شهدت الأزمة الليبية مساعي دولية عديدة بهدف الوصول إلى تسوية سلمية أو التمهيد للوصول إلى هذه التسوية، سواء من خلال عقد المؤتمرات الدولية أو طرح مبادرات للتسوية. وكان آخر هذه المساعي الدولية انعقاد مؤتمر برلين (19 يناير 2020).
ورغم الأهمية التي حظي بها مؤتمر برلين، لكنه لم يدعُ كافة الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة، فحضرت أطراف وغابت أطراف أخرى. وأعلنت أطرافٌ غائبة عن المؤتمر استغرابَها من عدم الحضور (مثل تونس والمغرب).
لقد بنى “غسان سلامة” قائمة الحضور على فلسفة “من ليس له موقف ليس له مكان”، ما يثير تساؤلًا مهمًّا حول ماهية هذا الموقف، وما الذي قصده “غسان سلامة” بأن الدولة التي لا تتبنّى موقفًا معينًا لن يكون لها حضور في المؤتمر.
“الموقف” المقصود من جانب “غسان سلامة” -على ما يبدو- هو إما الانحياز لحكومة “السراج” أو الجيش الوطني الليبي، في حين أن “مواقف” الأطراف الفاعلة في الأزمة يدور حول مجموعة من الأطر المختلفة والمتباينة.
هناك ثلاثة مداخل يمكن من خلالها تحليل مواقف الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة المعنية بالأزمة الليبية، وهي: مدخل المصلحة السياسية المرتكزة على المدن (أي تبادل النفوذ على المدن السورية والليبية)، ومدخل الدولة الوطنية (أي العمل على توحيد المؤسسات والحفاظ على الدولة الليبية الوطنية الموحدة)، وأخيرًا مدخل المصلحة الذي يرتكز على مجموعة من الملفات والقضايا.
المصالح السياسية المرتكزة على المدن
أبرم الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” اتفاقًا أمنيًّا وعسكريًّا مع حكومة “السراج” في نهاية ديسمبر 2019، حيث تم بموجبه تسليم مركبات وطائرات بدون طيار تركية للحكومة، لكن لم ينشر قوات نظامية حتى الآن (مع العلم بأن “أردوغان” أبدى استعدادًا جادًّا بنشر المزيد من المرتزقة على أراضي طرابلس)، وذلك في الوقت الذي ابتعد فيه الجيش التركي عن إدلب، وتعرضت فيه الجماعات الإرهابية بالمحافظة للهجوم من قبل قوات “بشار الأسد” بالتنسيق مع القوات الجوية الروسية، وتطويق مركزين تركيين من قبل القوات المسلحة السورية.
وفي الثامن من يناير 2020، عقدت تركيا وروسيا صفقة بشأن وقف إطلاق النار في محافظة إدلب. أعقب ذلك مباحثات بين رؤساء المخابرات التركية والسورية والروسية في 13 يناير 2020، ركزت على تحرير محافظة إدلب آخر معقل للإرهاب في سوريا، خاصة من مقاتلي القاعدة من أصول ليبية.
من هنا، لا يمكن فصل الصراع الدائر في سوريا، خاصة قضية تحرير مدينة إدلب من الإرهاب، عن محاولة تركيا التدخل في ليبيا، وتحديدًا في مدينة طرابلس. ولتطبيق اتفاق سوتشي الخاص بخفض التصعيد وسحب الأسلحة الثقيلة، عملت تركيا على نقل الإرهابيين خارج إدلب، ونقلهم إلى طرابلس ومصراتة.
هذا المدخل الذي يرتكز على تبادل النفوذ بين روسيا وتركيا في مدن (إدلب وطرابلس) هو الحاكم في تصفية الصراع في سوريا، وإشعاله في ليبيا. روسيا تريد بموجب الاتفاقات مع تركيا تصفية آخر معقل للإرهاب في سوريا، وهو الأمر الذي تعهدت تركيا بالقيام به بالتنسيق مع روسيا. ومن ثم، يمكن اعتبار طرابلس هي المخرج السياسي الذي تستغله تركيا (أولًا) للدخول في معادلة شرق المتوسط، و(ثانيًا) لتحقيق الاتفاق الضمني مع روسيا بتحرير إدلب وضمها تحت النفوذ الروسي-السوري.
بناء “الدولة الوطنية”
كان الموقفان -المصري والإماراتي- من الأزمة الليبية ككل يتصف بمجموعة من الثوابت والمحددات، وهي: وحدة المؤسسات، ووحدة الأراضي الليبية، دون النظر إلى الأزمة من زاوية أطراف الصراع.
وعلى الرغم من أن الدافع الرئيسي من عقد مؤتمر برلين هو الموقف من معركة طرابلس بين وقفها أو استمرارها، والذي يستدل عليه من خلال قائمة الدول التي تمت دعوتها؛ إلا أن مسودة البيان الختامي لمؤتمر برلين حول ليبيا هي في الأساس تتجه لتعزيز إطار بناء الدولة الوطنية، إذ إنها تتضمن المحاور الأمنية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، المستندة على مبدأ توحيد المؤسسات الوطنية في ليبيا. في حين أن مواقف بعض الأطراف المشاركة في المؤتمر تسير وفق نهج مغاير في إدارة الصراع، وهو دعم أحد أطراف الصراع على حساب طرف آخر.
إذن، يمكن تفسير عبارة “غسان سلامة” في تأسيسه للمؤتمر، وهي “من ليس له موقف ليس له مكان”، بأنه كان المقصود بها موقف الدولة المشاركة من أطراف الصراع في ليبيا، وليس رؤيتهم لاستعادة الدولة الليبية.
تفكيك الأزمة الليبية إلى قضايا وملفات
تنظر الدول الأوروبية إلى الوضع في ليبيا، وبالتالي موقفها من معركة طرابلس، من منطق القضايا، والذي يعني المشاكل والأزمات التي قد تطال الدول الأوروبية من الصراع في ليبيا. ويأتي على رأس هذه القضايا: الهجرة، والأمن، والطاقة.
صانع القرار في أوروبا يؤرقه تصدير ليبيا، وبالتحديد طرابلس، للهجرة غير الشرعية، والتنظيمات الإرهابية التي ستجد في غرب ليبيا مساحة جديدة يمكن من خلالها التحرك وتعزيز قوتها مرة أخرى. وقد حاول “أردوغان” تعزيز هذه المخاوف الأوروبية من خلال تهديده المباشر بأن أوروبا ستواجه تهديدًا إرهابيًّا جديدًا إذا سقطت حكومة “السراج” في طرابلس. ويأتي هذا التهديد على غرار نفس التهديد الذي أطلقه ضد أوروبا بفتح الأبواب أمام 3.6 ملايين لاجئ للتوجه إليها في سياق دوره في الأزمة السورية.
أضف إلى ذلك، فإن مسألة النفط الليبي تعد إحدى القضايا المحورية بالنسبة للقوى الأوروبية. وقد زادت أهمية هذه القضية بعد قرار وقف تصدير النفط من موانئ شرق ليبيا، كورقة ضغط مهمة على أوروبا. ويمكن اعتبار وقف تصدير النفط نقطة تحول في موقف الدول الأوروبية من أطراف الصراع في ليبيا، وقد يعيد حسابات الدول الأوروبية في الأزمة.
ختامًا، يمكن القول إن التناقضات السياسية التي تضمنها مؤتمر برلين بسبب اعتماد الأطراف المشاركة على منطقيات مختلفة في إدارة الصراع في ليبيا، مثّلت نقطة ضعف كبيرة في المؤتمر، ليضاف إلى سلسلة مؤتمرات باليرمو وباريس التي فشلت في التدشين لعملية سياسية حقيقية في ليبيا. كما أن التحولات الجارية على الأرض في ليبيا، ستفرض تحديات كبيرة على القوى الأوروبية المعنية بالأساس بمجموعة من القضايا والمصالح.