نجح مؤتمر برلين، الذي عقد في 19 يناير الجاري، في صياغة مجموعة من المبادئ الأساسية التي سيتم استثمارها في بناء تسوية متعددة الأبعاد للأزمة الليبية، وتفعيل عدد من المسارات المتوازية لتحقيق تفاهمات قد تُفضي لاحقًا إلى حل القضايا والإشكاليات العالقة بين طرفي الصراع. وبينما جاءت مُخرجات المؤتمر دون ضوابط نهائية لحل الأزمة؛ إلا أنه قد خَلُص إلى الهدف الأهم الذي عُقد من أجله، حيث انتهى إلى تقييد التدخلات والممارسات الخارجية المتعلقة بدعم طرفي الصراع. وقد أكدت تصريحات “غسان سلامة”، المبعوث الأممي، ما سبق عندما قال إن مؤتمر “برلين حقق ما يُراد منه بإنشاء مظلة دولية تحمي أي اتفاق يصل إليه الليبيون في المستقبل”.
كما توصل المؤتمر لصيغة تضمن التزام الأطراف الدولية بحظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا، وإنهاء نقل المرتزقة من الساحة السورية لدعم صفوف حكومة “السراج” ومن في فلكهم من العناصر التركية التي هددت أنقرة بنقلهم لذات الغرض السابق. ويظهر جليًّا أن مؤتمر برلين ساعد بشكل كبير في حصول البعثة الأممية على تشكيل كل طرف باللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، التي سيتم الدعوة لاجتماعها خلال الأيام القادمة. ويتناول هذا التقرير طبيعة مسارات التسوية القادمة في ليبيا، وأبرز التحديات المُحتمل أن تشهدها الأزمة مع بدء تفعيل هذه المسارات.
مسارات متزامنة
تعتمد الأمم المتحدة مستويين للتعاطي مع الأزمة الليبية، يرتبط الأول بضبط التحركات والتدخلات الدولية بالأزمة وتقليصها إلى الحد الأدنى، مع توفير قاعدة داعمة لإجراءات التسوية القادمة. أما المستوى الثاني فيتمثل في التسليم بأن حل الأزمة لن يستقيم ويخرج بالشكل المستدام والفاعل إلا إذا كان نتاج حوار ليبي-ليبي، أي إن الاتفاق بين الأطراف الداخلية هو المعيار الحاكم لنجاح الترتيبات المستقبلية. وانطلاقًا من هذا الأساس، حدد “سلامة” ثلاثة محاور للتحرك نحو بناء التسوية، وهي: المحور الاقتصادي، والمحور العسكري-الأمني، وأخيرًا المحور السياسي، على أن ترتبط الإجراءات المختلفة في إطار هذه المحاور الثلاثة بشكل متزامن ومتوازٍ.
على الصعيد الاقتصادي، تتبنى الأمم المتحدة توحيد المؤسسات الاقتصادية، وإدارة الموارد الليبية وفقًا لقواعد العدالة والإنصاف بين المكوّنات والمناطق الليبية. ولذلك دعت الأمم المتحدة إلى تشكيل لجنة اقتصادية تضم خبراء اقتصاديين ومسئولين ليبيين، تتولى وضع أسس توحيد الأنشطة الاقتصادية وكيفية توظيف عائدات ليبيا بالشكل الأمثل. وقد عُقد بالعاصمة “تونس” في 7 يناير 2020، اجتماع ضم (19) خبيرًا يمثلون المؤسسات المالية والاقتصادية والقطاعات المختلفة من غرب وشرق ليبيا، تم اختيارهم بحيث يمثلون المصالح من مختلف الأطياف السياسية والجغرافية. وقد أنتج الاجتماع توافقًا حول أهمية توحيد المؤسسات والسياسات المالية الاقتصادية الليبية، كما ناقش المشاركون إنشاء “مجلس اقتصادي ليبي موحد”، وتم تداول بعض الأفكار حول اختصاصاته وسلطاته ومهامه.
على الصعيد العسكري والأمني، مثّل تسليم الجيش الوطني وحكومة “السراج” لقائمة ممثليهم في اللجنة العسكرية المشتركة للبعثة الأممية خطوة هامة لتفعيل هذا المسار، والتي تأتي في أعقاب خطوة إعلان هدنة ووقف العمليات العسكرية. وترغب الأمم المتحدة في التعجيل بالسير بهذا الاتجاه؛ حيث صرّح الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيرتش” بأنه يأمل في أن تنجح اللجنة العسكرية في عقد أول اجتماع لها الثلاثاء الموافق 28 يناير الجاري. وتختص اللجنة العسكرية بعدة مهام شائكة، مثل: تحديد السبل والآليات الميدانية الرامية لتحويل الهدنة إلى وقف حقيقي لإطلاق النار، والوصول إلى صيغة اتفاق دائم لوقف إطلاق النار يتم التوقيع عليه. فضلًا عن تفكيك الميليشيات والتنظيمات المتطرفة ونزع السلاح، وقصره على العناصر الأمنية المنضوية تحت قيادة المؤسسات العسكرية والأمنية الموحدة. بالإضافة إلى رسم إطار يتسق وتنفيذ قرار مجلس الأمن بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا، بالإضافة إلى حصر الوحدات والقوات على الجانبين تمهيدًا لعملية توحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية تحت مظلة حكومة مركزية، وتسريح العناصر المسلحة من القاصرين وضبط المطلوبين بين صفوفهم.
وفيما يتعلق بمسار التحركات السياسية، يتركز هذا الاتجاه في عقد مؤتمر يجمع الفواعل والمؤسسات السياسية؛ لوضع خارطة طريق سياسية تعالج القصور والتراجع الجاري وفقًا لرؤية توافقية بين ممثلي كافة الأطياف الليبية. ووضعت الأمم المتحدة آلية للتمثيل تتضمن مشاركة البرلمان الليبي بـ(13) عضوًا، ومثلهم للمجلس الأعلى للدولة، كما ستختار أيضًا (13) شخصية لتمثيل كافة المناطق والليبيين بالخارج والفئات غير الممثلة بقائمتي المجلسين. وقد أرسل بالفعل مجلس الدولة قائمة بالمشاركين عنه، فيما يدرس مجلس النواب مع البعثة الأممية عدة أمور قبل تحديد موقفه من المشاركة. وتتوقع الأمم المتحدة أن يتم عقد لقاء جنيف بين الأطراف الليبية قبل انتهاء يناير الجاري. ومن أهم الملفات الحاضرة على طاولة جنيف إعادة هيكلة الكيانات السياسية الحالية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية بديلة عن حكومة “السراج”، بالإضافة إلى فصل هيكل المجلس الرئاسي عن الحكومة القادمة.
عقبات منتصف الطريق
تشكل المسارات الثلاثة سابقة الذكر -من منظور شكلي- خطوات مثالية لحل الأزمة الليبية، ومثيلاتها من الأزمات الجارية؛ إلا أن الواقع والخبرة الليبية في التسويات السابقة ونمط الحل الأممي المقترح يُثير جُملة من التحديات والعقبات التي يمكن أن تعصف بتلك التحركات. بعض تلك الإشكاليات يتعلق بموقف قادة الميليشيات والتنظيمات المتطرفة بالغرب الليبي من إنهاء وجودهم، كذلك رفض القوات المسلحة دمج العناصر التكفيرية والميليشياوية بالمؤسسة الأمنية الموحدة، فضلًا عن تمسك العديد من المنتفعين من قادة الميليشيات وجماعات الإسلام السياسي بكيان حكومة الوفاق وبقائه دون مساس، وغيرها من عقبات منتصف الطريق نحو التسوية. ونشير فيما يلي إلى أهم هذه التحديات:
1- تحييد سلاح الاقتصاد: تمارس حكومة “السراج” احتكارًا إداريًّا للعوائد الاقتصادية عبر سيطرتها على مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، وهو ما يُدر عليها ثروات كبرى تسمح لها بأن تستمر في دعم الاحتياجات الأساسية لسكان المدن القابعة تحت سيطرتها، فضلًا عن تحجيم الخدمات الأساسية والسلع البترولية المتدفقة إلى المناطق الشرقية. كما تستثمر حكومة “السراج” حجمًا كبيرًا من الدخل النفطي للاحتفاظ بخدمات الميليشيات المسلحة التابعة لها، ودعمها بالسلاح والعتاد لضمان تكافؤ المواجهة مع الجيش الوطني. بهذا المعنى، فإن تحييد قطاع المال والنفط عن مجريات الصراع وانتزاع ملف إدارتها من أيدي حكومة “السراج” سيؤدي إلى تقويض قدرتها على الالتزام بوعودها تجاه عناصر تلك المجموعات، وهو ما يُعزز من احتمالات تخليهم عنها وفي مقدمتهم المرتزقة القادمون من سوريا والمتقاضون لملايين الدولارات شهريًا.
كما سينعكس تحييد العوامل الاقتصادية للصراع على توفير الخدمات وتحسن الوضع الاقتصادي بمناطق شرق وجنوب ليبيا -التي يسيطر عليها الجيش الوطني- ما يعني فقدان الوفاق لأهم أوراق اللعبة. وقد يجر هذا التحييد قيادات الوفاق إلى ملاحقات قضائية؛ حيث ترغب البعثة الأممية -وفقًا لمقترحها لمؤتمر برلين- في إسناد مهمة المراجعات المالية والاقتصادية لمؤسسات دولية، وضبط الإجراءات المالية التي تمارس بالمؤسسات الليبية، وبالتالي سيتم الكشف عما كانت حكومة “السراج” تمارسه من سلطات اقتصادية وسياسات وأنشطة مالية.
2- إنهاء المظاهر المسلحة وتوحيد المؤسسات الأمنية: تواجه اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) تحديًا كبيرًا يتمثل في الميليشيات القابعة تحت لواء حكومة “السراج” بالغرب، والتي تضم عناصر تكفيرية وأخرى مطلوبة دوليًّا. وقد ارتكبت تلك الميليشيات خلال الفترات السابقة العديد من الجرائم داخل المدن التي سيطرت عليها، وتعلم قياداتها أن هناك ملاحقات قضائية ستجري إذا ما تقرر حلها ونزع سلاحها، لذلك ستمارس تلك المجموعات أقصى الضغوط الممكنة لضمان عدم إدراجها على قوائم الحل، وأن تضمن أن يتم دمجها تحت كيان القوات المسلحة، وهو ما سيرفضه الجيش الوطني، لذلك يُتوقع أن يشهد عمل اللجنة العسكرية شدًّا وجذبًا كبيرين قد يتطوران إلى تعطيل عملها، أو التوصل لاتفاق غير مستقر يقود إلى تجدد المواجهات. كذلك يبرز احتمال خرق الميليشيات المهددة بالحل للهدنة، إذا ما شعرت بتخلي حكومة الغرب عنها، وجر الطرفين للانسحاب من اللجنة ومباشرة العمليات العسكرية.
3- إعادة هيكلة الكيانات السياسية: تعلم الأطراف المشاركة في اجتماع جنيف أن البعثة الأممية تسعى لحلحلة المشهد السياسي المتأزم، وإعادة النظر في الأجسام السياسية المنبثقة عن اتفاق الصخيرات عام 2015؛ إذ أصبحت طرفًا رئيسيًا بالأزمة يقود المواجهات إلى مزيد من التصعيد، ولم يحقق الحد الأدنى من الوفاق عبر نيل ثقة البرلمان مرتين على التوالي. واقترحت البعثة على مؤتمر برلين تعديل هيكل المجلس الرئاسي ليصبح بصيغة (2+1) ليضم رئيس وزراء “جديدًا” ونائبين، وأن يكون اختيار أعضاء المجلس الرئاسي من خلال مجلس النواب الليبي. وتقود تلك المقترحات إلى ذات الإشكاليات التي وقعت من قبل، حيث طالب المجلس الأعلى للدولة بالمشاركة مع النواب في اختيار أعضاء الرئاسي، كذلك فإن خروج “فايز السراج” سيكون أمرًا حتميًّا، وهو ما يمثل خسارة مدوية لمعسكر أنقرة والإسلام السياسي والميليشيات غرب ليبيا.
4- إشكالية التمثيل: برزت عدة انقسامات بين طرفي الصراع حول مسألة التمثيل العادل من وجهة نظرهم، وأبرزها ما عبر عنه عدد من النواب الليبيين بعدم عدالة التمثيل؛ حيث انتقدوا تمثيل النواب بذات العدد الممثل به الأعلى للدولة (13 مبعوثًا) وهي نسبة يرون أنها يجب أن تكون أكبر لصالح النواب الذي يمثل كافة الأطياف الليبية، والذي يضم في صفوفه قطاعًا من النواب المؤيدين لحكومة الوفاق الوطني. كما برز انقسام حول التمثيل داخل صفوف المجلس الأعلى للدولة ذاته؛ حيث عقد قادة الميليشيات المسلحة والسياسيون ورجال الأعمال بمدينة مصراتة اجتماعًا حضره الميليشياوي المطلوب “صلاح بادي”، وقاموا فيه بتزكية “عبدالرحمن السويحلي” الذي يُعتبر رجل أنقرة والدوحة الأول في ليبيا ورئيس الأعلى للدولة السابق ليكون ممثلًا للمدينة في جنيف ضمن قائمة المجلس، بل وطالبوا أن يكون هو رئيس وفد المجلس بالمباحثات. وتجلى الانقسام الميليشياوي في صفوف الأعلى للدولة بعد تلك التزكية، حيث صوت المجلس على إلغاء عضوية “السويحلي” من المجلس، وتمت الموافقة على إسقاط عضويته، وخرجت بيانات التأييد والتنديد بالقرار الذي يُمكن اعتباره بداية الانقسام بين مدينة مصراتة وكتلة الوفاق بالغرب، ويمكن أن يتطور مع تضرر ميليشيات مصراتة من أي اتفاق يبرمه الأعلى للدولة في جنيف.وعلى كل حال، فإن مسارات التسوية الداخلية للأزمة الليبية تستند إلى طموحات البعثة الأممية، وتطلعات الشعب الليبي الرافض لاستمرار حالة الحرب العاصفة بعاصمته وسيطرة العصابات الميليشياوية والمجموعات المتطرفة والوافدين الجدد من المرتزقة الموالين لتركيا على مستقبله. وبعد نجاح مؤتمر برلين في توفير المظلة الدولية لوقف الممارسات السلبية، التي أضرت بالشعب الليبي وثرواته وسلامة بنية الدولة الوطنية الموحدة؛ أصبحت الأزمة الليبية موجهة على الطريق الممتلئ بالعراقيل والعقبات العصيبة، وهو ما يقود لتساؤل مفاده: هل يستمر التقدم بمسارات التسوية الشاملة أم يقود الطرف الميليشياوي -الأكثر استفادة من الوضعية الصراعية الحالية- باتجاه اعتماد الحل العسكري فتنهار الهدنة ونعود إلى ما قبل برلين مجددًا؟