بصرف النظر عن هوية الشخص الذي نفذ الهجوم على كنيسة في نيس الخميس الموافق ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٠ وعن كونه ذئبا منفردا أم عضوا في تنظيم ما يوالي أو لا يوالي محور تركيا/قطر، فمن الواضح أن ثمة برميل بارود وأن هناك من له مصلحة في تفجيره أو في التهديد بتفجيره، ومن الواضح أن الأزمة فرنسية من ناحية، ودولية من ناحية أخري لأن العمليات الإرهابية تأتي في سياق مواجهة فرنسية تركية عنيفة تهدد العلاقات بين أعضاء الناتو من ناحية وبين تركيا ودول أوروبا من ناحية أخري وهي مواجهة سعت فيها تركيا إلي حشد تأييد الجماهير الإسلامية معها وإلي زرع الفتنة بين الجاليات الإسلامية في أوروبا والسكان الغير مسلمين فيها. ووقد يتسبب هذا بدون قصد في حشد جماهير فرنسية وأوروبية وراء ماكرون. ومن المؤشرات اللافتة للنظر تغير لهجة المستشارة ميركل تجاه تركيا.
تكلفة التحريض
من نتائج موجة الهجمات الإرهابية الأخيرة تغليب القراءة التي ترى أن التأسلم السياسي بكل فصائله شن حربا شاملة (دعائية وسياسية وقانونية وإرهابية) ويومية ضد أسس وأركان ورموز النموذج السياسي والعقد الاجتماعي الفرنسيين، ومن ورائه أغلب أو كل الأنظمة السياسية والاجتماعية الأوروبية، هذه القراءة أصبحت سائدة في فرنسا وفي دول أوروبية أخري ويؤيدها أغلبية بالغة الوضوح في فرنسا تجنح بقوة إلي موقف الصقور، ويلاحظ مثلا كثافة اللجوء إلي استخدام كلمة “حرب” والتشديد علي ضرورة اللجوء إلي أدواتها، وعضد هذه القراءة وقواها تعمد الرئيس التركي إهانة الرئيس ماكرون وتوجيهه تهم متنوعة منها أنه يريد شن حرب علي الإسلام. ويلاحظ أن عددا من الأئمة المسلمين في فرنسا حملوا الرئيس أردوغان وقطر المسؤولية السياسية عن هذه الهجمات نظرا للحملة التي أشرفا على شنها علي مواقع التواصل وتعمدهما تحريف ما قيل والوقائع.
وقد تقع فرنسا في الفخ المنصوب لها لأن الحديث كثر عن تشريعات جديدة تتصدي للتطرف، أكثرها مفهوم، ولكن بعضها تخلط بين الإسلام المحافظ والتأسلم مثل مشروعات القوانين التي تريد أن تتوسع في حظر الحجاب. وطبعا المناخ السائد والغضب العارم يفسحان المجال أمام خطاب اليمين المتطرف الكاره للإسلام دون تمييز بينه وبين التأسلم. ويبدو لي أن الفاعلين الفرنسيين لا ينتبهوا بما فيه الكفاية لضرورة تطمين المسلمين المحافظين. على سبيل المثال لا الحصر حديث وزير الداخلية عن محلات بيع اللحم الحلال حديث غير موفق يخاطب ود الغوغاء ولا يمكن الدفاع عنه.
باختصار لا يمكن تجاهل التزامن بين زيادة هذه العمليات الإرهابية وارتفاع حدة التحريض التركي والمتطرف على مواقع التواصل. وأدان رجال دين مسلمين في فرنسا الرئيس التركي ووصفوا التطرف بالسم وحاولوا شرح الأوضاع في فرنسا على شاشات القنوات العربية.
جذور الصدام
يقول الفيلسوف الفرنسي بيير مانان أن هناك هوة كبيرة وتتسع بين المسلمين منهم مسلمي أوروبا وبين باقي سكان أوروبا وتشريعاتها. التوجه الأوروبي العام منذ النصف الثاني لستينيات القرن الماضي هو تقديس الحريات الفردية على حساب التماسك الاجتماعي والترابط الوطني وهناك ميل في دول كثيرة أغلبها ذات جذور ثقافية كاثوليكية وتمتعت فيها الكنيسة بنفوذ سياسي نفر قطاعات من الجمهور، وهناك ميل في هذه الدول إلي تضييق نطاق المقدس ورفض منحه حصانة وقبول إهانته بل تحبيذ هذه الإهانة، التوجه الثقافي الغالب عند المسلمين هو العودة إلي الدين وضرورة احترام المقدس واعتبار أي نقد أو إهانة للمقدس إهانة لكل أبناء الأمة، مع اختلافات بين المسلمين حول الرد المناسب (تجاهل/ إدانة/ عقاب فردي/ جماعي/ مقاطعة حملة لتغيير التشريعات/ إرهاب). وفي العالم الإسلامي تلعب الشريعة دورا رئيسا في التشريع بينما تراجع دور تعاليم الدين في التشريع في أوروبا، ويشير مانان إلى هوة أخرى لا يلتفت إليها الكثيرون، ففي كل دول أوروبا ألغيت عقوبة الإعدام، أي لا تعترف الثقافة السائدة بحق الدولة في قتل مواطن مهما عظم جرمه. بينما تعترف دول جنوب المتوسط بعقوبة الإعدام.
وإضافة إلي هذا فإن دولة مثل فرنسا – وتشاركها في هذا دول أخري- شهدت تحولات عميقة منذ النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي لفت النظر إليها الفيلسوف مارسيل جوشيه وأكدت دراسة هامة لجيروم فوركيه صدق حدسه. يقولان أن المجتمع قام علي عامود فقري هو الثقافة الكاثوليكية ومؤسساتها وتنظيماتها وعامود فقري بديل هو الثقافة الشيوعية ومؤسساتها وتنظيماتها، ورغم اختلافهما على الكثير إلا أنهما مالا إلي السلطوية واتفقا حول شكل العائلة والمسموح به أخلاقيا، وانهار العامودان وتحول المجتمع إلي جزر معزولة بينها فروق شاسعة وما يجمعها قليل، وساد توجس رافض لأغلب العلاقات السلطوية، بدرجات متفاوتة (مكانة المدرس مثل ظلت نسبيا محفوطة) وهو واقع سمح بتوسيع الحريات ولكنه غذى القلق على مستقبل فرنسا. هذا الواقع أعمق مما نتصور، مثلا الفرنسيون لا يشاهدون نفس القنوات التلفزيونية ولا يقرأون نفس الصحف ومصادر رؤيتهم للعالم مشتتة. الإرهاب يأتي في توقيت يحس الفرنسيون فيها بقلق بالغ على مستقبل وطنهم ومجتمعهم وبالتالي يميلون إلى المواقف الحادة.
ومن ناحية أخري تعاني فرنسا من تزايد عدم المساواة بين مواطنيها، لدرجة سمحت بالحديث عن استقطاب حاد بين الرابحين من العولمة وهم أقلية هامة والخاسرين ومنهم الكثير من المسلمين. ولا شك أن هناك تمييز حاد ضد الرجال المسلمين في سوق العمل وفي الحصول على السكن، والعائلات المسلمة تخشي من ذوبان الهوية فتربي أبنائها شأنها شأن أي أقلية على الخوف من الأغلبية وعلى التحذير من قيم تلك الأغلبية ومن الزواج من بنت أو ابن الأغلبية، ولا شك أيضا أن السخرية من الأديان ومن رجال الدين وهي عادة فرنسية قديمة تؤذي مشاعر المؤمنين مسلمين وغيرهم، كل هذا يساهم في تشكيل رؤية للعالم تسهل زرع التطرف.
وفي المقابل هناك أقلية من المسلمين تنتهج سلوكا يستفز الأغلبية، طلبة ترفض تدريس بعض المواد وتلجأ إلي العنف، مرض يرفضون أن يعالجهم طبيب غير مسلم، ويصدرون ردود فعل، العلاقة باليهود لا سيما عند اشتعال الشرق الأوسط، بث نظريات مؤامرة، وغيرها، في المقابل يأتي تمسك الفرنسيين بحرياتهم التي حصل عليها أجدادهم وقطعا لا يمكن التماس أي عذر للإرهاب، ولكن يتعين هنا القول أن المشكلة بالغة العمق وتحتاج عملا وجهدا شاقا وطويل الأجل لإدارة متحضرة للخلافات، بين المسلمين المحافظين وغير المسلمين.
بالعودة إلى الظرف الحالي ينبغي الإشارة أولا إلى وجود مشكلة في الترجمة. بالعربية يتم التمييز بين الإسلام والخطاب الديني والحضارة الإسلامية، اللغة الفرنسية لا تميز بين الثلاث، أعتقد أن الرئيس الفرنسي لم يقصد الدين بل الخطاب والأزمة الحضارية. وعندما قال “لن نتنازل عن الرسوم” وهو قول خانه التوفيق فيها قصد أنه لن يسن تشريعات تمنع السخرية من المقدس. طبعا لم يقصد أنه معجب بهذه الرسوم.
ثانيا لا ينبغي تجاهل أن هناك انتخابات رئاسية في الثلث الأول من ٢٠٢٢ وأن الرئيس سيحاسب على إدارته لملفين، ملف كوفيد ١٩ وملف الإرهاب، ولعل فشل الدولة النسبي في إدارة أزمة “كوفيد ١٩” سيدفعه إلي الاهتمام الكبير بالملف الآخر وسيعرضه لنقد خصومه إن فشل (إن تهاون وإن تطرف). المشكلة هل تملك الدولة الأدوات لمواجهة التطرف ومعالجة أسبابه؟ يميل الفرنسيون إلي القول أنهم تخاذلوا واستهتروا بالتهديد، ولكن عودة الإرادة لا تكفي لحل المشكلات والتغلب علي الصعوبات. كانت الأدوات ناقصة قبل أزمة كوفيد ١٩ والمؤكد أن الوضع لم يتحسن بعدها، الجديد هو وجود نوع من الوحدة الوطنية حول هذه القضية وتضم الكثير من المسلمين. ما يغيب عن التغطية الإعلامية هو قبول غالبية كبيرة من المسلمين لقواعد اللعبة الفرنسية، وهذا لا يعني طبعا إعجابهم بالرسوم أو قبولها.
خلال كتابة هذا التحليل بدأ الرئيس ماكرون التعليق، وشدد على ضرورة توحيد صف الجميع (بما فيها المسلمون)، الجديد هو رفع درجة الاستعداد للأمن والجيش ونشر مزيد من القوات لا سيما لحماية الكنائس. بصفة عامة ستحاول الدولة حل الجمعيات التي تبث خطابات الكراهية وإصدار قوانين تشدد القيود على الهجرة وبحث السبل لتقليل الاعتماد على الأئمة ورجال الدين الأجانب والسعي إلى تدريب أئمة فرنسيين. وطبعا ستحاول الدولة التصدي لاستراتيجية المتأسلمين الموصوفة بالانفصالية، وهي استراتيجية قائمة على احكام القبضة على بعض أحياء ومدن فرنسا وأسلمتها مع رفض تطبيق قوانين الجمهورية إن عارضت الشريعة، وفرض الحجاب، ومنع الخمور ولحم الخنزير، إلخ، وهذه المواجهة تقتضي سياسات اجتماعية تستهدف تحسين أحوال الأحياء الفقيرة وسؤال كيفية تمويلها يظل دون إجابة.
السؤال الأخير هو: هل ستدفع الأزمة الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى تغيير موقفها من التأسلم ومن تركيا. مؤشرات كثيرة تدل أن هناك إدراك متزايد للخطر التركي وضرورة التصدي له. ولكن هناك في واشنطن ولندن وغيرهما من يرى أن علمانية فرنسا المتطرفة جزء من المشكلة وهناك من يخشى أن التأييد الصريح لفرنسا قد يشعل الوضع ولا يخفض التوتر.