019. وخلال الأعوام الماضية اتخذ المجلس المركزي الفلسطيني أكثر من قرار حول الموضوع، وتشكلت لجان لتنفيذ هذا القرار.
إلا أن المرحلة الراهنة تتسم بأهمية بالغة فيما يخص مستقبل القضية الفلسطينية، مثلما يرى المسئولون الفلسطينيون، حيث تسعى إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، إلى تصفية القضية الفلسطينية، وذلك في إطار طرح “صفقة القرن” والتوسع في سياسات الاستيطان، والإعلان عن ضم الأراضي الفلسطينية في الضفة والأغوار؛ حيث تقضي تلك الخطوة على أية احتمالات لإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، ما دفع بالسلطة الفلسطينية لاتخاذ خطوات جادة في سبيل الحد من الانتهاكات الإسرائيلية، خاصة في ظل الدعم غير المسبوق الذي تقدمه الإدارة الأمريكية الحالية لكافة الممارسات الإسرائيلية.
التداعيات المحتملة
على مدار الأعوام الماضية، طالبت الفصائل المختلفة في الأراضي الفلسطينية بوقف التنسيق مع إسرائيل، حتى بات الأمر مطلبًا شعبيًا، وذلك نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ضد الشعب الفلسطيني، وهو ما تسبب في التوجه للتصعيد، ودفع بالسلطة الفلسطينية لاتخاذ موقف حادّ للحفاظ على القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.
جدير بالذكر أنه في حال تم تطبيق قرار وقف العمل بالاتفاقيات الموقعة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي فإن ذلك يشمل إنهاء كافة الاتفاقيات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وهو ما يعني أن دولة الاحتلال عليها أن تتحمل كافة المسئوليات الإنسانية والاجتماعية والصحية والاقتصادية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك بموجب اتفاقية “جنيف الرابعة”. وفي هذا الإطار، هناك ضرورة لاستيضاح تداعيات تلك القرارات على الأصعدة المختلفة.
1- التداعيات الأمنية
على الرغم من تشكيك بعض المحللين في مدى جدية السلطة الفلسطينية في إنهاء العلاقات الأمنية مع إسرائيل، مستندين إلى عدم اتخاذ خطوات ملموسة من قبل الجانب الفلسطيني عقب تهديداته المتكررة سابقًا بوقف التنسيق الأمني، كما يُعتقد أن السلطة في حاجة إلى دعم إسرائيل لمواجهات التحدي الداخلي المتمثل في حركة حماس؛ إلا أن السلطة الفلسطينية أثبتت جديتها تجاه القرار، حيث تم إبلاغ الجانب الإسرائيلي بأن وقف التنسيق الأمني دخل حيز التنفيذ، وأنه سيتم وقفه على كافة المستويات. كما بعثت السلطة برسالة رسمية لإسرائيل مفادها أنها لن تسمح بأي أعمال عنف في الضفة الغربية.
جدير بالذكر، أن التنسيق الأمني بدأ عمليًّا مع أول يوم للسلطة الفلسطينية عام 1993؛ إذ تضمّن اتفاق أوسلو وملحقاته بند تشكيل لجنة أمنية لتحقيق التعاون في المجالات المدنية والأمنية، بما يضمن محاربة الإرهاب؛ وهو تنسيق بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، يهدف أساسًا إلى منع تنفيذ أي أعمال هجومية ضد إسرائيل انطلاقًا من الأراضي الفلسطينية، ويراه الإسرائيليون مهمًّا؛ لأنه يساعد على إحباط 20 في المائة من العمليات التي يخطَّط لتنفيذها. كذلك يراه الفلسطينيون مهمًّا؛ لأنه يحد من الهجمات التي ترفضها السلطة الفلسطينية بما يضمن المصلحة الوطنية العليا، ويجنب الفلسطينيين ردة فعل إسرائيلية عسكرية.
وعلى الرغم من ذلك، فتطبيق قرار وقف التنسيق الأمني على أرض الواقع ليس بالسهل، حيث إن التنسيق يمسّ كافة جوانب حياة الفلسطينيين، سواء كانوا مواطنين أو قيادات، فالتنقل والعلاج والعمل، بالإضافة إلى كل ما يخص الاستيراد والتصدير والخدمات والبنية التحتية مرتبط بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي.
وعلى الصعيد الآخر، فإن وقف التنسيق الأمني سيؤثر بشكل أساسي على استقرار السلطة الفلسطينية المنوطة بإدارة الضفة الغربية، بشكل قد يؤدي في نهاية المطاف إلى انهيارها. فضلًا عن ذلك، فإن القرار قد يترتب عليه نشوب موجة من العنف. كما ستكون له تأثيرات على إسرائيل أيضًا، فجزء كبير من الاستقرار في إسرائيل يعتمد على مستوى التنسيق بين الطرفين، خاصة في المناطق الفلسطينية. ومن ثم، فإن تعطيل هذا التنسيق سيضطر إسرائيل إلى زيادة قواتها في تلك المناطق، بالإضافة إلى اضطرارها للبحث عن مصادر معلومات ومعطيات لكل ما يتعلق بالمنظومة الأمنية.
واقعيًّا، ووفقًا لاتفاقية أوسلو الثانية لعام 1995، فقد تم تقسيم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة إلى ثلاث مناطق: أ، ب، ج، تمثل المناطق (أ) 18% من مساحة الضفة، وتسيطر عليها السلطة الفلسطينية أمنيًّا وإداريًّا. المناطق (ب) تمثل 21% من مساحة الضفة، وتخضع لإدارة مدنية فلسطينية وأمنية إسرائيلية. أما المناطق (ج) فتشكل 61% من مساحة الضفة، وهي المعضلة، حيث تخضع لسيطرة أمنية وإدارية إسرائيلية، مما يستلزم موافقة السلطات الإسرائيلية على أي مشاريع أو إجراءات فلسطينية تتم داخلها، مما يثير المخاوف بشأن إمكانية أن يؤدي وقف التنسيق إلى اشتباكات مسلحة بين جنود جيش الدفاع الإسرائيلي والشرطة الفلسطينية.
في هذا الصدد، ناقشت مجلة “فورين بوليسي” تداعيات وقف التنسيق الأمني، حيث أكدت أن الرئيس الفلسطيني “محمود عباس” أكثر حزمًا من الماضي، رغم أن كلماته اكتنفها الغموض فيما يتعلق بالتفاصيل، واعتبرت أن إعلانه المتعلق بالتنسيق الأمني من شأنه أن يثير القلق لدى المسئولين الإسرائيليين. وأشارت إلى وجود ما يقرب من 30 ألف مسلح في الضفة الغربية، لذا، فإن إلغاء اتفاقات التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل يمكن أن يؤدي إلى نشوب موجة جديدة من العنف.
ونقلت المجلة عن المسئول السابق في الاستخبارات الإسرائيلية “عالون إيفياتار”، الذي اعتبر أن الضم سيكون بمثابة المسمار الأخير في النعش. كما رأى أن الأمر يمكن أن يُفضي إلى انهيار السلطة الفلسطينية.
2- التداعيات الاقتصادية
منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، عملت سلطات الاحتلال على ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، وتكريس تبعيته وجعله غير قادر على المنافسة، وتركُّز نشاطه الأساسي في خدمة الاقتصاد الإسرائيلي بكل تفاصيله، من خلال تحكم إسرائيل الكامل بالمعابر والمنافذ وعمليات الاستيراد والتصدير، بالإضافة إلى تدميرها للبنى التحتية، ما شكّل عقبة رئيسية أمام تطور الاقتصاد الفلسطيني.
فضلًا عن ذلك، فإن ممارسات إسرائيل وانتهاكاتها المتكررة على مدار السنوات الماضية قد أثرت بشكل مباشر على الاقتصاد الوطني الفلسطيني، حيث كشف تقرير أعده مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) أن تكلفة الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني خلال الفترة من 2000 إلى 2017 تقدر بنحو 47.7 بليون دولار، أي ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد الوطني لعام 2017. وبحسب التقرير فإن الخسائر لا تزال في تصاعد.
ويُعد اتفاق باريس الاقتصادي 1994، هو الاتفاق الذي وضع أسس العلاقات التجارية والاقتصادية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وبناء عليه تم ربط الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيليّ بشكل مباشر، لذا فإن الخاسر من وراء وقف الاتفاقيات الاقتصادية هي السلطة الفلسطينية المرهون اقتصادها إجباريًّا بالجانب الإسرائيلي؛ إلا أن ذلك لا ينفي الخسارة الإسرائيلية من وقف اتفاقيات التعاون الاقتصادي، حيث إن الضفة الغربية وقطاع غزة تعدان سوقًا كبيرة للمنتجات الإسرائيلية. ولا شك أن إسرائيل تحقق أرباحًا طائلة من وراء التجارة في تلك المناطق، وتوقّفها سيترتب عليه فقدان إسرائيل أرباحًا كبيرة كانت تحقّقها.
ووفقًا لبروتوكول باريس الاقتصادي، تحصّل إسرائيل ضريبة القيمة المضافة على الواردات الفلسطينية من إسرائيل، وتدير عمليات التخليص الجمركي للواردات الفلسطينية التي تمر عبر موانئ إسرائيل، وتحصل الرسوم الجمركية وضريبة القيمة المضافة عن هذه الواردات (إيرادات المقاصة)، ومن ثم تقوم بتحويل هذه الإيرادات إلى السلطة الوطنية الفلسطينية شهريًّا بعد خصم 3% منها كرسم تحصيل؛ ولأن إسرائيل تتحكم بالإيرادات الجمركية التي تشكل ثلاثة أرباع إيرادات السلطة الوطنية الفلسطينية، فإن هذا يمكنها من ممارسة سيطرتها على الشئون المالية الفلسطينية. وتستغل إسرائيل هذه السيطرة (احتجاز إيرادات المقاصة) كورقة ضغط تستخدمها بشكل متكرر لفرض عقوبات على السلطة الفلسطينية، أو للضغط سياسيًّا واقتصاديًّا على الفلسطينيين.
إضافةً إلى ما سبق، فإن إسرائيل استطاعت عبر سياساتها، أن تحول دون نمو وتطور القطاع التجاري الفلسطيني، من خلال إحكام سيطرتها وهيمنتها على الاقتصاد الفلسطيني بشكل عام. فضلًا عن ذلك، فإن هذه الاتفاقية مرهونة بالتدابير الأمنيّة الإسرائيليّة، والّتي تخضع الاقتصاد الفلسطينيّ لها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد نتج عن الإجراءات السابق ذكرها حرمان الاقتصاد الفلسطيني من إحدى السياسات الاقتصادية المهمة المتمثلة في السياسة النقدية، ورسخ من التبعية النقدية لاقتصاد الاحتلال الإسرائيلي، فقد تم وضع أساس النظام النقدي الفلسطيني في بروتوكول باريس الاقتصادي عام 1994، ويتمثل في غياب عملة وطنية فلسطينية، وهو ما يعني عدم وجود سياسة نقدية مستقلة. كما فرض النظام شرط تداول الشيقل الإسرائيلي. وكل ذلك أسفر عن نظام اقتصادي هش غير قادر على الصمود في مواجهة مثل تلك القرارات، خاصة في ظل عدم وجود بدائل.
مما سبق، يتضح مدى التداخل بين الاقتصاد الفلسطيني والإسرائيلي، وهو ما يقوّض أية احتمالات لقدرة الاقتصاد الفلسطيني على الصمود حال انفصاله كليًّا عن الاقتصاد الإسرائيلي، طالما استمرت الأوضاع على ما هي عليه الآن.
3- مصير السلطة الفلسطينية
أثارت القرارات الأخيرة التي أعلن عنها الرئيس الفلسطيني تساؤلات حول مستقبل السلطة الفلسطينية حال تم تطبيق تلك القرارات على أرض الواقع ووقف العمل بالاتفاقيات الموقّعة مع الجانب الإسرائيلي، وعلى رأس تلك الاتفاقيات اتفاق أوسلو، الذي تم بموجبه تشكيل السلطة الفلسطينية ومنحها الشرعية للتفاوض باسم الفلسطينيين وإدارة شئونهم. السؤال هنا: ما هو مستقبل السلطة الفلسطينية نفسها؟ وهل يعني التحلل من اتفاقية أوسلو فقدان شرعية السلطة وتفككها؟ أم تغييرها أم بقاؤها كما هي؟ كما أثيرت التساؤلات أيضًا حول إمكانية أداء السلطة لمهامها حال وقف العمل بالاتفاقيات فعليًّا، وهل تعني تلك الخطوة وقف الاعتراف بإسرائيل؟ والعديد من الأسئلة التي تفتقر الإجابات في الوقت الراهن، فما زالت الصورة غير واضحة بشأن بعض الأمور السابق ذكرها.
بالنسبة لمصير السلطة الفلسطينية، من غير المرجح أن يتم حلها، وما يؤيد ذلك عدم إشارة “أبو مازن” لتفكيكها، بل على العكس، فهو مستمر في اتخاذ خطوات جادة على الصعيد الدولي لكسب تأييد القرارات المتخذة مؤخرًا، إلا أن البعض يذهب إلى أنه حال تم التطبيق العملي ووقف التنسيق بشكل كامل مع إسرائيل، فإن ذلك لا محالة سيؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية؛ إذ تشتري السلطة من إسرائيل أو عبرها كل شيء، بما في ذلك الماء والكهرباء والوقود والمواد المختلفة، كما أنها تحتاج إلى تنسيق أمني ومدني من أجل خدمة مصالح الفلسطينيين وتحركهم وسفرهم، فضلًا عن ذلك، فإن عدة مسائل جوهرية تتعلق بوضع الاعتراف السابق بإسرائيل، ومصير التنسيق الأمني على الأرض، والعلاقة الاقتصادية، وكذلك إمكانية مد الولاية القانونية والسياسية والسيادية لدولة فلسطين على كامل الأراضي الفلسطينية.
كل ما سبق يجعل إسرائيل تتحكم بكل مفاصل الحياة الفلسطينية، وهو ما يجعل من تطبيق القرارات الفلسطينية السابقة مسألة معقدة للغاية. وبالنظر إلى كل ذلك، فإن عدم وجود علاقات من أي نوع مع إسرائيل سينعكس على أداء السلطة لمهامها وقدرتها على إدارة المناطق الفلسطينية. ومن جانب آخر، سيفقدها القدرة على السيطرة حال اندلاع موجة عنف في تلك المناطق، بالإضافة إلى تأثر كافة القطاعات داخل المناطق الفلسطينية من تطبيق تلك القرارات، وهو ما سينعكس بدوره على مصالح الفلسطينيين وبالتالي سيثير غضبهم، وهو ما يمكن أن يؤدي أيضًا إلى اندلاع موجات من العنف والتخريب لا يمكن السيطرة عليها، فضلًا عن تزايد احتمالات قيام حركة حماس باستغلال الموقف، وهو ما يزيد الأمر سوءًا.
وبالنظر إلى تفاصيل الاتفاقيات المقرر وقف العمل بها بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، والتداعيات المترتبة على تلك القرارات، يمكن الإشارة إلى بعض النقاط:
1- أن التطبيق العملي لوقف الاتفاقيات مع إسرائيل يتطلب آليات تنفيذية بمشاركة كافة الفصائل الفلسطينية، وهو ما يدفع للقول إن الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني سيظل دائمًا حجر عثرة أمام أية محاولات لتقوية الموقف الفلسطيني والضغط على إسرائيل، بل إن الأمر أخطر من ذلك، فليس مرجحًا أن يتم التوصل إلى أية حلول للقضية الفلسطينية ما دام الداخل الفلسطيني منقسمًا. فضلًا عن ذلك، فهناك ضرورة لإعادة إحياء المؤسسات الوطنية كمنظمة التحرير والمجلس الوطني، وتفعيل المجلس التشريعي الفلسطيني.
2- أن وقف العمل بالاتفاقيات يتطلب تحضيرات كثيرة، أولها صياغة برنامج وطني فلسطيني جديد، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي والعربي المحيط، إضافة إلى صياغة خطة مستقبلية تفصيلية تتضمن كافة الجوانب، وعلى رأسها الجانب الاقتصادي، حيث يجب إعداد دراسة دقيقة وشاملة لإصلاح منظومة الاقتصاد الفلسطيني، ومن ثم تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي يدعم القطاعات الإنتاجية، ويشجع الاستثمار في القطاعات الحيوية، كما يركز على دعم المنتج الوطني وتنمية التبادل التجاري بين فلسطين والدول العربية.
3- أن قرار السلطة بوقف العمل بالاتفاقيات الموقّعة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، لن يثني إسرائيل عن اتخاذ خطوات بشأن الضم، أو يغير الموقف الأمريكي، ودليل ذلك أنه سبق أن هددت السلطة الفلسطينية بوقف العمل بالاتفاقيات؛ إلا أن تلك التهديدات لم تمنع “ترامب” من الإعلان عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ إلا أن ذلك قد يمثل أداة ضغط على إسرائيل لإعادة النظر في حجم المناطق التي تنوي ضمّها، حيث تقوم خطة السلام التي طرحها الرئيس الأمريكي “ترامب” مطلع العام الجاري على ضم 30% تقريبًا من الضفة الغربية إلى إسرائيل، ومن ضمنها غور الأردن، لكن “نتنياهو” ربما يكتفي بمنطقة أصغر، والتي تتضمن المستوطنات الأكبر والأكثر سكانًا.
4- قد تؤثر تلك الخطوة على المكانة الانتخابية لـ”دونالد ترامب”، والذي يسعى لتنفيذ “صفقة القرن” قبل الانتخابات الأمريكية المقبلة، حيث يسعى لتحقيق إنجاز تاريخي بتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين لاستغلاله في الدعاية الانتخابية، بالإضافة إلى رغبته في جذب أصوات الناخبين الإنجيليين في الولايات المتحدة. وفي الإطار ذاته، يرى الساسة المنتمون إلى اليمين المتطرف في إسرائيل أن اللحظة الحالية بمثابة فرصة تاريخية لتحقيق رؤيتهم، وفي ظل وجود الرئيس الحالي في منصبه ودعمه للخطة، وانشغال العالم بأسره بأزمة جائحة كورونا؛ ولا شك أن تصاعد حدة التوتر بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي ستؤثر بشكل مباشر على مصير الصفقة أمام العالم، ومن ثم على مكانة “ترامب” بالانتخابات المقبلة.
5- من المرجح أن تواصل إسرائيل سياسة الضغط على الفلسطينيين، وتضييق الخناق عليهم حال تم تنفيذ تلك القرارات، وهو ما قد يدفع بالأمور للاتجاه نحو التصعيد، خاصة أن الفلسطينيين يتعرضون لضغوط اقتصادية واجتماعية، وهو ما يوفر عوامل قابلة للانفجار في وجه الاحتلال الإسرائيلي.
6- يمكن للأجهزة الأمنية أن تخفض مستوى المشاركة مع نظيرتها في إسرائيل، ولكن من غير المرجح أن يتم وقف التنسيق تمامًا؛ حيث إن أية خطوة تتخذها السلطة الفلسطينية تحتاج إلى التنسيق مع إسرائيل حتى في حالة الحصول على مساعدة من دولة ثالثة. وعلى صعيد آخر، أشار “أبو مازن” إلى أن السلطة ملتزمة بمكافحة الإرهاب، وهو الأمر الذي يحتاج إلى استمرار التنسيق الأمني بين الجانبين.
7- من المتوقع أن يواصل “أبو مازن” اتصالاته على كافة المستويات العربية والدولية والأممية، لإطلاع جميع دول العالم على فحوى هذه الخطوة، وحشد مواقف دولية قوية ضد قرار الضم والتأكيد على مخالفة إسرائيل لكافة القوانين الدولية.