أهمية حديث من هذا النوع؛ أنه صادر من شخصية أمريكية مرموقة ولها خبرة ميدانية هائلة وممتدة فى العمل على هذا الملف، السفير «دينيس روس» اضطلع لأكثر من اثنى عشر عاما بالدور الرئيسى فى رسم معالم الدور الأمريكى فى عملية السلام فى الشرق الأوسط، وفى التعامل المباشر مع أطراف المفاوضات. خلال حكم إدارتى الرئيس بوش والرئيس كلينتون كلفته الولايات المتحدة بقيادة دفة عملية السلام، حتى الوصول إلى «اتفاقية أوسلو الثانية» 1995، كما توسط بنجاح للتوصل إلى «اتفاق الخليل» 1997. يعمل الآن السفير روس فى معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، القريب الصلة بجماعات الضغط «اللوبي» اليهودية، الموجودة بالولايات المتحدة منذ عقود، والتى ساهمت بصورة رئيسية فى صياغة العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
وهذا يعطى أهمية إضافية لإلقاء الضوء على ما نشره السفير روس من خلال المعهد، بعنوان لافت «الطريق إلى السلام فى غزة ــ خطة مفاوض مخضرم»، باعتبار هذا المطروح من أبرز ما يمكن الالتفات إليه عمليا، كى نشكل رؤية مقربة للأفكار التى تولدت لدى المنخرطين فى هذه القضية ما بعد 7 أكتوبر الماضي. وقد بدأ دينيس روس ورقته بكلمة افتتاحية مشجعة تعكس ما سيطرحه لاحقا، فهو يرى أنه لكى تكون هناك فرصة للخروج من مأساة الحرب بين إسرائيل و«حماس»، من الضرورى بناء جسرين: أحدهما يؤدى إلى الانتقال من الوضع الحالى إلى «اليوم التالي» بعد الحرب، والثانى يتيح طريقا تتوافر له مقومات البقاء لدولة فلسطينية. تستند تلك الرؤية على أنه بالنسبة للإسرائيليين؛ يشكل 7 أكتوبر صدمة سيستغرق التعافى منها سنوات. فزعزعة أمنهم، إلى جانب خوفهم من أن ما فعلته «حماس» هو ما يؤيده الفلسطينيون، وما قد يكررونه إذا أتيحت لهم الفرصة. أدت إلى ترددهم حتما، فى النظر إلى المخاطر التى تتطلبها عملية صنع السلام. ويبدو أن الإسرائيليين المنهكين من جراء إحساسهم بالخسارة، لا يدركون الخسائر الفلسطينية فى غزة، أو ببساطة غير قادرين حتى على التفكير فيها. وبالنسبة للفلسطينيين، تسبب الموت والدمار فى الأشهر الأخيرة بصدمة جماعية. فالفلسطينيون يرون أن الإسرائيليين يلحقون بهم خسائر فادحة، من دون الاهتمام على ما يبدو بالألم الذى يسببونه. كما يرون أن الإسرائيليين يجردونهم من إنسانيتهم، ويبررون شراسة هجومهم العسكرى بضرورة هزيمة حماس.
للوهلة الأولى، قد لا يبدو أن هذا هو الوقت المناسب للحديث عن إقامة دولتين لشعبين وإنهاء النزاع. ولا يمكن لأى منهما أن يتصور تقديم تنازلات للآخر، فى ظل انغماس هذين المجتمعين تماما كل فى صدمته، ومع ذلك قد تنبثق فرصة للخروج من هذه المأساة بحسب السفير روس. فهو يرى وفق ما سماه «خطة مفاوض»، أنه يمكن التوفيق بطريقة ما بين جميع هذه الذهنيات المتضاربة، من خلال بناء الجسرين اللذين أشار لهما فى مقدمته.
الجسر الأول يقتضى تغيير الواقع فى غزة، حتى قبل انتهاء الحرب، من دون التخلى عن هدف إنقاذ الرهائن، والذى يجب التوصل إلى اتفاق بشأنه. على أن تحول إسرائيل تركيزها من القضاء على حماس، التى تعكس فكرة إسلامية متجذرة بعمق فى أذهان الكثير من الفلسطينيين، إلى نزع السلاح فى غزة، ويعنى ذلك تفكيك بنيتها التحتية وقدراتها العسكرية. وبدوره؛ يستطيع المجتمع الدولى أن يلتزم بضمان بقاء غزة منزوعة السلاح. ويتطلب ذلك آلية لمراقبة تسليم جميع المواد التى تدخل إلى غزة وتحديد الأماكن التى يتم تخزينها فيها، والتأكد من أنه يتم استخدامها للغرض المناسب وليس لبناء الأنفاق أو التسلح الحربي. وإذا لم تذهب المساعدات إلى المشاريع المتفق عليها، فستتوقف المساعدات. وبعبارة أخرى توافق الولايات المتحدة، بالعمل مع المصريين والسعوديين والإماراتيين والأوروبيين واليابانيين، على ضرورة أن تضمن أى مقاربة لإعادة الإعمار، وعدم إعادة تسليح غزة. ترى هذا الخطة؛ أن حماس ستواجه صعوبة فى السيطرة على غزة بعد أن فقدت تشكيلاتها العسكرية، وقيادتها وسيطرتها، وصناعة الأسلحة الخاصة بها، ولا سيما إن لم يتم تنفيذ أى استثمار كبير فى غزة. وبما أنه لا يجوز ترك فراغ، من الضرورى قيام إدارة مؤقتة. فقبل أن يتم إصلاح «السلطة الفلسطينية» وتصبح قادرة على ممارسة الحكم الرشيد بقيادة رئيس وزراء متمكن، فلن تتمكن أن تحكم فى غزة. مع ذلك، يجب أن يكون الهدف هو إجراء إصلاحات، والعودة إلى غزة وإعادة توحيدها سياسيا مع الضفة الغربية. ولإدارة القضايا الملحة مثل المياه والكهرباء والصحة، يمكن إنشاء آلية إنسانية دولية للعمل مع رجال الأعمال الفلسطينيين والهيكلية البيروقراطية القائمة فى غزة منذ عهد «السلطة الفلسطينية»، والتي عملت حتى فى ظل حكم حماس.
ويمكن لهذه الآلية أن تعالج الاحتياجات الملحة لأكثر من مليون فلسطينى تم إجلاؤهم من شمال غزة إلى جنوبها، حيث ينبغى السماح لهم بالعودة. والهدف من ذلك هو استعادة بعض وظائف الحياة اليومية فى أجزاء من غزة، حيث فقدت حماس السيطرة، ومن خلال القيام بذلك، الإثبات عمليا بأن الحياة يمكن أن تتحسن مع خروج حماس من السلطة. تشير خطة روس؛ إلى أن العقبة الرئيسية أمام أى حل دائم تتمثل فى القناعة السائدة لدى الإسرائيليين، بأن حماس أو أى جهة رافضة من أمثالها هى التى ستقوم بإدارة الدولة الفلسطينية. لذلك من الضرورى ألا يوفر الحديث عن سلطة فلسطينية جديدة خاضعة للإصلاحات، طريقة ملتوية لعودة حماس سياسيا إلى السلطة. فإذا دخلت حماس إلى السلطة، فستوجه نزعتها العسكرية وتصميمها الحثيث على تنفيذ مهمتها نحو الاستيلاء عليها. بحيث لن يشكل ذلك نعمة لـ«المحور الإيراني» فحسب، بل سيتناقض مع هدف الدولتين. لهذا من الضرورى أن يتم منع ضم حماس كجزء من بناء الجسر الثاني، الذى يخلق طريقا تتوافر له مقومات البقاء للدولة الفلسطينية، من دون إثارة مخاوف إسرائيلية بشأن الشكل الذى قد تبدو عليه تلك الدولة.
أما الجسر الثاني في مطروح «دينيس روس» فهو -من وجهة نظرنا- يختص بمعالجة قضية «الدولة الفلسطينية» بما يلبى الاحتياجات العربية، وبحسب تعبيره يعزز شعور إسرائيل بالأمن بدلا من تقليصه. لهذا اعتبر روس أنه من الضرورى أن يتم منع ضم «حماس»، كجزء من بناء هذا الجسر الثانى، كونه سيفضى إلى طريق تتوافر فيه مقومات البقاء لـ«الدولة الفلسطينية»، ومن ثم يجلب القوى الخليجية إلى الطاولة، دون إثارة مخاوف إسرائيل بشأن الشكل الذى قد تبدو عليه تلك الدولة المتخيلة. يطرح دينيس روس سؤالا مهما؛ مع بداية حديثه عن الجسر الثانى، يتعلق بجدارة الاعتراف بالدولة الفلسطينية قبل ترسيم حدودها، وهل سيساعد ذلك على توفير هذا الجسر، فى ظل حديث وزارة الخارجية الأمريكية عن هذا الأمر، وكذلك جدية تناول ديفيد كاميرون وزير الخارجية البريطانى اتخاذ مثل هذه الخطوة. وهنا يستدعى دينيس روس واقعة تاريخية كان شريكا فيها، كدرس مستفاد لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، ففى نهاية قمة «كامب ديفيد» صيف عام 2000، كان روس يحاول إنقاذ تعثرها ما دفعه للاقتراح على «إيهود باراك» رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، أن يعترفوا بالدولة الفلسطينية مع الاشتراط بأن يجرى التفاوض على خصائصها (السيادة/ الحدود) فى وقت لاحق. لكن باراك رفض الفكرة بحجة أن الفلسطينيين حتما سيتبنون مواقف متطرفة، وأن المجتمع الدولى سينجر بدوره إلى الموقف الافتراضى المتمثل بقبول العودة إلى خطوط الرابع من يونيو 1967، والذى من شأنه تعريض إسرائيل لخطر استراتيجى كبير. خاصة أنه لم يكن قد تبلورت بعد، إجراءات التعامل مع الكتل الاستيطانية فى الضفة الغربية. ويرى دينيس روس أن مخاوف باراك مشروعة، فإذا رأت واشنطن أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يمكن أن يشكل جسرا إلى مستقبل أفضل، بحيث يظهر للفلسطينيين أن تطلعاتهم الوطنية ستتم معالجتها بجدية، يجب فى ذات الوقت أن يقترن هذا الاعتراف بمعالجة المخاوف الإسرائيلية.
لكن روس المخضرم فى مثل تلك الجولات المعقدة من التفاوض، لا يرى أن معالجة تلك المشكلة المزمنة شاقة كما تبدو، لأنه وفق ما يطرحه الآن فى ورقته الحديثة أو خطة الطريق يجب أن تكون مؤهلات الدولة الفلسطينية أو شروط قيامها، واضحة على النحو التالى: لا يجوز أن يقود الدولة الفلسطينية أولئك الذين يرفضون وجود إسرائيل، وواقع حل الدولتين. كما يجب أن تكون خصائصها السيادية متسقة مع الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية، التى تتطلب ان تكون الدولة منزوعة السلاح على الأقل، وألا يسمح لها بتشكيل تحالفات مع الجهات المعادية لإسرائيل. ويتعين على الدولة الفلسطينية الوليدة أن يتقبل قادتها شرعية إسرائيل (ليس مجرد وجودها الفعلى)، كوسيلة لتقويض مصداقية أولئك الذين يستمرون فى رفض إسرائيل وفى تنفيذ الأعمال الإرهابية ضدها. ولا يجوز لها أن تستمر فى التحريض على العنف ونشر الكراهية ضد إسرائيل، وهو الأمر الذى كثيرا ما انطبق للأسف على «السلطة الفلسطينية» حتى الآن. وترى خطة روس أنه أخيرا، تحتاج الدولة الفلسطينية إلى مؤسسات ذات مصداقية تتحلى بحوكمة متينة لضمان ألا تكون دولة فاشلة، وبحيث تكون قادرة على إدانة أفعال «حماس» وأعمالها الإرهابية بشكل صريح، وإلا قد يفسر عدم قيامها بهذا الدور على أنه دعم لتلك الأعمال. وفى منحى متوازن لتلك الخطة؛ أو بالأدق لتمتين هذا الجسر الثانى المتعلق بالدولة الفلسطينية، يذكر دينيس روس أنه لا يجوز إلقاء عبء خطة العمل حصريا على عاتق الفلسطينيين. بل يتعين على إسرائيل بدورها الاعتراف بالتطلعات الوطنية الفلسطينية وقبول الدولة الفلسطينية، مع توافر الضمانات الصحيحة لذلك، وان كان فى ظل المناخ الحالى سيتطلب ذلك بعض الإقناع. لكن من المهم من أجل بناء مناخ يؤسس لحالة ثقة متبادلة؛ يتعين على إسرائيل وقف النشاط الاستيطانى خارج الكتل القائمة أساسا، بما أن هذا النشاط يهدف فى الأساس إلى منع قيام دولة فلسطينية، كما عليها اتخاذ إجراءات صارمة بحق المستوطنين المتطرفين الذين يهددون الفلسطينيين ويحرمونهم من الأمن. وبالنظر لتلك النقطة الأخيرة لا يبدو على دينيس روس اقتناعه بأن الحكومة الحالية، التى تضم وزراء على شاكلة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش بقادرة على اتخاذ مثل هذه الخطوات، وقد ذكرهما روس بالاسم ليس لشخصهما إنما لما يمثلانه من تيار قادر على إجهاض مثل تلك الأفكار والرؤى الأقرب للتلامس مع واقع المشهد الراهن.
يرى دينيس روس أنه لن يكون سهلا بناء أى من هذين الجسرين، لكنه يستند إلى أن كارثة السابع من أكتوبر وما أعقبها، تفرض ضرورة تأمين مستقبل مختلف كليا للإسرائيليين والفلسطينيين على حد السواء، لأنه وفق ما يراه العودة لإبقاء الوضع كما كان عليه قبل هذا التاريخ، هو حكم بات باستدامة النزاع.