إنّ متابعة التحولات الفارقة التي تشهدها إثيوبيا في ظل زعامة رئيس الوزراء “أبيي أحمد” تُعيد إلى الأذهان الشخصية السحرية الخاصة بـ”الرجل الكبير” أو teleq säw. إنها شخصية تمتلك السلطة، وتحظى بالاحترام العام. ولا يجد الرأي العام أي غضاضة في القبول بحكم الرجل الكبير. وعلى العكس من ذلك تمامًا، تأتي ظاهرة الهوس بـ”أبيي أحمد” بحسبانه “المسيح” المنتظر الذي سوف يأخذ بيد الأمة الإثيوبية إلى أرض الميعاد. إنها مفارقة غريبة في وقتٍ تتعلق فيه الرسالة التي يتم التأكيد عليها باستمرار بالتحول الديمقراطي، وتوكيد قيم المشاركة والتعددية السياسية.
إن الأوضاع السياسية في إثيوبيا معقّدة للغاية وخطيرة. ورغم الأحداث المأساوية الدامية التي وقعت مؤخرًا في إقليم أورومو، ربما تظهر بارقة أمل. ولعل الإعلان عن إنشاء حزب وطني جديد بدلًا من الائتلاف الحاكم يمثل بدايةً للخروج من الأزمة الحالية. ومع ذلك، فمن غير المرجّح أن يكون هذا الخروجُ سلسًا وبدون عراقيل. السياق السياسي الحالي في إثيوبيا يتسم بعدم الفعالية على المستوى الفيدرالي، كما يوجد فراغ هائل في السلطة على المستوى الإقليمي. وباستثناء إقليم تيغراي، بشكل عام، فإن السلطة على مستوى الأقاليم الاتحادية غير مستقرة. إنها قد تكون اسمية فقط في أيدي المسئولين المحليين الذين لا حول لهم ولا قوة، أو في أيدي الجماعات المحلية غير الرسمية التي تتألف من الشخصيات المؤثرة أو النخب المحلية الجديدة التي عادةً ما تكون مسلحة. وربما يُعزَى عدم استقرار السياسات الإقليمية الإثيوبية إلى استمرار انعدام الأمن، وتكرار حدوث الاشتباكات العرقية.
لكن ما هي الخيارات المتاحة أمام رئيس الوزراء “أبيي أحمد”؟
الخيار الأول: يتمثّل في المضيّ قدمًا وإجراء الانتخابات في مايو 2020. ويدعم هذا الخيار مجموعة واسعة من القوى السياسية، بما في ذلك رئيس الوزراء نفسه. ولعل السبب الكامن وراء ذلك هو أن التأجيل لن يؤدي إلا إلى تفاقم التوترات، وتنامي روح التعصب العرقي العنيف. وربما توفر شرعية ما بعد الانتخابات تحالفًا عريضًا بقيادة “أبيي أحمد” يكون قادرًا على حسم قضيتين رئيسيتين هما: نوع الفيدرالية المطلوب اعتمادها، ودرجة التحرر الاقتصادي المطلوب تبنيها في المرحلة القادمة.
الخيار الثاني: يتمثل في تأجيل الانتخابات والاتفاق على فترة انتقالية تمهد لإجراء انتخابات منظمة، أو حتى إدخال إصلاحات دستورية. ويدعم هذا الخيار أولئك الذين يخشون من تبعات يوم الاقتراع. ويحاجج هؤلاء بأن بقاء الدولة الإثيوبية أكثر أهمية من الالتزام بالجدول الانتخابي. الفكرة هنا هي أنه لا ينبغي إجراء الانتخابات إلا بعد ضمان توفير الحد الأدنى من القواعد التوافقية من خلال عملية حوار مجتمعية واسعة من أصحاب المصلحة. ولعل ذلك يتطلب تنازلات من الطبقة السياسية من أجل القبول بتسويات ووضع قواعد أساسية للمضيّ قدمًا بشكل قانوني ومنظم، وسلمي نحو الانتخابات.
الخيار الثالث: يتمثّل في تجاوز بنية النظام الحاكم في شكله الحالي، وإنشاء حزب جديد من أجل دعم سلطة ونفوذ رئيس الوزراء “أبيي أحمد”. هذا الحزب الجديد لن يكون مجرد إعادة تشكيل للتحالف الحاكم بحيث يشمل تنظيمات الأطراف التابعة، واعتماد تمثيل يتناسب مع حجم مناطقهم، وعدد السكان، وما إلى ذلك، لكنه يعني تأسيس إطار تنظيمي جديد يُدير ظهره تمامًا لأيديولوجيا التحالف الحاكم القائمة على الديمقراطية الثورية.
ويبدو أن تقاليد الرجل الكبير في النظام السياسي الإثيوبي هي التي انتصرت في نهاية المطاف، حيث وافق الائتلاف الحاكم في إثيوبيا (الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي [EPRDF] التي تضم أربعة أحزاب سياسية) على الاندماج وتشكيل حزب جديد هو حزب الرفاه الإثيوبي. لقد ناقش أعضاء اللجنة التنفيذية في الائتلاف الحاكم حتى 19 نوفمبر مشروع برنامج الحزب الجديد. وسوف يكون للحزب الجديد مكاتب في جميع أنحاء البلاد، وسيستخدم لغات مختلفة حسب تفضيلات الأشخاص على الأرض. ووفقًا لمسودة برنامج حزب الرفاه ستكون الخطوة التالية هي مواصلة تطوير البرنامج الحزبي خلال المؤتمر القادم للـحزب الحاكم. كما أن الحزب الجديد سوف يمر بعد ذلك بعملية التسجيل في اللجنة الوطنية للانتخابات من أجل المشاركة في الانتخابات العامة القادمة في مايو 2020.
ويطرح ذك التطور المهم في السياسة الإثيوبية عددًا من الدلالات المهمة، يتمثل أولها في دعم سلطة رئيس الوزراء نفسه. وربما يدفع ذلك -كما يقول بعض النقاد- إلى تبني صيغة النظام الرئاسي. ويعمل “أبيي أحمد” من خلال شخصه الذي يجمع بين مكونات الميراث الثلاثي وفقًا لـ”علي مزروعي” (أبوه مسلم من الأورومو، وأمه مسيحية من الأمهرا) على أن يكون عامل توحيد للأمة الإثيوبية. يتحدث “أبيي”، منذ وصوله إلى السلطة في أبريل 2018، عن مسألة الاندماج الوطني التي يعتبرها المشكلة الحقيقية في إثيوبيا، ويسعى خلال الفترة المقبلة إلى قيادة دولته بأيديولوجيا ميديمر ”MEDAMER” التي تطرح مقاربات لمعالجة المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من منظور الاندماج الوطني. ويريد “أبيي أحمد” بناء حزب الرفاه الإثيوبي لتعزيز قوته. ولعل القيم الرئيسية التي وردت في كتابه عن الاندماج الوطني، والذي صدر بالإنجليزية والأمهرية والأورومية، تتمثل في “الوحدة الوطنية، وكرامة المواطن، والازدهار”. ولا يوجد شيء يذكر حول حقوق المجموعات العرقية، ولا شيء عن التنوع. باختصار، لقد تجاهل تمامًا موضوع الفيدرالية العرقية التي ينص عليها الدستور. بالإضافة إلى ذلك، ركز “أبيي” بعد أحداث العنف في أوروميا، على المصالحة على المستوى الشعبي، بوساطة الزعماء الدينيين والشيوخ. ولم ينطق الرجل بكلمة واحدة عن السياسيين أو الأحزاب.
الدلالة الثانية التي يعكسها تشكيل حزب الرفاه الجديد هي الإعلان رسميًّا عن فشل السياسة العرقية المثيرة للانقسام التي كانت من بنات أفكار الجبهة الحاكمة التي ضمت أربعة أحزاب هي: الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وحزب الأمهرا الديمقراطي، وحزب الأورومو الديمقراطي، وحزب الأقاليم الجنوبية. وبينما نجد أن الأحزاب الثلاثة الأولى هي أحزاب ذات أساس عرقي مسيطر، فإن المناطق الجنوبية تضم 56 مجموعة عرقية موجودة في الطرف الجنوبي لإثيوبيا.
يقول أحد الحكماء الإثيوبيين “لينكو لاتا”: “نحن نختلف حول عددٍ من القضايا الأساسية. نحن لا نتفق على ما هي إثيوبيا.. على أي نوع من الديمقراطية التي نريدها.. حدية الانقسام واضحة بين المواقف المختلفة.. ليس لدينا خيار سوى التفاوض على حل وسط؛ وإلا فإن البديل هو انهيار كامل للنظام”. فهل تستطيع شخصية “أبيي أحمد” التوصل إلى هذا الحل الوسط؟ لقد انتهى النقاش الذي دار بين الحركات الطلابية في الستينيات والسبعينيات حول مسألة القوميات والصراع الطبقي. ورغم ذلك لم يَتَحدَّ أحدٌ الفيدرالية. الخلافات الرئيسية في السياسة الإثيوبية اليوم تدور حول نوع الفيدرالية المطلوب.
ثمة انقسام في السياسة الإثيوبية بين دعاة الاندماج الوطني وتقوية سلطات المركز في أديس أبابا وبين القوى السياسية التي ترغب في الحفاظ على الفيدرالية القائمة على أسس إقليمية عرقية محددة وفقًا لأنماط الاستيطان واللغة والهوية، على النحو المنصوص عليه في الدستور. كما أن الإشكالية تكمن في تحديد طبيعة العلاقة بين المركز وهذه الأقاليم. هذا هو الانقسام الرئيسي الآن. يدعو “الفيدراليون” أو أنصار دعم سلطة المركز إلى وجود سلطة مركزية قوية وحكم ذاتي محدود للأقاليم الاتحادية. بينما يدعو “الكونفيدراليون” أو “اللا مركزيون” إلى رابطة اتحادية فضفاضة بين الأقاليم التي تتمتع بسلطات شبه سيادية. ويعكس تدخل الجيش الفيدرالي للإطاحة بـ”عبدي إيلي” في الإقليم الصومالي هذه الإشكالية؛ فدعاة الحكم الفيدرالي القوي يرون أن الإقليم سقط تحت نير مستبد فاسد، وعليه فإن التدخل أمر مبرر. بيد أنه غير مقبول بالنسبة لـ”الكونفيدراليين” لأن قوات أديس أبابا لا يمكنها التدخل في إقليم اتحادي إلا بناءً على طلب قيادته، بغض النظر عن سلوك تلك القيادة.
ولعل الدلالة المهمة الثالثة -في هذا السياق- تتعلق بدعم توجهات “أبيي أحمد” النيوليبرالية التي جعلته صاحب نوبل للسلام. إذ يتبنى الحزب الجديد رأسمالية براجماتية تقوم على اقتصاد السوق وتشجيع الاستثمارات الأجنبية بعيدًا عن عباءة “ميليس زناوي” القديمة، التي عبرت عنها الجبهة الديمقراطية الثورية. وكما لاحظ “ويليام دافيسون” بحق، فإن ما اعتبره رئيس الوزراء السابق “ميليس زيناوي” في الليبرالية الجديدة بمثابة “طريق مسدود”، فإن “أبيي أحمد” يراها اليوم بمثابة “أفق جديد”. لقد رفض “ميليس” نهج الليبرالية لتحقيق التنمية، مفضلًا رؤيته عن “الدولة التنموية” حيث تتولّى الدولة -نظريًّا على الأقل- موقع القيادة في عملية التخطيط والتنمية، بالإضافة إلى الملكية العامة للقطاعات الرئيسية مع وجود دور محدود ومنظم للقطاع الخاص في إطار خطة التنمية الوطنية الشاملة. وفي المقابل، لم يكن خطاب رئيس الوزراء “أبيي أحمد” في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد هذا العام في دافوس غير متوقع. فقد عبر في خطابه عن إيمانه الشديد بعقيدة الليبرالية الجديدة القائمة على حرية السوق، من خلال: تحسين وتطوير بيئة ممارسة الأعمال التجارية، ودعم القطاع الخاص، وانفتاح الأسواق والتكامل، بما في ذلك التزام إثيوبيا بتسريع عملية الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية.
وعلى الرغم من تبني “أبيي أحمد” خيار عباءة الرجل الكبير لتنفيذ رؤيته الخاصة بالاندماج الوطني، فإن الطريق ليس سهلًا، وإنما تعترضه عقبات جمة. هناك من يتحدث عن السيناريو الكارثي المتمثل في تكثيف وتفاقم “الانقسامات العرقية” بحيث تتجاوز نطاقها الإقليمي. ويلاحظ أنها، حتى الآن على الأقل، لا تزال في سياقها المحلي. ثمة مخاوف من أن تدفع العناصر القومية المتطرفة في الأمهرا والتيغراي والأورومو وغيرها من القوميات البلادَ إلى طريق السيناريو اليوغوسلافي. ومن جانب آخر، يتصرف “أبيي أحمد” كما لو كان يمكنه تنفيذ أجندته من خلال الاعتماد فقط على جاذبيته الشخصية، وشعبيته الهائلة، ودعم الغرب له. ثمة مخاوف من تأسيس حكم أوتوقراطي جديد يتجاوز المؤسسات القائمة، ولا سيما مجلس الوزراء والبرلمان، من خلال التصرف من جانب واحد من خلال مجلسه المصغر في أعلى قمة هرم الدولة. ومن ناحية ثالثة، خلقت الإصلاحات المتوالية التي أطلقها “أبيي أحمد” الصدمة الإيجابية التي تحلم بها قطاعات كاملة من الرأي العام. بيد أن عواقب هذه الإصلاحات غير محسوبة، ومن ذلك، على سبيل المثال، مسألة عودة جماعات المعارضة المسلحة المحظورة سابقًا (جبهة تحرير أورومو وجينبوت 7)، وقضية “التطبيع” مع إريتريا. ويبدو أن رمزية الفعل، التي يتم تنظيمها دائمًا بعناية، تتجاوز من حيث الأهمية النتائج المترتبة عليه.