في الظن، وحسب الذاكرة، أن أستاذنا محمد حسنين هيكل كان هو الذي صاغ النقاش أو الشجار القومي حول «التطبيع» في مصر، وفيما بعد في بلاد عربية، على الوجه التالي: أن للحكومات ضروراتها، وللشعوب اختياراتها. جرى الفصل ما بين الحكومات والشعوب بمهارة جراح كلمات ماهر، وكانت من قدرة التركيب ما يجعلها علاجًا لحالة مرضية بدا أنه لا يوجد لها علاج، ولا استعداد للفحص والتمحيص لأنها غفرت للحكومات ذنوبها تحت قاعدة الضرورة، ومنحت للشعوب واجباتها تحت رداء الاختيار، فهل كانت حكوماتنا بالفعل واقعة تحت ضغط الظروف القاهرة لكي توقع معاهدة للسلام مع إسرائيل؟ هل كانت حرب أكتوبر سرابًا لم يحقق تكلفة غالية للدولة العبرية لكى تغير من مواقفها، والتي جعلت الحرب مع شرم الشيخ أفضل من السلام بدونها؟ هل كانت زيارة الرئيس السادات إلى القدس بما خلقته من بيئة تفاوضية مواتية للحقوق المصرية والعربية مغامرة؟ وهل كان تحرير سيناء كلها من الطور إلى طابا، ومن شرم الشيخ إلى رأس العش، حلمًا بلا حقيقة؟ هل ما نقوم به حاليًا من تعمير لسيناء بالطاقة والطرق والأنفاق وتنمية محور قناة السويس رؤى وخيالات؟ هل ما نعرفه جيدًا أن القوات المسلحة المصرية تقع دائمًا الآن ضمن الدول العشر الأولى في العالم من حيث قوة النيران هو محض أرقام؟ إذا كانت تلك حقائق معروفة، فلماذا تهتز القلوب وترتعش العقول عندما يذهب عالِم مصري جليل إلى إسرائيل لكى يحضر احتفالية خاصة بثورة 1919 المصرية، ولماذا عندما يظهر فنان مصري بارز في طليعة الموجة الحالية من القوة الناعمة المصرية في صورة مع إسرائيلي نجد في الموضوع ما هو أكثر من النجاسة وما هو أقرب إلى الخيانة؟ وهل صحيح أن هذه هي اختيارات الشعوب، ممثلة في إدارات نقابات، ليست بالتأكيد أحزابًا سياسية تقدم آراء تخص السياسة الخارجية المصرية، وتواجه ما يهدد الأمن القومي المصري؟ والأهم من ذلك هل هذا منطقي في هذه اللحظة من التاريخ التي نعرفها جيدًا بما تقوم به الدولة المصرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وتقوم به دول عربية لاتباع طريقنا في التعامل مع إسرائيل؟ أليس هذا هو دور مصر الإقليمي في القيادة؟
هل هذه كانت اختيارات الشعب المصري على سبيل المثال عندما جرت المظاهرات في مصانع مصرية للحاق بالمشاركة في «المناطق الصناعية المؤهلة»، التي أطرافها مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تفتح الأبواب لمنطقة تجارة حرة ذات معاملة تفضيلية للبضائع المصرية في السوق الأمريكية الواسعة؟ وهل كان ذلك هو الموقف الشعبي من السائحين الإسرائيليين، الذين كانوا لسنوات يُعدون ضمن المجموعات الأولى في زيارة مصر، وكان منهم عرب فلسطينيون ويهود؟
لن يختلف أحد على أن إسرائيل دولة معتدية، ومحتلة للأراضي الفلسطينية، ولكن «المقاطعة» من عدمها هي سياسة للعقاب والثواب والمساهمة بالفعل في تحرير أرض محتلة، وليست مجرد سير في المسار الخاص بتفاعلات أدوات التواصل الاجتماعي، وهي في الأول والآخر واحدة من أدوات الدول وليس جماعات أهلية ونقابات لها الحق في الرأي، ولكن ليس لها حق سياسي في قرار.
السؤال الذي لابد له من إجابة: لماذا لم نجد مثل هذا الغضب والمقاطعة عند الاحتلال الروسي لسوريا، ولا التركى لسوريا أيضًا، ولا الإيراني لسوريا ثالثًا، ومعها العراق ولبنان واليمن، وفى كل هذه الأحوال التي ضُرب فيها بلد الحرمين الشريفين، ومعه دولة شقيقة أخرى، حيث كنا نميز دائمًا ما بين الدولة وسياساتها والشعوب التى لنا معها علاقات ومصالح؟!
أعترف بأننى لم أسمع أغنية، ولا شاهدت فيلمًا أو مسلسلًا للأستاذ محمد رمضان، فقد توقف استمتاعى الموسيقى على مَن كانوا فى جيلى أو جاءوا بعده بقليل حتى أصل إلى مَن كان من جيل الشباب مثل محمد منير وعمرو دياب. ولكننى أيضًا من الجيل الذى حارب فى أكتوبر، وشاهد شجاعة السلام، ولديه من الثقة بالنفس والقدرة الوطنية لكى يسلم للأجيال التى جاءت بعدنا بأن تكون موسيقاها وسلوكها وعلاقاتها الدولية ضمن الإطار الذى تضعه الدولة المصرية وممثلها الشرعى والوحيد فى التعبير عن الأمة ومصالحها. وسط ما يجرى فى مصر الآن من بناء وتعمير، وما يُقام من علاقات إقليمية ودولية، وما نصبو إليه من دولة قوية وعفِيّة واثقة من نفسها ولا ترهب أمريكيا ولا روسيا ولا إسرائيليا، وما نسعى إليه من مكانة بين الأمم، فإن ما تقوم به جماعة منا من إنكار حق الدولة فى إدارة سياستها الخارجية لا يقدم خدمة وطنية بحال!