من المقرر أن تنطلق حوارات الفصائل والتنظيمات الفلسطينية برعاية مصرية خلال الأيام القليلة المقبلة، وذلك في أعقاب إصدار الرئيس “محمود عباس” المرسوم الرئاسي في الخامس عشر من يناير الماضي بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني على التوالي خلال الأشهر مايو ويوليو وأغسطس من العام الجاري 2021.
سوف يكون من قبيل التكرار أن أتحدث بإسهاب عن أهمية هذه الحوارات في وقت تعاني فيه القضية الفلسطينية من تراجع وصعوبات وتحديات، بحيث أصبحت المخاطر المحيطة بالقضية واضحة للعيان دون مزيد من الشرح والتوضيح. ولعل أهم ما أود التأكيد عليه في هذا المجال نقطة رئيسية مفادها أنه في ظل الانقسام الفلسطيني الداخلي وجمود المفاوضات السياسية وتشدد الحكومات الإسرائيلية فإن أمل إقامة الدولة الفلسطينية يصبح بعيد المنال وصعب التحقيق، بل ويبتعد أكثر فأكثر بمرور الوقت.
وإذا كانت مصر سوف ترعى هذه الحوارات فإنه من المؤكد أن مصر تمتلك كافة المقومات التي تجعلها قادرة على توفير البيئة اللازمة حتى تكون هذه الحوارات مثمرة، وذلك في ضوء الاعتبارات الخمسة التالية:
الاعتبار الأول: أن مصر تمتلك علاقات قوية مع السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس “أبو مازن” وأيضًا مع كافة التنظيمات والفصائل الفلسطينية في الداخل والخارج دون استثناء. وتقف مصر على مسافة واحدة من الجميع. كما أن هذه التنظيمات لديها ثقة كبيرة في مصداقية مصر، وأنها لا تبحث إلا عن مصلحة الشعب الفلسطيني.
الاعتبار الثاني: أن موقف مصر لم ولن يتغير إزاء أسلوب حل القضية الفلسطينية الذي يتمثل في تطبيق مبدأ حل الدولتين الذي يعني إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على حدود 67، وعاصمتها القدس الشرقية، وتعيش في أمن وسلام واستقرار بجوار دولة إسرائيل. ولا شك أن هذا هو موقف مصر الثابت الذي يعبر عنه السيد الرئيس “عبدالفتاح السيسي” بكل قوة ومصداقية في كافة المحافل الإقليمية والدولية.
الاعتبار الثالث: تمتع مصر بخبرة متميزة في التعامل مع القضية الفلسطينية وتطوراتها في مختلف مراحلها، وليس أدل على ذلك من أن الوثيقة الرئيسية لحل مشكلة الانقسام الفلسطيني قد تم إعدادها وإطلاقها في القاهرة، وذلك في الرابع من شهر مايو 2011 بعد جهود مضنية بذلتها مصر على مدار ثلاث سنوات. كما أن مصر هي الدولة المفوضة من جامعة الدول العربية للإشراف على إنهاء هذا الانقسام اللعين.
الاعتبار الرابع: أن مجموعة العمل المصرية التي تشرف على الملف الفلسطيني بقيادتها وأعضائها هي مجموعة وطنية مهنية محترفة متفانية تعمل ليل نهار، وتتمتع بخبرات كبيرة في التعامل مع هذه القضية التي ترتبط ارتباطا وثيقًا بالدائرة المباشرة للأمن القومي المصري.
الاعتبار الخامس: أن مصر تُعد محورًا أساسيًا لأية تحركات جادة في مجال القضية الفلسطينية، بل يمكن اعتبار مصر بمثابة البوصلة الرئيسية في تنشيط هذه القضية والمحافظة على أن تظل دائمًا في دائرة الضوء، كما أن مصر تتمتع بعلاقات متميزة وتنسيق متواصل مع جميع الدول المعنية بالقضية، خاصة المملكة الأردنية وبعض الأطراف الدولية.
وفي ظل قناعتي الكاملة بأن مصر وقيادتها السياسية تمنح القضية الفلسطينية كل هذا الاهتمام، وتعتبرها إحدى أهم الأولويات الرئيسية في سياستها الخارجية؛ فإنني كمواطن مصري ومن قبيل حرصي على هذه القضية أجد أن من حقي أن أوجه الرسائل الأربع التالية إلى التنظيمات والفصائل الفلسطينية في ضوء حواراتها المقبلة في القاهرة:
الرسالة الأولى: أنه يجب على ممثلي هذه التنظيمات والفصائل الفلسطينية أن يعتبروا أنفسهم في مهمة وطنية عليا، وليسوا في مجرد حوارات حزبية أو تنظيمية تبحث عن مكسب قريب، وتضحي بالهدف الأسمى وهو مصلحة الوطن. وأنا على يقين من أن كل من سوف يشارك في هذه الحوارات سيكون -من الناحية الموضوعية والوطنية- ممثلًا لفلسطين كلها وليس ممثلًا لتنظيم بعينه. وفي النهاية يجب ألا تعلو أية خلافات فوق مصلحة الوطن, ويجب أن يكون المفهوم لدى الجميع أن أية تنازلات سيتم تقديمها ستكون تنازلات للوطن وليس لتنظيم معين أو لشخص محدد.
الرسالة الثانية: أن الشعب الفلسطيني كله في الوطن والشتات ينتظر نتائج هذه الحوارات ويعلق عليها آمالًا كبيرة، ومن ثم يجب أن يكون ممثلو هذه التنظيمات على نفس المستوى المأمول من تطلعات شعب صامد يبحث عن أية إنجازات داخلية أو سياسية، كما يجب على المشاركين في الحوارات أن يستعيدوا ثقة شعبهم فيهم، وفي قدرتهم على الخروج بنتائج إيجابية حتى تكون هذه الحوارات مختلفة في مخرجاتها عما سبق.
الرسالة الثالثة: أنه لا بديل عن نجاح هذه الحوارات، ومن ثم فإن أية نتيجة أخرى غير النجاح مرفوضة تمامًا، ولا يصح أن تنتهي دون إنجاز سوف يُحسب للمشاركين في الحوارات، سواء في مجال الاتفاق على القضايا الرئيسية مثل الانتخابات، أو بالنسبة لأية قضايا أخرى قد تبحث حول ترتيب البيت الفلسطيني في الداخل بما في ذلك المصالحة والبرنامج السياسي.
الرسالة الرابعة: ضرورة أن تكون نتائج هذه الحوارات بمثابة رسالة واضحة لإسرائيل والإدارة الأمريكية الديمقراطية الجديدة والمجتمع الدولي بأن الفلسطينيين قادرون على حل مشاكلهم الداخلية، والسير في العملية الديمقراطية حتى نهايتها، وإعادة توحيد شطري الوطن مرة أخرى في مواجهة المخاطر التي تكاد تُنهي أمل الدولة الفلسطينية إذا استمر الوضع الراهن على ما هو عليه.
وفي ضوء ما سبق، فإن فرصة إحداث أي اختراق في القضية الفلسطينية -داخليًا وخارجيًا- لا تزال متاحة رغم كل المشكلات المحيطة بالوضع الفلسطيني؛ إلا أن هذه الفرصة مرتبطة تمامًا بتوافر الإرادة السياسية لدى كافة المشاركين في هذه الحوارات وقياداتهم، وبشرط أن تكون الأجندة الوطنية هي الأجندة الوحيدة التي بحوزتهم، أما غير ذلك فسوف ندور في نفس الحلقة المفرغة التي تنال من مستقبل الشعب الفلسطيني، ولا يستفيد منها سوى المخطط الإسرائيلي الواضح للجميع والذي يتم تنفيذه على مراحل وبصورة معلنة، ويسعى إلى مزيد من التطبيع وتسريع وتيرة الاستيطان وضم أكبر أجزاء ممكنة من الضفة الغربية، بحيث يستحيل مع هذا المخطط -إن تركناه يلتهم الأرض واستسلمنا لدور المراقب- أن نرى دولة فلسطينية مستقلة حاليًا أو مستقبلًا.